فكر

الخطاب النهضوي الفلسفي العربي قراءة أوَّلية

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

شهدت منطقتنا العربية حالةً من اليقظة العربية أو حركة التنوير العربية وهي تعبير عن النهضة العربية التي تجسدت فيها الحالة الفكرية والثقافية والاجتماعية التي انتشرت أساساً في مصر ولبنان، واستمرت في امتدادها لتصل إلى العديد من العواصم العربية كمدينة دمشق، وبغداد، ومراكش، وفاس. كما انتشرت خلال القرن التاسع عشر في بلاد المهجر، حيث وضع العديد من المؤرخين والمفكرين تاريخ بدء النهضة العربية في مستهل القرن التاسع عشر أمثال المؤرخ الإنكليزي من أصل لبناني ألبرت حبيب حوراني Albert Habib Hourani(1334 – 1414 هـ / 1915 – 1993 م) المتخصص في تاريخ العرب والشرق الأوسط. الذي أرَّخ لبدء النهضة العربية عام 1798 بالحملة الفرنسية العسكرية على مصر قام بها الجنرال نابليون بونابرت على الولايات العثمانية في مصر وبلاد الشام (1798-1801م). ومن أبرز مظاهرها انتشار الطباعة، وظهور الصحافة ودُور النشر والتوزيع، والتوسّع في إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات، وإحياء التراث العربي وتحقيقُهُ، ونهوض اللغة العربية من كبوتها التي عرفتها في عصر الانحطاط، وتفاعلُ الأدب العربي الغني مع الآداب الغربية تفاعلاً قوياً وعميقاً أدّى إلى ظهور فنون أدبية جديدة وإبداعات متقدمة لم يكن لها في العربية وجودٌ من قبل، كالأقصوصة والأقصودة والرواية والمسرحية.
تلك النهضة أفضت النهضة إلى إعادة انتشال لغتنا العربية مما تعرضت له من تراجع وتقهقر، وقدّمت أدباً وإبداعاً عربياً معاصراً للمرة الأولى منذ قرون، وعبر العديد من الجمعيات السياسية بعثت النهضة مشاعر الهوية العربية الأصيلة مجدَّداً، كما بحثت في قضايا الهوية لبلادنا العربية المختلفة والمتعدّدة والمطالبة بإصلاح إدارات الدولة العثمانية ثم ظهور فكرة الاستقلال عنها.
الجدير بالذكر أنَّ معظم المفكرين ورجال النهضة العربية قد رفعت شعارات الثورة الفرنسية، بالعدالة والحرية والمساواة، كما تأثَّروا تأثيراً كبيراً بفلاسفة عصر الانوار الأوروبي. كما كانت مرحلة ما بين الحربين العالميتين فترة نهوض فكري وثقافي وسياسي شمل أهم بلداننا العربية، في المشرق والمغرب معا، وتحديدا ًفي بلاد المشرق العربي في بلاد الشام ومصر بشكلٍ خاص، وبعد تبلور البُعد السياسي، في حركات التحرر الوطنية، شملت المشرق والمغرب معاً. وقد ساهم هذا النهوض الفكري والسياسي في بروز مسألة توجه العرب الحضاري والفكري والثقافي والسياسي، في مستقبل العرب المنظور، واستأثرت قضايا الدولة العربية المستقبلية وأصول الحكم فيها، وطبيعة النظام السياسي الجديد ومصادره الأيديولوجية والفكرية، باهتمام أكبر من قبل المفكرين والمثقفين والسياسيين العرب، آنذاك، ولم تحظ القضايا الحضارية والثقافية والفكرية، في تلك الفترة، بالمعالجة الجادّة والمنظمة تنظيماً محكماً إلا من قبل قلّة من المفكرين والمثقفين وجميع المهتمين بالشأن الثقافي والحضاري، كان في طليعتهم الدكتور طه حسين. واستمر البحث في الخصوصية والعالمية، وعلاقتنا نحن العرب المستقبلية بالحداثة الغربية، هذه المسألة حثّت بعض المفكرين والمثقفين العرب على إبراز قيم التراث العربي الغني إبراز قيم الإسلام الإنسانية التي تمكنت بعد أن انبثقت في نطاق حقبة خصية من تاريخنا الحضاري، أن تتجاوز حدودها الحضارية الإنسانية التي نشأت فيها من جهة، وتتخطى حدودها التاريخية من جهة أخرى، ترافق ذلك مع الدعوة إلى توجيه النقد، بجرأة كبيرة، لأفكار هذا التراث ومفاهيمه وقيمه الجامدة التي تخطاه. واقع التطور الإنساني المتطوِّر، وكرّسها تقادم الزمن فتحوَّلت إلى عقبات وحواجز فعلية للتقدم والحداثة.

كما برزت في ستينيات القرن الماضي المسألة الاجتماعية إلى طليعة اهتمامات المفكرين والمثقفين العرب خاصةًّ بعد النجاحات العلمية والاقتصادية والسياسية الكبيرة التي حقَّقها الاتحاد السوفييتي السابق، واتساع نفوذ الأيديولوجية الماركسية في بلداننا العربية. ففي هذه المرحلة تكونت قوى التقدم الاجتماعي ومثقفيها، في العديد من البلدان العربية، حيث دعت بقوة إلى معالجة مسألة التقدم الاجتماعي. والبحث في مسألة الحداثة. من خلال الأيديولوجيا الاشتراكية من جهة التطور الحضاري أو الحداثة من جهةٍ أخرى، وإيجاد طريقة أو صيغة نظرية مناسبة لهذه المعادلة الجديدة ، وهي القضية التي عمل عليها العديد من المفكرين والمثقفين العرب المؤمنون بالأيديولوجيا الاشتراكية، فعملوا على إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي من خلال إعادة تأويل نصوصه وأفكاره ومفاهيمه تأويلاً يتوافق مع توجهاتهم الاشتراكية والتي تم إطلاق عليها صفة (التقدمية) ولم يجدوا في ذلك أي صعوبةٍ كبيرة في قراءة الأفكار والمفاهيم والآراء الديموقراطية والاشتراكية ذات الأصول الأوروبية في ثنايا نصوص التراث وفي استخراجها منه، وبموازاة هذا التوجه الفكري والثقافي والمعرفي والأيديولوجي كان تيار فكري أخر له خصوصية أخرى ، ذو منطلق فكري وعقيدة أيديولوجية ليبرالية فلسفية تتسم بالعقلانية، وهكذا فقد سعى المفكرين العرب للتواصل مع التقاليد الفكرية والثقافية والمعرفية التي بدأت معالمها ترتسم منذ القرن التاسع عشر، وأهم ما يميز هذا التيار الفكري عن غيره من التيارات هو إبراز قيم التقدم والحضاري وقيم الحداثة الليبرالية والتنوير)، وفصله عن المسألة الاجتماعية، فكان مفهوم ” الحداثة ” أو المعاصرة مختصر العقائد الفكرية والأيديولوجية. في تلك المرحلة كان المفكر والمؤرخ والروائي المغربي عبد الله العروي (1933، أزمور -)، الذي يُعتبر من المفكرين الذين اتخذوا التاريخانية الجديدة فلسفةً ومذهباً ومنهجاً للتحليل. والفيلسوف والكاتب الأكاديمي وأستاذ الفلسفة المصري زكي نجيب محمود (1 شباط 1905م ـ 8 أيلول 1993م)، قد امتازا بالخطاب الفلسفي إضافةً إلى خطاب عميد الأدب العربي طه حسين الليبرالي الحداثي.
ومن البديهي القول إنّ هذه الشخصيات الفكرية والثقافية لا تستغرق كل أطروحات وقضايا وتفاصيل خطاب الحداثة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، ولكنها قدّمت صورة موضوعية لهذا النوع من الخطاب
فقد قدَّم الخطاب الحداثي العربي المعاصر، الفيلسوف العربي الحداثي الجزائري محمد أركون الذي آمن بما وراء الحداثة، لكنّه شعر بالإحباط واليأس من نظرة الأوربيين إليه كمسلم. والمفكر والفيلسوف السوري أنطون مقدسي (1914 ـ 2005م). والمؤرِّخ والمفكر الإسلامي التونسي هشام جعيط (6 كانون الثاني 1935 – 1 حزيران 2021) والمفكر التونسي عبد المجيد الشرفي المتخصص في الفكر والحضارة الإسلامية.
في حقيقة الأمر كان المشهد الثقافي والفكري العربي قد احتل مكانة كبيرة في فترة النهضة العربية واستمرارها إلى يومنا الحاضر، فقد ساهم في تأسيس عملية النهضة الفلسفية. حيث تحوَّل العديد من المفكرين مع بداية نشأة الفكر القومي العربي للبحث عن إجابة للعديد من الأسئلة المحيرة التي تفجّرت. بخاصة أنَّ العديد المفكرين الذين نشأوا مع بداية النهضة القومية العربية، ومعاصرة حالتها الذهبية، وشهدوا فيما بعد أفولها وانكماش الهوية العربية الواحدة إلى هويات فرعية صغيرة مناهضة ومعادية بالوحدة العربية وللعروبة، بل مناهضة لوحدة التراب العربي نفسه. لذا فقد سعى هؤلاء المفكرين من خلال رؤيتهم النقدية الرصينة وما يملكونه من عمق فلسفي العمل على تقديم الأنموذج الساطع على عروبة متحررة وحرّة، منحازة للإنسان أولاً وأخيراً. ساعين بين المعاصرة والحداثة لتحقيق الحلم المنشود الهادف لنصرة قضية القومية العربية.
فقد بدأ المفكرون العرب مسارهم الفكري والسياسي بنزعةٍ وجوديةٍ قوميةٍ قريبة من الأفكار التي طرحها حزب البعث في سورية والعراق، وبعد هذه المرحلة الوجودية انتقلوا إلى الحديث عن فلسفة ما بعد الحداثة، وأصبح من روادها وناشريها في الثقافة العربية الكثير الكثير، مما دفع بعض المفكرين إلى تأسيس مركز الإنماء القومي والانتساب لحزب البعث العربي الاشتراكي وكان على رأسهم المفكر الفلسطيني مطاع الصفدي الذي انتقل مع مجموعة من المفكرين إلى بيروت ، حيث بدأت دراساتهم تعالج ما كتبه ويكتبه الفلاسفة المعاصرين ، فكانت لهم العديد من القراءات منها ما كتبه الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر Martin Heidegger)‏ (1976 ـ 1889). والفيلسوف النمساوي البريطاني لودفيغ فتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) (26 نيسان 1889 ـ 29 نيسان 1951) م. حيث هيمنت على كتاباتهم أفكار ومصطلحات الفلاسفة الفرنسيين الجدد، مثل: الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (Michel Foucault)‏ (1926 – 1984)، والفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي جاك دريدا (Jacques Derrida)‏ (1930 – 2004)، والفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (Gilles Deleuze) (18 يناير 1925 – 4 نوفمبر 1995) الذي كتب في الفلسفة والأدب والأفلام والفنون الجميلة.
لقد تمكن المفكرون العرب من تطويع الفلسفة الغربية في كتاباتهم، فأثروا الساحة العربية بالعديد من المؤلفات التي ساهمت مساهمة كبيرة في تشكيل فكر ووجدان أجيال كاملة، فكان نتاج أحد المفكرين العرب الدكتور مطاع الصفدي الذي ألَّف العديد من تلك المؤلفات منها كتاب: إستراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية طبع في بغداد عام ١٩٨٦م، نقد العقل الغربي: الحداثة ما بعد الحداثة صدر عام 1990 في معهد الإنماء. وكتاب- الثورة في التجربة (فلسفة القلق- جيل القدر) (1961) م، وكتاب (ثائر محترف) (1962)، وغيرها من الدراسات في الفلسفة الوجودية والعديد من المقالات في السياسة والفكر والثقافة.
لقد تجلت وصايا عدد كبير من المفكرين النهضويين العرب في المجال الثقافي الذين أكّدوا مراراً على ضرورة تنزيل بعض المفاهيم الثابتة التي تفرض علينا كعرب بوصفها خريطة جيو سياسية فكرية تعمل باستمرار على الفصل ما بين الثقافة الشرقية أو العربية على وجه الدقة والثقافة الغربية، كون الثقافة بشكلٍ عام شيئ متكامل فليس هناك انفصال بين (الأنا) و(الآخر) بقدر حركة وتمايز مشاكلة ومثاقفة بين (الأنا) و (الآخر). لقد سارت النهضة العربية والتغيير في المجتمع العربي ضمن خطين متوازيين هما التجربة العربية التي نعيشها بشكلٍ مباشر، والتجربة العالمية. بخاصة وأنَّ مسألة الحداثة في الخطاب الفلسفي الغربي المعاصر قد احتلت مكاناً محورياً فقد ذهب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس Jürgen Habermas(18 حزيران 1929 دسلدورف -) وهو من أهم علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر . ذهب في كتابه بعنوان: (الخطاب الفلسفي للحداثة) للبحث في موضوعات متعدّدة وبالعمق الذي يعالج فيه مواده الهامة، حيث إنها ظاهرة فلسفية قائمة بذاتها تتوخى الدقة والشمول. وهو يواجه نقدياً التراث الفلسفي الغربي بكل تلاوينه منذ عصر الأنوار حتى يومنا هذا. فقد كان يمتاز بالجرأة كونه واحد من أركان مدرسة فرانكفورت النقدية إلى جانب الفيلسوف وعالم الاجتماع وعالم النفس الألماني تيودور أدورنو (Theodor W. Adorno) الذي اشتهر بنظريته النقدية الاجتماعية، والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر (Max Horkheimer) (1895-1973) وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس. Jürgen Habermas فقد اهتم عدد كبير من الفلاسفة والمفكرين الغربيين بمضوع الحداثة أمثال عالم الاجتماع الفرنسي (هنري لوفيفر Henri Lefebvre) وعالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين (Alain Touraine)‏ ، وعالم الاجتماع الإنكليزي المعاصر أنتوني غيدنز اشتهر لوضعه نظرية الهيكلة (Theory of structuration)‏. والمفكِّر والمنظِّر الأدبي والناقد البريطاني تيرينتس فرانسيس إيغلتون (Terry Eagleton). والسياسي ورجل الدولة الليبيري تشارلز ماكارثر غانكاي تايلور (Charles McArthur Ghankay Taylor)، وجون ماري دوميناك، إلخ. وهو الخطاب الذي تم السعي إلى معالجته في الفكر الفلسفي العربي المعاصر. من هنا فإننا نعتقد أنَّ نزع الصفة الفلسفية عن إنتاج الفلاسفة والمفكرين العرب المعاصر، هو نزع للصفة الفلسفية المنطقية العقلانية عن خطاب الحداثة في هذا الإنتاج الفكري.
في الختام نرى أنَّ التكوين هو أن يكون الإنسان، ليس فقط على مستوى الفكرة بثقلها وعمقها، بل أن يكون مادة للفكرة، يملك القدرة بكامل طاقتها على أن يصبح هو (المفكر به)، وهو (ما ليس المفكر به) في آن واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى