قصيدة القناع .. المفهوم والمصطلح – روّاد الشّعر الحُر _

أ. د. رعد أحمد الزبيدي – كلية الآداب – الجامعة المستنصرية

  القناع هو أسلوب شعري استلهمه الشاعر المعاصر من خلال تجربته وثقافته في التاريخ والمعرفة والأسطورة، وشكّل من خلاله تلاقياً مع جمهوره في المشاركة، وقد اعاد صياغة التعبير في التجربة الشعرية بشكل جديد .

   والقناع في التعريف اللغوي هو الغطاء الذي يخفي الأشياء ، أو ما يوضع فوق الشيء أو امامه ليستره ويواريه، كما في الحديث _ أتاه رجل مقنع بالحديد_ أي المتغطي بالسِّلاح، وقد اتخذه الإنسان القديم في طقوس عبادته الدينية ورقصاته الفولوكلورية على أنه شكلٌ من أشكال التنكر ؛ ليبثَّ روح الآلهة في حركاتهِ وحياته في مواجهة الطبيعة التي شكّلت تحدياً كبيراً له آنذاك .

لقد استثمر الممثل المسرحي هذه الخاصية منذ القدم، وحاول الأقتراب من شخصية قناعهِ بشكل كبير، لأنّ هذا التشابه والتطابق بين الممثل والشخصية يكون مقدار النجاح للممثل على خشبة المسرح، لذا اصبح الممثل المسرحي كما يقول خلدون الشمعة: (المُمَثِّلُ  هو المُمَثَّلُ) .

     لقد أنتقل أسلوب القناع في المسرحيات المقنَّعة من المسرح الى مجال الشعر ، فأخذ الشاعر المعاصر يستثمر هذا الأسلوب بشكل يتناسب في تعميق التجربة المعاصرة التي عاشها الشعراء العرب في منتصف القرن العشرين ، ومازال القناع أسلوباً موّاراً يلازم الشعراء بتنويعات متعددة ومتباينة فيما بينهم .

    إن القناع من الأنجازات المهمة للشاعر المعاصر لا على صعيد التقنية والبناء وإنما على صعيد الرؤية والوعي للواقع الذي يعيشه ، والقناع أسلوب يستطيع الشاعر من خلاله أن يمنح تجربته الذاتية بُعداً موضوعياً من خلال المشاركة مع الأسطوري والديني والتاريخي من الرموز والشخصيات التي اكتنزت شيئاً من القداسةِ والأحترام في التراث الإنساني، وكذلك يمنح القناع المرونةَ للشاعر في أختيار رموزه المناسبة لتجربته المعاصرة .

لقد استثمر الشاعر المعاصر خاصية الحضور العالمي لتلك الرموز التي اكتسبت هذا الانتشار الإنساني الكبير ةغدت لغةً إنسانية واحدةً .

خصلاتُ شَعركِ لم يَصُنها سندباد من الدّمار

شَربتْ أجاجَ الماءِ حتّى شابَ اشقرُها وغار

ورسائلُ الحبِّ الكثار

ميتلة بالماءِ منطمسٌ بها ألقُ الوعودْ

استثمر بدر شاكر السَّياب رمز السّندباد في قصيدته (رحل النهار) ليضيف هذه النبرة الموضوعية ، ويختفي خلف رمزهِ ويقول ما يريد دون أن يظهر للمتلقي بشكل مباشر ، وهو ما يحقق توازناً للقصيدة بين الموضوعي للرمز الأسطوري والنبرة الذاتية للشاعر المعاصر ، ومن خلال هذين البعدين تكتسب قصيدة القناع هذا التأثير القوي في المتلقي؛ لأنها تمنحه خاصية المشاركة في تجربة القصيدة ومناخها الفكري والوجداني، إذ الرمز الشعري يلتقي مع المتلقي مثلما يلتقي مع الشاعر فهو مساحة للجميع ، لذا يكون المتلقي طرفاً صانعاً في التجربة الشعرية من خلال فهمه وعلاقته مع هذه الرموز التي تكون مُلكاً للإرث الإنساني ، وهو ما تحرك عليه الشعراء الرّواد في اختيار أقنعتهم .

لقد نجح خليل حاوي في قصيدته (السندباد في رحلته الثامنة) حينما اضاف ملمحاً جديداً لقناع قصيدته في رحلةٍ ثامنةٍ لم تكن معروفة للرمز فيما سبق فقد عُرف عن السندباد رحلاته السبع ولكن خليل حاوي اضاف له رحلةً ثامنةً ، وهذا ما نسميه بعصرنة الشخصية التي تكون قادرة على التماهي مع التجربة الحديثة، حيث أضاف حاوي رحلةً ثامنةً داخليةً في معالم النفس وارهاصاتها الوجدانية .

مبحرٌ ماتتْ بعينيه منارات الطريقْ

مات ذاك الضوءُ في عينيه مات

لا البطولاتُ تنجيه ولا ذلُّ الصلاة .

وهنا نستذكر ما قصده الشاعر عبد الوهاب البياتي حين تحدث عن البطل النموذجي في كل العصور ، والذي جاء بعد رحلةٍ طويلةٍ من البحث والتحولات في تجربته عبر دواوينه الشعرية الكثيرة ، لقد كان القناع عند البياتي هو الأسلوب الجديد الذي اكتشف تعبيره المناسب فيه ، والذي حقق له كما يقول :(المتناهي واللامتناهي)، أي الذي يتجدد من جديد مع كلِّ قراءةٍ، فالرمز والشاعر والمتلقي جميعهم قادرون على استيعاب الجديد من الموضوعات في الشخصية المتجددة اللامتناهية والمتجاوزة الزمان في ماضيه وحاضره ومستقبله، والذي يولد باستمرار دون أن يتخطاه الزمان .

 

– القناع وقصيدة الشّخصية :

يتحدث عبد الوهاب البياتي في قصيدته (موت المتنبي) عن شخصية المتنبي في وصفها الخارجي، وحكاية الشاعر والمبدع مع السلطة على مرِّ التاريخ .

لتحترق نوافذ المدينه

ولتذبل الحروف والأوراق

ولتأكل الضباعُ هذي الجيف اللعينه

وليحتضر نَسْرُك فوق جبل الرَّماد

فأنتَ بحارٌ بلا سفينه

وأنتَ منفيٌّ بلا مدينة

   لقد تضمنت هذه القصيدة سرداً لحياة المتنبي في عذاباته مع الشلطة الحمدانية وكافور وغيرها من الخلافات التي يمرُّ بها المبدع والمثقف في صراعه مع السياسي المحترف.

  فهي قصيدة لم يستبطها البياتي من الداخل ، وإنما بقى يسلط الضوء عليها من الخارج دون أن يتبنى مواقفها رغم الشّبه بينهما، وقد اشار البياتي الى ذلك في تجربتي الشعرية من ديوانه عن هذه القصيدة قائلاً: هي قصيدة يغلب عليها الأسلوب القصصي لأني لم ألبس فيها قناع المتنبي ، ولكني صوّرت فيها قصة حياته الفاجعة بطريقة درامية وتأثرية، أي أنني لم أتبنَّ فيها مواقف المتنبي ، ولم أتكلم من خلال شخصيته . فهي ليست قصيدة قناع لغياب التبني والتقمص بين الشاعر والشخصية، وقد بقت الشخصية في هذه القصيدة بحدود التاريخ وتفاصيله دون الإضافة أو الجديد مما يشير إلى التجربة المعاصرة، فهي اعادة لاستذكار التاريخ وليس لخلقه بشكل جديد .

– القناع والمنولوج الدرامي  :

لربما يتداخل التشخيص عند البعض بين المنولوج الدرامي وقصيدة القناع . إذ أن الشاعر يصيغ في المنولوج شخصيةً متخيلةً قد توحي له بقضيةٍ ما أو تعبّر عن أزمةٍ ما ، كما نسمع في قصيدة البياتي (مذكرات رجل مجهول) :

أنا عامل أدعى سعيد

من الجنوب

أبويّ ماتا في طريقهما الى قبر الحسين

ولم يزل عُمري آنذاك سنتين

ما أقسى الحياة

والموت في الريف العراقي الحزين

وكان جِدي آنذاك

كالكوكب الخاوي على قيد الحياة .

  هذه الشخصية المتخيلة في قد تكون رمزاً للإنسان الفقير والكادح ، الذي يعاني شظف العيش ومرارة الفقر، والحاجة التي تضعه في مواقف حزينة لا يعرفها غير الفقير الكادح.

   هذه الشخصية تفتقد الى التجذر التاريخي في كونها شخصية خياليةً وإن كانت من حيث الموضوع والمشهد معروفة لدى المتلقي، لذا لايكون المتلقي مشاركاً فيها وإنما متلقياً إليها كما يحلو للشاعر أن يرسمها وبحدوده فقط ، أي ليس المتلقي جزءاً من حكايتها ونموها.

وكذلك سيكون صوت شخصية المونولوج رتيباً ثابتأ على مستوى القصيدة، وكأنه هو صوت الشاعر السَّارد دون أن يكون هناك صوتان متبادلان الحضور فيما بينهما كما نرى ذلك في شخصية القناع عندما نستمع الى صوت ينتمي بين الشاعر مرةً وأخرى الى الرمز . 

  في المنولوج الدرامي تبتعد التقنية خطوتين عن خصائص قصيدة القناع، وهما:

أولا- غياب مشاركة المتلقي لغياب أو انقطاع العلاقة بين الشخصية المتخيلة والمتلقي.

ثانياً- غياب صوت الشخصية فتكون صامتة مستسلمة لخيال الشاعر بعيدةً عن التفصيل التاريخي الذي يحتاجه المتلقي للمشاركة .

القناع والمرآة :

لقد أشار د. إحسان عباس شيئاً من المقارنة بين القناع والمرآة قائلاً : والمرآة أوسع مجالاً من القناع لأنها تصلح أن ترفع للماضي كما تصلح أن ترفع في وجه الحاضر .. بينما لا يصلح القناع إلاّ للماضي .

ويبدو بأن القناع غير معني بالمجال الوسع في الماضي او الحاضر بقدر ما معني يقضية استبطان الرمز والتقمص معه في اوجه اللقاء في الموضوع والقضية.

فغياب التقمص أو التوحد يعني غياب القناع وفعاليته في التجربة الشعرية، وهذه خاصية القناع الفنية التي تميزه عن بقية المصطلحات والتقنيات الشعرية الأخرى. في حين لا تشترط المرآة وجود التبني والتقمص في عملها ، وشتان ما بين استبطان الشخصية من الداخل أو وصفها من الخارج دون تلبس أو توحد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى