مكبث ومخاطر الترجمة الأدبية

أ.د. صلاح نيازي | ناقد ومترجم وأكاديمي

 منذ فترة وأنا أعدّ العدة، لكتابة مقالة عن مخاطر ترجمة مكبث ترجمة أدبية، وما فرقها عن الترجمة المعنية بالتقنية. فما أن وقعت في يدي ترجمة محمد عناني لهذه المسرحية، حتى وجدتها فرصة، أوّلاً لسمعته الواسعة في الترجمة ولا سيّما شيكسبير، وثانياّ لمكانته الأدبية والتربوية.

تميّزت ترجمة عناني بناحيتين: الأولى إنها مترجمة شعراً، والثانية مشروحة شرحاً مفصّلاً.

يقول عناني:”أمّا مذهبي في الترجمة…فأنا أضع الدقّة نصب عيني وتقديم نصّ عربي يطابق الأصل الإنكليزي في المعنى والمبنى”.

أمّا عن الترجمة شعراً، فيقول:”وأعتقد أن البحور الصافية أقرب إلى نصّ شيكسبير، فنادراً ما يلجأ هو إلى بحر مركّب ومرات لجوئه النادرة حاكيتها في الترجمة ولا تخفى على الخبير بالعروض العربي”.

كذا ألزم عناني نفسه بمطمحين جريئيْن، ذلك أن تركيب الجملSyntax  يختلف من لغة إلى أخرى.   أما قرب البحور الصافية إلى النصّ الشيكسبيري، فمسألة فيها نظر.

بالمناسبة سبق أن عالجتُ ترجمة الوزن الشعري، في مقالة بعنوان:”بعض وجوه استحالة الترجمة ” نُشرتْ في كتاب :من تقنيات التأليف والترجمة. جاء في المقال:”تتبع الناقد والشاعر الكندي فيليب ديفس روبرت في كتابه المعنون : How poetry  works :”الأصوات لدى الجنين ودقّات قلب الأمّ، إلى أعقد التراكيب الموسيقية الشعرية لدى أفضل الشعراء، حتى ليشعر القارئ بأنّ من المستحيل ترجمة تلك الإيقاعات إلى لغة أخرى بغض النظر عن قابلية المترجم”.

مكبث من أخطر مسرحيّات شيكسبير لغةً. فهي من ناحية، قصيدة ممسرحة، ومن ناحية ثانية قصيدة 

ليلية شرّيرة. إلى ذلك إنها أكبر دلتا دموية، في تأريخ الأدب. المسرح بركة دم. الممثلون يتبادلون الأدوار.هم الصوت مرّة، وهم الصدى مرّة. الحياة مسرحية. البشر في مسرحية مكبث دمى تحركها قوى غيبية.

لغتها مجازيّة. مرمّزة،.اصطلاحية. وتقنياتها أشبه ما تكون بعمليات مختبرية ، كلّ بمقدار. ما من اعتباط، وما من حبل على الغارب.

ترجمة مكبث، مخاطرة، لاسيّما إذا كانت غفلاً عن لغة شيكسبير الآصطلاحية.  يقيناً، ما من نظرية في 

 الترجمة لأنها اجتهاد فردي، إذا قصدنا بالترجمة الإبداع. فما ينطبق على “ملتون” لا ينطبق على “تشوسر”. كلّ نصّ أصيل يأتي بنظرية جديدة، أيْ انّ نظريةً ترجميةً إن صحت فبالصدفة، فهي  كالملابس الجاهزة، تصلح، ولا تصلح. ولكنْ ربّما “مع الخواطئ سهم صائب”.

من أغرب ما قرأت ما قاله أحد الدارسين العرب بشأن معايير سبعة في الترجمة قررها أكاديمي عربي”إن معاييره قابلة للتطبيق  على كلّ نصّ أدبي مترجم”. كيف؟ هذه لا شكّ كبوة، نبوة، هفوة من نوع نادر.

يكفي، لغرض هذه المقالة، أن ننظر الآن في الفصل الأوّل، لأن فيه كل الثيمات الكبرى في المسرحية، حسب رأي نايتس L C. Knights  (كلّ ثيمة في مسرحية مكبث، مبسوطة في الفصل الأوّل، والمفتاح الموسيقي في المشهد الأوّل سيعود ويتكرر في الألحان الرئيسة في المسرحية وكلّ كلمة فيه تشهد بدقة على ذلك”.  

لنبدأ إذن من المشهد الأوّل- الفصل الأوّل، ثم نتدرج خطوة خطوة، للتمييز بين الترجمة الأدبية، والترجمة المعنية بالتقنية.

يبدأ المشهد، أوّلاً، برعد وبرق. المشهد إذن يبدأ بالطقس. لهذه البديهة أهمية ذات دلالة، كأهمية الآستدلال على عنوان بيت من رقمه في حارة مزدحمة. ثمّ تدخل الساحرات الثلاث.

تقول الساحرة الأولى: 

“متى نلتقي ثانية نحن الثلاث

 في الرعد، أم في البرق، أم في المطر؟

When shall we three meet again?

In thunder, lightning, or in rain?

هذه لغة مجازية، تشير إلى مواقيت ثلاثة. أيْ هل نلتقي في بداية المعركة ، أيْ قعقعة السيوف، أم في وسطها حين تجرّد فتلمع، أم في نهايتها، حينما ينسفح الدم.

تقول الساحرة الثانية:

“حين تضع الحرب أوزارها

حين تُخسر المعركة وتُربح”

When the hurlyburly’s done,

When the battle’s lost and won.

وقبل أن يتفرّقْنَ، يقلنَ بصوت واحد:

“الصاحي غائم، والغائم صاحٍ”

في هذا المشهد الصغير، إنما استنبت شيكسبير ثلاثة بذور أساسية، وهي:1- الرقم ثلاثة، 2-الصدى 3- الطقس.

هذه مفاتيح ناجعة، لفهم كثير من الألاغيز والمعاظلات الغامضة في هذه المسرحية.

سنحرص على متابعة تطوّر هذه الثيمات الثلاث، لأن بإغفالها، تعسر الترجمة  لحدّ التشوّش. 

جاءت ترجمة الأستاذ عناني، على الصورة التالية:

الساحرة 1: “متى نلتقي بعد نحن الثلاث؟

                أفي الرعد والبرق أم في المطر؟

الساحرة 2 : “سننظر كي يهدأ الصخب الملتاث

              وينهزم الجيش أو ينتصر”

تقول الساحرات الثلاث في نهاية المشهد:

“ألا إنما الخير شرّ ألا إنما الشر خير

فحلقن وسط الضباب وجو الهواء العكر”

لا ريب هذه ترجمة أدبية خالصة، همّها تبيّن المعنى، لا كيف قيل، وهذا هو الفرق الأساسي بين الترجمة الأدبية والترجمة التي تُعنى بالتقنية. إذا نظرنا إلى التقنيات التي توسلها شيكسبير، في هذا الحوار الصغير، سنرى كيف فقدت الترجمة  العربية دقة التوريات. مثلاً قال عناني في الحاشية رقم 2:”هانمر يصحح” أم ”  or في هذا السطر إلى “و”   and  قائلاً إن الظواهر الجوية الثلاث  متلازمة ويوافقه “كابل” ولكنّ خروج الساحرات عن المنطق مقبول” 

 لا أدري لماذا نقل الأستاذ عناني هذا الكلام  غير العلمي ، هل هي حقّاً، “متلازمة” دائماً؟ لندع علوم الأنواء الجوية، ونقرأ ما كتبه تي. أس. اليوت في مقطوعته المهيبة  :”ماذا قال الرعد” (في الأرض اليباب):

“وليس هناك حتى صمت في الجبال

سوى رعد جافّ عقيم بلا مطر”

تقول الساحرة (2):

 :”سننظر كي يهدأ الصخب الملتاث”  بمعنى أنهن سيقفن منتظرات، وهذا يتعارض مع اتفاقهنّ على الافتراق، ثمّ اللقاء ثانية في المرجة. وقال “سيهدأ” ولكن ما من هدوء، هناك حسم لا بدّ منه للمعركة، ولا أدري من  أين جاءت كلمة :”ملتاث”.

يقول المترجم في الحاشية 2: “الصخب الملتاث في الأصل ومعناها الحرفي هو الضجيج الأهوج والمقصود هو الفتنة الهوجاء أي فتنة التمرد على الملك واختيار الصفة العربية في النص هنا تفرضه القافية العربية”. أين إذن دقة المعنى والمبنى؟

تقول ترجمة عناني أيضاً: “وينهزم الجيش أو ينتصر”. هذا هو المعنى الأدبي، وهو مقبولاً إلى حدٍّ ما. 

المغزى العميق للمصطلح هو الخسارة والربح، لأن صداها سنصادفه على لسان الملك دنكن، في آخر جملة يقولها في نهاية المشهد الثاني:” ما خسره أمير “كودر” ربحه مكبث النبيل”.

أما عبارة “وينهزم الجيش أو ينتصر”، فليس في النص الإنكليزي الجيش ، وإنما المعركة . أكثر من ذلك إن ترجمة واو العطف هنا إلى “أو”، قضى على دقة المعنى، فالمعركة تخسر وتربح في آن واحد، وهي بهذا تمهد للتناقضات التالية مثل الصاحي غائم والغائم صاحٍ.

لو عدنا إلى السطرين الأخيرين في المشهد الأول:” ألا إنّما الخير شر، ألا إنما الشر خير/ فحلقن  وسط الضباب  وجو الهواء العكر”، فلا أدري ما الذي أغرى المترجم على اختيار الخير والشرّ من بين الشروح الأخرى؟ فليس في المشهد خير أو شّر، خاصة بالنسبة إلى الساحرات الثلاث، وإنما كنّ يتحدثن عن الطقس منذ السطر الأوّل في المشهد. الترجمة الأقرب كما يبدو هي:

“الصاحي غائم والغائم صاحٍ”

نجد صدى لهذه الجملة في الفصل الأوّل- المشهد الثالث، حين قال مكبث:” لم أرَ يوماً صاحياً وغائماً كهذا اليوم”.

أما الشطر:”فحلقْنَ وسط الضباب وجو الهواء العكر”، فكنت أتصور من قبل أن العكر إنما هي صفة للماء ، لا للهواء. بالإضافة فإنها إنما أدرجت هنا لأنها تماشي قافية :”ينتصر” في البيت السابق”. أمّا” فحلقن”، فما من أحد يستطيع أن يجزم أن الساحرات الثلاث كنّ مجنحات. ولو كنّ كذلك لما أبحرت الساحرة الأولى من اسكتلندا إلى حلب بمنخل. كان أسهل عليها أن تطير إلى هناك. أكثر من ذلك حين تختفي الساحرات الثلاث أمام عيني مكبث. يقول بانكو:

“للتراب فقّاعات، كما للماء

وهنّ من تلك الفقّاعات.- أين اختفيْنَ؟”

وفي رسالة مكبث إلى الليدي مكبث، في المشهد الخامس، ترد العبارة التالية:”جعلن أنفسهنّ (أي الساحرات)هواء وذبْنَ فيه”.

ماذا لو اخترنا كلمة يحمْن من الفعل حام، بدلاً من حلّقْن؟  فالمعنى القاموسي للفعل حام هو: دار حول الحمى. إنها بلا شك تتداعى إلى الحومة، وهي أشدّ موضع في القتال.

الرقم 3، هو أحد الجذور الأساسية في مسرحية مكبث. إنه الدوائر التي لا تني تدور، ولا تتوقف أو تفتر. العسكري مكبث يعاني لدرجة الانهلاع، من قيامتين: السماوية والأرضية. القيامة الأرضية هي التي قاب قوسين. هي خناقه وقلقه. 

ثمة نهر ديني عميق، يجري في تضاريس المسرحيّة. الرقم 3 نهر عميق. إنه عقيدة الثالوث: “الأب والآبن والروح القدس”. تلك أقانيم الإله الثلاث.

المترجم الذي لا يفطن، لما لهذا الرقم من أهمية يقع في مطبّات مشينة. يقول لزلي أ. فيدلر:”الرقم3 هو التعويذة السحرية، لأن المرأة صُوِّرتْ من البداية على أنها ثالوث بالنسبة للرجل: أوّلاً حبلت به، ثانياً احتضنته بالحب، وأخيراً كفنته حينما مات”.

على هذا شطّت مثلاً ترجمة جبرا، وهو كثير الربذات والسقطات، حينما ترجم الشطرين الأوّليْن، بالصورة التالية:

“متى نلتقي ثانية نحن الثلاث”

في رعود وبروق وأمطار كاللهاث”

كذا جمع المترجم الرعد والبرق والمطر، ثمّ ترجم “أو” إلى الواو العاطفة، وبذلك قضى على مواقيتها الثلاثة المنفصلة.

الأكثر إيذاء، أن المترجم أضاف من عنديّاته “كاللهاث”. وهكذا كما يقول المثل العراقي:”أراد أن يكحلها”.

لنعد إلى ما قاله الأستاذ عناني ثانية:”فحلقْنَ وسط الضباب  وجوّ الهواء العكر” . يبدو أن كلمة ” “جو”  حشو اقتضته ضرورة الوزن الشعري. الحشو في ترجمة مكبث خاصّة، معيب  كالسنّ الاصطناعية، ليست جزءاً من طقم الأسنان، وثانياً لأن شخصيات مكبث توجز الكلام Laconics

  ولا وقت لها حتى “لاستظهار أدوارها”. زبدة القول لغة مكبث، سريعة الزفير، سريعة الشهيق. 

لكن لننظرفي عبارة  Foul air التي ترجمها عناني : الهواء العكر. قد يكون من المفيد تأمّل هذه الكلمة

فهي تعني : الفاسد، العفن، الملوّث، الموبوء. قد يختار المترجم أيّاً من تلك المعاني، حسب مقتضى الحال، ولكن حين تكون الترجمة اصطلاحية، فلا بدّ  له من تحديد الكلمة فنيّاً. وفي هذه الحالة قد تكون “الموبوء” أقرب إلى النص، نظراً لاهتمام المسرحية بالطب والأمرض النفسية والجسدية والعلاج

 كما في الحوار الذي دار بين مكبث والطبيب، في الفصل الخامس- المشهد الثالث، بالإضافة إلى تأثر  

شيكسبير بالطبيب والخيميائي الألماني Paracelsus الذي شاعت كتاباته  ومعتقداته حتى بين العامة في العصر الإليزابيثي.

حينما تختفي الساحرات الثلاث، يبدأ المشهد الثاني. هنا يظهر الملك وابناه ومرافقوه، وهم في أشدّ قلق وترّقّب. المعركة حاسمة ومصيريّة. اللغة في هذا المشهد متأزمة، قصيرة، حادّة، مستوفزة. ما من مطمطة.

يصادف موكب الملك ضابطاً ينزف. الملك أوّل مَنْ يبادر إلى الكلام، ربّما بسبب قلقه من نتائج المعركة:

“أيُّ رجلٍ نازف ذاك؟ يستطيع أن يخبرنا،

كما يبدو من حالته السيّئة، عن آخر

ما يدور في المعركة”.

نفهم من الأبيات أعلاه، ولا سيّما جملة:”عن آخر ما يدور”، أن القتال ما يزال على قدمٍ وساق،  مما يزيد من تحّرق الملك ومرافقيه. أمّا جملة:” أيّ رجل نازف ذاك؟ ، فتنبئ  عن أنه ترك المعركة للتوّ.

لا بدّ من القول إن الضابط وُصف في بداية المشهد بأنه نازف: Bleeding  ولكنه في  تساؤل الملك 

أصبح :الدامي أو المدمّى :Bloody يبدو أن المقصود هو النازف، لسببيْن:أوّلاً لأن الجراح ما زالت  طريّة وراعفة، وثانياً لأنها تتصادى مع ما قاله عن مكبث، في المعركة:

“لأنّ مكبث الشجاع ( وهو جدير بهذه الصفة)

احتقر ربّة الحظ، بسيفه المسلول

الذي ما يزال فيه بخار الدم من فرط ما قتل”. 

جاءت ترجمة عناني على الوجه التالي:

“ما ذاك الرجل المضرّج بالدماء

يا ليته يحكي لنا، من فرط ما يبدو عليه من العياء

أنباء ما آلت إليه الفتنة الهوجاء”

أوّلاً سوّغ الأستاذ عناني جمع بحريْن شعريين  هما بحر الكامل المتهادي  وبحر الرجز السريع النبرات.  ولكن ، لأن الأبيات تسرد وقائع ، بات البحران الشعريان أشبه ما يكونان بالنثر البارد، لأنهما يسردان تأريخاً  ولا يصوران توهج لحظات.

بالإضافة فإنّ عبارة ” المضرّج بالدماء”  تفتقر إلى جريان النزف، فقد يكون جافّاً. وحين قال المترجم “ما آلت إليه”، وكأنّ المعركة انتهت لأن المترجم استعمل الفعل الماضي بدلاً من الفعل الحاضر. وهذا ما يتناقض مع الجملة الأولى التي تفوّه بها الضابط:”لم تُحسمْ بعد”.

قد يكون من المفيد، أن نتعرّف على صورة شعرية وردتْ في تقرير الضابط النازف، وعلى ضوئها نتعرّف على دقة الكلمة والصورة لدى شيكسبير، وكيف تُرجمتا إلى العربية. كان الضابط يتحدث عن المتمرد ماكدونلد، وأتباعه:

The merciless Macdonald

(Worthy to be rebel, for to that

The multiplying villainies of nature

Do swarm upon him)

“إنّ مكدونلد العديم الرحمة

ولا يُرجى منه إلاّ التمرّد الذي بسببه

التمّت عليه حشود كثيرة

من العناصر الخبيثة”

لا يخفى إن الكلمات : آلتمّتْ، وحشود، وعناصر خبيثة، توحي بحشرات تتكوّم على شئ.

يقول برنارد لوت Bernard Lott  إ”نّ كلمتي: Multiplying  و Swarm تشيران إلى غيمة من حشرات تكوّمت معاً في مكان واحد”.

ويقول جي. كي. هنترG.K. Hunter : “التمّت عليه حشود من المتمردين مثل حشرات مؤذية”

إلا  أنّ ترجمة الأستاذ عناني جاءت على الوجه التالي:

“إذْ إنّ المغشم ماكدونلد

ذاك المتمرد من غلبت 

كل شرور الطبع عليه-

أقبل وهو يقود زبانية من كل الألوان”

ما المقصود بشرور الطبع؟ ما من أثر لكل من : التمّتْ، وحشود، وعناصر خبيثة. بالإضافة فإن الترجمة فضّلت المغشم مكدونلد على عديم الرحمة.  بالمناسبة  إن معنى المغشم في المعجم هو:”الجرئ الماضي الذي لا يثنيه شئ عما يريد”.  وهذا المعنى بعيد عن تعبير شيكسبير Merciless.

أما ترجمة جبرا إبراهيم جبرا فتحتاج إلى قارئ فنجان ليفكّ ألاغيزها:

“والجائر مكدونلد

ما أجدره بالتمرد، إذ لتلك الغاية

راحت نذالات الطبيعة المتكاثرة

تنغلّ عليه؟”

في النصّ الإنكليزي ورد مصطلح .Nature  غاب عن جبرا معنى هذا المصطلح فترجمه :”الطبيعة”، هنا وحيثما ورد في المسرحية. هذا المصطلح لا يعني عند شيكسبير في مسرحية مكبث إلا : الجسم الحيّ أو الحياة.

أمّا ” تنغلّ عليه” فتعبير جديد عليّ، والمقطع كلّه يدخل في باب حاطب ليل.

ثمة صورة فنية طريفة رسمها شيكسبير، ولكنّ ترجمتها باءت فشلاً كما يبدو. تتلخص الصورة في أن الساحرة الأولى رأت زوجة ملّاح جالسة تأكل الكستناء. طلبت منها بعضاً ممّا تأكل فنهرتها الزوجة. عندئذ قررت الساحرة الذهاب إلى سفينة زوجها بحلب لتقتصّ منه. روت الساحرة هذه الحادثة كالتالي:

“زوجة بحّار وفي حضنها كستناء

وتمطّق وتمطّق وتمطّق: أعطيني

قلت لها:-

“أغربي عني يا ساحرة!” عاطت المرأة السمينة القذرة

ذهب زوجها ربّان سفينة النمر إلى حلب:

لكنْ سأبحر إليه بمنخل

وكفأرة بلا ذنَب

وسأفعل وسأفعل وسأفعل”

من تقنيات شيكبير في المقطع أعلاه  أن الكستناء كان في حضن المرأة  يدلّ على وفرته لديها. أما طريقة أكلها فغريبة، إذ استعمل النصّ كلمة Munch ومعناها في قاموس اوكسفورد  أكل الطعام مع حركات كثيرة في الفكين مثلما تفعل الماشية في العلف وعادة في متعة واضحة”. يبدو أن أقرب فعل لهذه الكلمة الإنكليزية، هو يمطّق الذي نتداوله بالعراق وهو فصيح ، ومعناه القاموسي:” استطابة طعم الشئ, وتطعّم الطعام تذوّقه”، وجاء في قاموس لسان العرب: مطق :التمطّق : التذوّق والتصويت باللسان والغار الأعلى…وقيل هو إلصاق اللسان بالغار الأعلى فيسمع له صوت، وذلك عند استطابة الشئ”.

من مزايا المقطع أعلاه أن النص الإنكليزي أعاد الفعل يمطّق  ثلاث مرّات، أولاً لإثارة شهية الساحرة، وثانيا للتوكيد على تعويذة الرقم ثلاثة الذي أشرنا إليه أعلاه، وثالثاً يدلّ على الاجترار الذي تتميّز به الماشية.

في المقطع أعلاه أيضاً شيئان مستحيلان هما الإبحار بمنخل، وفأرة بلا ذنَب، لأنها لا تستطيع التوازن في السباحة. مع ذلك فالساحرة مصممة على الاقتصاص من الزوج الملاّح.

لكن كيف ترجم الاستاذ عناني المقطع أعلاه:

“أبصرت بزوجة ملاح قد وضعت بعض القسطل في حجر الثوب

وانطلقت تأكل وتلوك وتتلمظ

وسألت المرأة أن تمنحني بعضاً منه

وإذا بالعجزاء تصيح وتشتم غوري يا ساحرة…

لكني سأجوز البحر بغربال

وسأفعل فيه فعل الفئران بلا أذيال

وسأفعل وأعيد الكرة تلك الأفعال”

قبل أن ننظر في هذه الترجمة، لا بدّ من الاطلاع على بعض شروح عناني،المتعلقة بهذا المقطع.

قال المترجم في الحاشية رقم 4 “في الأصل تكرار لكلمة Munched  التي تعني في اسكتلندا المضغ على اللثة بعد تساقط الأسنان ولكن معجم OED  يورد المعاني التي أتيت بها في الترجمة، وقد رأيتها أنها أدقّ في نقل الصورة، وأقرب إلى المذاق العربي”

ويقول في الحاشية 5 “العجزاء في الأصل Rump-fed  وقد تعني العبارة إما أنّ المرأة ضخمة العجز أو سمينة، وإما انها تتغذّى على لحم الفخذ البقري، وقد أخذت بالمعنى الأوّل”.

يُستدلّ من الشرحين أعلاه ومن بقية الشروح، إن الأستاذ العناني اطّلع  على تفاسير عدّة، وانتقى منها ما ناسب ذوقه الأدبي، ولكنْ ما فاتت الترجمة هي التقنيات التي توسلها شيكسبير في رسم هذه الصورة الشعرية الدقيقة.

أوّل ما يلاحظ في ترجمة عناني أن بحر الخبب إنما تسبب في بطء الإيقاع ولا سيّما في تعبير :”أبصرت بزوجة ملاّح” دون الدخول في الجواب رأساً لتناسب العجلة في المشهد. ثم أن تعبير:”بعض” لا يدلّ على الوفرة.

أما تعبير : “وانطلقت تأكل وتلوك وتتلمظ”،  فقد سقطت منه الدلالات البلاغية والمجازية والسحرية ومنها الرقم ثلاثة

ولكنْ لماذا اختار المترجم تعبير العجزاء، بدلاّ من السمينة؟ 

يبدو انّ اختيار صفة العجزاء ، وهي التي عظُمت عجيزتها، غير موفق، أوّلاً فقد تكون خلقة، وعلى هذا لا علاقة لها بشراهة الأكل. وثانيا إن المرأة الموصوفة لم تكن واقفة لتلفت  عجيزتها النظر. صفة السمينة أدقّ لأنها ذات صلة بالأكل والمعدة والكسل أي الاجترار. توحي الصورة ببقرة باركة تجترّ وتجترّ وتجتر وتجترّ.

وجاءت ترجمة عناني للجزء الثاني من المقطع على الصورة التالية:

“لكنّي سأجوز البحر إليه بغربال

وسأفعل فيه فعل الفئران  بلا أذيال

وسأفعل وأعيد الكرّة تلك الأفعال”

هكذا اصبحت الفأرة فئراناً. الأمر مختلف. فأرة واحدة تنفرد بمهمة مستحيلة هي تدمير المركب ورّبّانه.

ليس ثمة جنس من الفئران بلا ذيول.

خشاة الإطالة، سنبحث مفهومين شائعين في مسرحية، مكبث هما Time  و Nature  ونرى كيف ترجما. مثلاً في الفصل الأوّل- المشهد الخامس، يخبر مكبث زوجته الليدي مكبث عن زيارة الملك لهما.نصحت الليدي مكبث زوجها بالتستروالظهوربمظهر مضلّل:

Your face, my Thane, is a book, where men

May read strange matters. To beguile the time

Look like the time…’

“وجهك يا أميري، مثل كتاب، حيث

قد يقرأ فيه الناس أموراً غريبة، وحتى تضلل الناس،

فابدوا لهم كما يبدون”

لا بدّ من التوكيد أن شيكسبير عنى بمصطلح الـ Time    الناس أو العالم، ولا يعني الزمن، وإلا وقع المترجم بتغاريب وتعاجيب ترجمية مربكة، كالذي وقع فيه جبرا، فجلب على نفسه وعلى النص الأذى(  كتبت تفاصيل أوفى  في مقدمتي لترجمة مكبث ص18 طبعة المدى).

ولكن لننظر إلى ترجمة الأستاذ عناني للأبيات أعلاه. قال:

“وجهك يا مولاي كتاب مفتوح يقرأ فيه الناس غرائب

أغلقه إذن لن تنجح أن تخدع هذا الزمن بحق إلاّ 

إذا حاكيت محيّاه”

لا أدري ولا القارئ يدري ما هو الزمن الذي عناه عناني، وإذا كنّا لا نعرفه فكيف لنا “محاكاة محيّاه” كذا على نمط ترجمة جبرا المغلوطة. 

يقول مكبث في نهاية المشهد السابع:

“لننصرفْ ونخدع الناس بأسعد الوجوه

على الوجه الكاذب إخفاء ما يعلمه القلب الكاذب”

يقول برنارد لوت:”إخدعْ العالم (The Time)  بوجه سعيد (Fairest show). 

إلاّ أن ترجمة عناني أصرّت على تفسيرالـ Time  بالزمن فغمض المعنى. يقول:

“هيّا ولنخدع هذا الزمن بأبهى مظهر

فالوجه المشرق يخفي قلب خؤون وخبيث المخبر”.

أما بالنسبة للمصطلح الثاني Nature   وكيف ترجمه عناني، فلنضرب مثلاً  سريعاً. ففي الفصل الثاني – المشهد الثاني، تخبر الليدي مكبث عن تفاصيل مؤامرتها لوضع السمّ في شراب حارسي الملك، وتقول:

“I have drugged their possets

That death and nature do contend about them,

Whether they live or die’

“لقد وضعت السمّ في شرابهما

حتى ان الموت والحياة يتناقشان

هل سيعيشان أم يموتان”

إلا أن ترجمة عناني جاءت على الوجه التالي:

إني أفرغت بمشروب الرجلين الساخن قطرا يذهب بالوعي

حتى اصطرع الطبع مع الموت بأعضائهما

الطبع يريد الدنيا..والموت يريدهما وحده”

أوّلاً ليس في النص الإنكليزي صفة الساخن،  وثانيا حلّ :”الطبع” محلّ المصطلح :” الحياة”.

أما الشطر الأخير:”الطبع يريد الدنيا، والموت يريدهما وحده”.  هكذا اقتربت الترجمة من الرجم بالظن، لأن المترجم لم يهتدِ إلى المعنى الحقيقي لمصطلح Nature.

المشكلة أن هذه المصطلحات: تتكرر عشرات المرات في تضاعيف المسرحية، فلا عجب ان وهنت الترجمة وشحبت وغمضت.

على أية حال، كان من هموم هذه المقالة التوكيد على أهمية الترجمة التي تُعنى بالتقنيات، مقابل الترجمة الأدبية، وعلى الأخص  في مسرحية مكبث، لأنّ لغتها كما  قلنا أعلاه مشحونة بالتوريات والمصطلحات الدينية والقانونية والمسرحية، وهي إلى ذلك لغة تلميح لا تصريح. جملها لاهثة قصيرة حادّة. 

لولا الإطالة لبحثنا تقنيات شيكسبير في استعمال الحواس، والألوان، والمنظورية، وكيف أغفلتها الترجمات العربية. مع ذلك فقد يكون من المفيد التوقف ولو قليلاً، عند المفاهيم المعنوية وكيف أصبحت مجسدة لدى شيكسبير والبلاغيين في عصره. لنأخذ مفهوم الرحمة : Pity  ، فقد أعطاها شيكبيرصفات بشرية مجسمة ومحسوسة. 

قال مكبث في مناجاته في المشهد السابع، حين كان يغلي بالشك واليقين من قتل الملك، فإذا به يتصور الرحمة مثل طفل عارٍ:

And pity, like a naked new- born babe

Striding the blast, or heaven’s cherubin, horsed

Upon the sightless couriers of the air

Shall flow the horrid deed in every eye

That tears shall drown the wind…’

“والرحمة مثل طفل عارجديد

تمتطي زوبعة الاحتجاج أو مثل المَلَك كروب على

صهوة خيول الهواء الخفية

ستنفخ الفعلة الشنيعة في كلّ عين

لذا ستُغرق الدموعُ الريحَ” 

تصوّر مكبث إن هو أقدم على قتل الملك، فإن فضائله ستترافع بالنيابة عنه كالملائكة، وإن (الرحمة) مثل طفل عارٍ ولد حديثاً ستمتطي الزوبعة، وإن رياح الاحتجاج ستهبّ على كلّ عين، وتغرق الريح بالدموع.

تقول براتفورد إنها الرحمة مثل المولود حديثاً يصاحب ملائكة السماء، تمتطي الزوبعة…”

يقول جي. كي. هنتر عن الرحمة إنها ستمتطي الرياح وتنفخ الفعلة الشنيعة في كلّ عين كالتراب”.

ويقول وولفغانغ كليمن عن تصوير الرحمة كشخص:”إلى أيّ مدى انتقل شيكسبير من النوع التقليدي للشخصنة، وكيف مالت صوره الشعرية إلى الغريب والفريد منها…”

ومن الطريف أن نذكران الرحمة وردت في القرآن الكريم كشئ مجسم، ولها صفات بشرية، ولها يدان، كما في سورة الأعراف:”وهو الذي يرسل الرياح بُشْراً بين يديْ رحمته”.

مع ذلك فقد ارتأى عناني ان يكون الطفل العاري لا الرحمة هو الذي يمتطي الزوبعة:

“وأكاد ألمح ربّة الإشفاق والرحمات من فوقي كمولود جديد

يمتطي متن الهبوب عاريا

…وإخالها تذرو بشاعة هذه الفعلة في كلّ العيون

وإذا الدموع تسيل حتى تغرق الريح بأجواز الفضاء

وليس عندي حافز يهمز جنبيّ كمهماز الفرس…”

المقطع أعلاه ، وقد اختصرته، يحتاج إلى وقفة تحليلية أطول، لأنه يمثل الترجمة الأدبية التي نحن بصددها خير تمثيل. فجملة :”أكاد ألمح ربة الإشفاق والرحمات” يمكن أن تختصر كما  في النص الإنكليزي بـ:”الرحمة”.  وجملة:” وليس عندي حافز يهمز جنبيّ كمهماز الفرس” فإنها تختلف عن النص الإنكليزي:” I have no spur, to prick the sides of my intent  لأنخس به خاصرتيْ

عزيمتي، لا جنبيّ كما في الترجمة.

 أخيراً أودّ التوكيد مرّة ثانية ، على أن هذه المقالة  كُتبت بخلوص نيّة وهي تنأى بنفسها عن أيّ تجريح ، أو تعريض وإنما همّها الأوّل والأخير هو الموازنة بين الترجمة الأدبية والترجمة التي تُعنى بالتقنية.

وإكراماً للدكتور عناني وإعجاباً بمقدمته الثرية وشروحاته الوافية حقّاً، اقتبس كخاتمة لمقالتي ،الأسطر الأخيرة  من مقدمته . قال الأستاذ عناني:” ولا بدّ ان القارئ قد اتضح له أن الآراء تختلف باختلاف المداخل ووجهات النظر المذهبية والفنيّة إلى حدّ يصعب معه التوفيق بينها أحياناً، وحرية الاختيار ملك للقارئ وحده “(المقدمة ص 93).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى