هل تطورت – قومية عربية – ؟!

نبيل عودة | فلسطين

nabiloudeh@gmail.com

ملاحظة: كتبت هذا المقال بناء على نص سابق، بعد حادث مؤسف ومخجل، اذ قام بعض الزعران او المرضى الطائفيين بحرق شجرتي عيد الميلاد، امام كنيستي اللاتين والأرثوذكس، في مدينة سخنين (مناطق فلسطين 48) المعروفة كمدينة متآلفة بين جميع أبنائها، من مختلف الطوائف. الأمر اثار غضب، استهجان وانتقاد أبناء سخنين بكل طوائفهم على الاطلاق، وقاموا كجسم واحد، بإعادة إقامة شجرتي عيد الميلاد وتزيينهما باحتفال جمع كل أبناء سخنين بكل طوائفهم، الشيخ الى جانب الخوري، والمسلم الى جانب المسيحي بتأكيد التضامن والتآخي كأبناء شعب واحد يواجه اضطهادا سلطويا لا يميز بين المواطنين العرب.

طبعا المرضى النفسيين من المشوهة عقولهم بالتحريض الطائفي، اختفوا بجحورهم.

وعلية اعدت صياغة هذا المقال بفهم جديد، ورؤية جديدة، وبق الحصوة حتى لو كانت مؤلمة لي أيضا!!

 

ان نشوء وانتشار الفكر القومي برز كفكر سياسي على أثر الثورة الفرنسية (عام 1789)، والتي على اساسها طرحت المبادئ الجوهرية الرئيسية التي تبنتها فيما بعد الأمم المتحدة بإطار مبادئ حقوق الانسان، وهي مبادئ العدالة، الأخوة، المساواة، كشرط لوجود القوميات (وليس الطوائف الدينية)، وذلك بعد 200 عام من طرح الثورة الفرنسية لتلك المبادئ. ويعتبر هذا التاريخ أيضا بداية انطلاقة تشكيل الفكر القومي وتطور المفاهيم القومية، واسقاط مفاهيم الولاء للحكام والكنيسة من المرحلة الاقطاعية، مرحلة القرون الوسطى، وهنا يمكن ان نلاحظ بداية النهضة الاقتصادية والتطور الرأسمالي الصناعي وتشكيل الحدود السياسية للدول بشكل واضح خاصة في أوروبا.

تشكل القوميات بمفهومها الجغرافي والاقتصادي عمق تشكيل الدول القومية على حساب الهوية الدينية للقرون الوسطى في أوروبا. لم تتضح الهوية القومية بقوتها في أوروبا في القرن الثامن عشر، فلم يكن عند الأوروبيين الموجودين تحت سلطة النظم الملكية-الدينية فهما للهوية القومية، كعامل اجتماعي، اقتصادي ووطني يتجاوز المفاهيم الدينية التي سادت تحت سيادة وسيطرة حكام مدعومين (ومرضي عنهم) من الباباوات في الفاتيكان. بجانب أنه لم تكن هناك هوية جامعة، وما كان لها ان تنشأ بظروف كون المنتجين عبيدا للأرض، داخل اقطاعيات مغلقة.

كانت السيطرة لنظام الملك أو الأمير والنبلاء والإقطاعيين، بما فيها اقطاعية الفاتيكان، والآخرون (الفلاحين) هم عبيد مقموعين، عمال بالأرض بحصص تكفي بصعوبة لتجديد قوة عملهم. وكان معظم انتاج الأرض يذهب للإقطاعيين والأنظمة الملكية. وهنا نلاحظ بداية انطلاق المهن وبداية نشوء طبقة العمال في الورشات الصناعية، لكنهم عمال بدون ثقافة مهنية او ثقافة عامة، ووضعهم الاقتصادي لم يكن أفضل أو أكثر وعيا من الفئات الفلاحية داخل الاقطاعيات.

الظاهرة الوطنية في اوروبا هي نتاج تطور اقتصاد مشترك في إطار جغرافي محدد. ماركس أكد ذلك وكان مصيبا، الفرنسي أصبح متعصبا لفرنسا، الألماني لألمانيا، الانكليزي لإنكلترا ودواليك. لكن ماركس ذهب بعيدا بموضوع التحالف الطبقي العمالي العالمي الذي لم تثبت صحته، وصاغ نظريته عن الحتمية التاريخية، حول الصراع الطبقي بين طبقة البروليتاريا والبرجوازية والذي سيقود للثورة البروليتارية وهزيمة البرجوازية واستلام البروليتارية السلطة وبناء النظام الاشتراكي. نظريته لم تصمد بامتحان التاريخ. وفكر الصراع الطبقي تجاوزته البشرية منذ أواسط القرن العشرين، ولا بد من صياغة جديدة تتعامل مع المعطيات الاجتماعية والسياسية المتغيرة، وملاحظة هامة ان البروليتاريا كانت ظاهرة أوروبية لم تنشا خارج أوروبا، ونشوئها له أسبابه الأوروبية التي رافقت التطور الصناعي والتحول الى مجتمعات بدأت تحتل فيه الصناعة مساحات أوسع من الإنتاج الزراعي/ الاقطاعي. ان وصف العمال المعاصرين بالبروليتاريا هو مهزلة. تعبير بروليتاريا جاء من الإمبراطورية الرومانية القديمة كصفة للمعفيين من الضريبة بسبب فقرهم. واستعمل ببداية تطور الرأسمالية التي جندت فلاحين معدمين في مشاغلها. بدون وعي طبقي وبدون ثقافة وبدون مهنية.

ان من يكرر شعار “يا عمال العالم اتحدوا” يعيش عقليا بالقرن التاسع عشر. ولم يستوعب بعد ان الطبقة العاملة (البروليتاريا حسب التعبير الماركسي) اصبحت جزءا من مجتمع مدني أكثر اتساعا من الظاهرة الطبقية الضيقة او حتى من الحدود القومية التي سادت اوروبا حتى أواسط النصف الثاني من القرن العشرين. عمال اليوم أصبحوا تكنوقراطيين ومشغلي تكنولوجيا صناعية متطورة، وفئات بمستوى تعليمي علمي وتكنولوجي وقانوني راق جدا، يضاهي الفئات الاجتماعية الرأسمالية ويتجاوزها.

المفاهيم الطبقية تتلاشي وتختفي في المجتمعات المتطورة اقتصاديا. والحدود تتهاوى امام نشوء مجتمع مدني يشمل المواطنين على قاعدة أكثر اتساعا من الحدود الطبقية الضيقة. لدرجة بات من الصعب وصف فئات عمالية بأسلوب عملها بطبقة عاملة، لأن مداخيلها مرتفعة جدا وتوفر حياة ثرية جدا. وهذه ظاهرة تتسع في الصناعة التي ارتبطت بتطور العلوم والتقنيات، ومع تعمق التطور الرأسمالي فرض التطور احتياجات لعمال مهنيين وتقنيين واداريين فاتسع التعليم العلمي والتقني حيث لم يعد العامل مجرد أداة وعضلات، بل عامل مهني او مهندس او باحث يتعامل مع اعقد الأجهزة التكنولوجية ويطور وسائل انتاج أرقى ومردودها الربحي أضخم. وارتفع مستوى التعليم وباتت فئات عمالية تدير شؤون الدول اقتصاديا وعلميا، ونظام الحكم في العالم الرأسمالي لم يعد “اقتصاد وسلطة”، كما كان في بداية التطور الرأسمالي، بل أضيفت له مع تعمق التطور والتعليم قوة ثالثة فأصبح: “اقتصاد، سلطة ومجتمع المدني”، والمجتمع المدني يشمل كل الطبقات الاجتماعية وراء رؤية مشتركة ومصالح مشتركة. انتهى عمليا عصر الاقطاع الذي ساد أيضا بداية التطور الرأسمالي. وكل النظريات التي بنيت على أساس تلك المرحلة المتقدمة من نشوء وتطور الطبقة العاملة أصبحت اشبه بكتاب دين انتهى زمنه.

هذا هو الغائب الكبير في المنطقة التي يشملها تعريف العالم العربي. عالم أقرب لبدايات القرن العشرين بتركيبته الاجتماعية والدينية. ووجود اقتصاد وثروة نفطية لم يغير من العلاقات الاجتماعية او يطور طبقة عمالية قادرة على التأثير على أنظمة حكم اقطاعية وعائلية ودينية، اجزم انه لا قومية لها عدا الثرثرة بالانتساب لمصطلح لا يفقهون مصدره ولا تاريخه ولا تحولاته. وأصبح التدين والانغلاق الديني، ولا أقول الدين، تيارا سائدا على حساب أي فهم قومي عام وشامل للمجتمع.

عالمنا العربي يفتقد للمعايير الوطنية، وتسوده روح دينية مغلقة. وتنتشر فتاوى متناقضة وبعضها غير عقلاني. والمسألة الوطنية تكاد تكون شعارا غير ذي تأثير او قيم واضحة المعالم. ولا ارى تطور وطنية عربية ما دامت الدول العربية متخلفة اقتصاديا وغير متحدة لبناء اقتصاد عربي مشترك، بأسلوب اليابان او الصين الشعبية او حتى روسيا الجديدة. واجتماعيا المجتمع العربي (أقول العربي مجازا) منقسم بين اتجاهات دينية بعضها متعصب ومتطرف يلحق الضرر والدمار بالمجتمعات التي يقال عنها “مجتمعات عربية”.

الدين له دور ايجابي مؤثر إذا حث على العلم والتطور الصناعي والتكنولوجي والاعتراف بالحقوق المدنية للمواطنين والمساواة بين الجميع بغض النظر عن التنوعات الدينية والاثنية والجنسية والتعددية الفكرية، وأحيانا مدمر بظاهرة الدواعش، او أي تطرف ايماني ولا أقول ديني.

الم تنص صورة البقرة انه ” لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”؟

اللغة ايضا لا تصنع قومية، هي عامل قد يكون مساعدا لتطوير الترابط القومي. ولكن اللغة لا تخلق قومية ولا انتماء قومي. الاقتصاد هو الزنبرك لنشوء القوميات. وبدأ ظهور القوميات مع تقسيم القارة الأوروبية جغرافيا وبدء تطوير اقتصاد داخل الحدود الجغرافية لكل دولة، وتطوير اللغات الخاصة بعد ان كانت اللاتينية هي اللغة السائدة.

لا ارى اليوم قومية عربية، بل قوميات جزئية غير متواصلة وغير فعالة الا بالشعارات احيانا.

الانسان الجائع يريد رغيف خبز وليس وطنا او لقبا قوميا.

الانسان المتعصب دينيا يكره كل مختلف عن دينه او له رؤية منفتحة وغير متزمتة ومتحرره من المفاهيم الدينية المتناقضة لنفس الدين من أوساط لا رقابة جادة على ما تنشره وتدعو له. والقومية كما جاء بكتب التعليم السعودية: هي مؤامرة استعمارية صهيونية صليبية ضد الاسلام. والمضحك ان هذا الفكر لم يمنعهم من التحالف مع الاستعمار (الصليبي طبعا) وصنيعته الصهيونية.

حتى الدول المتطورة اقتصاديا، اي دول النفط، لا يمكن اعتبار اقتصادها اقتصاد انتاجي صناعي. بل انتاج يرعي. نفط تبزقه الأرض ويجري بيعه وهذا ليس اقتصادا صناعيا. والأهم ان مدخولاته تذهب لجيوب السلاطين والأمراء والملوك وكل الفاسدين في جهاز الدولة الفاسد والمتخلف. ولا يجري استغلاله لبناء اقتصاد صناعي وعلمي وتكنولوجي. بناء ناطحات سحاب وشوارع وقصور لن يطور قومية.

بناء الأبنية الشاهقة لا يعني انه يتطور اقتصاد، بل تصرف اموال طائلة ولا اعرف ماذا سيفعلون بهذه الأبنية حين ينتهي عصر النفط / دولة الامارات نموذجا!!

من هنا ما يجري بين اسرائيل والدول العربية، مصر سابقا ثم الأردن واليوم الامارات العربية والبحرين والمغرب والسودان والمخفي أعظم، هو نتاج غياب فكر قومي، وهو فكر لن ينشأ بالإعلام والدعايات بل بالبناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للإنسان أيضا، فأين نحن من ذلك؟

ان تطوير العلوم وتطوير التكنولوجيات للصناعة والزراعة، وتطوير الابحاث التي تخدم الاحتياجات الملحة للدولة هي الطريق لنشوء دول عربية لها وعيها لقضاياها القومية، وليس مجرد دول تبحث عن حماية المستعمر وحلفائه في المنطقة، هذه مغامرة لها ثمنها عاجلا ام آجلا.

نحن امام ظاهرة انتحارية لعالم يسمى عربيا زورا ولا شيء عربي فيه الا الثرثرة اللسانية والمظاهر التي قرفنا منها لأمراء وسلاطين يمارسون الحكم المطلق والقمع المطلق، ولا يترددون بقتل من يعارضهم حتى خارج بلدانهم، كما جرى مع الخاشوقجي.

ان اغراق الجماهير بالدين ليس تدينا وليس ورعا، بل لشل التفكير وشل العقل وشل ارادة التغيير!!

يؤسفني ان أقول انه في الظروف السائدة فيما يسمى العالم العربي لا أرى فرصا للتغيير وإذا حدث سيبدل فاسدين جدد بدل الفاسدين السابقين.

حقا نجح عبد الناصر بتحريك الحلم العربي. لكنه بقي بإطار الحلم ولم يتطور كأداة لها قاعدة اقتصادية لا يمكن اسقاطها.

واليوم تحدث ردة أكثر خطورة. يحدث استسلام أطراف عربية يغطون على نهجهم بتهريج وتحريض ضد الضحية الفلسطيني في المناطق المحتلة او في معسكرات التشريد التي يحافظ عليها العالم العربي كأنها تحف فنية، وهناك رفض لإعطاء اللاجئين أي حقوق مواطنة تستحق الاحترام، او تحررهم من التركيز المهين بمخيمات فقيرة ومكتظة بالسكان وتفتقد لأسباب النشاط الاقتصادي والدخل، ومعزولة عن محيطها العربي أيضا. مخيمات أشبه بحظائر الدواب!!

من هنا رؤيتي ان ما يسود مجتمعاتنا، هو الفكر الإيماني المناقض لجوهر الدين أحيانا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى