طوبى لصانعي السلام” – أريد مسيحًا يسعفني

المحامي جواد بولس| فلسطين

شاهد العالم، مساء الثلاثاء المنصرم، حفل توقيع اتفاقيتي تطبيع العلاقات بين إسرائيل ودويلتي الإمارات العربية المتحدة والبحرين، بتدبير ورعاية أمريكية كاملة وصمت داعم، أو همس خفي متواطىء، من قبل معظم حكام الدول العربية الإسلامية. 

يتبارى المعقبون والمحللون في كشف تاريخ العلاقات بين حكام هاتين الدويلتين وبين قادة إسرائيل، وكذلك في شرح الدوافع التي أجازت حصول  هذا الاختراق الحقيقي والمكشوف في جدار التنابذ العربي والإسلامي المعلن منذ بداية الصراع مع “الكيان الصهيوني المارق”.

ويحاول بعض المتابعين استشراف التطورات السياسية المحتمل حصولها في منطقة الشرق الاوسط، خاصة فيما يتعلّق بمكانة إسرائيل، التي ستصبح، كما هو مخطط، بعد عملية التوقيع في حديقة البيت الأمريكي الأبيض، بمثابة الفخذ الشرعي في قبيلة كبيرة تستعد لمواجهة مطامع وغزوات القبائل الأخرى، لا سيما تلك التي تآلفت مع الفرس، أو، على النقيض، مع ذلك السلطان العثماني الجديد، أردوغان، وحلفائه من المسلمين.  

يشدد بعض الفلسطينيين على ضعف التواجد الدولي في حفل التوقيع وعلى غياب معظم رؤساء أو مندوبي الدول الوازنه في العالم عنه، ويؤكدون مثلًا على عدم مشاركة الرئيس الروسي بوتين أو من ينوب عنه وكذا الصين واليابان ودول الاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول العربية والإفريقية والاسيوية.

ولئن استُحضرت هذه الإشارة من باب التفاؤل الضروري، فهي ليست برهانًا على “تفاهة ما أنجز” ولا مثلبة كبيرة في حقه؛ ذاك لأننا نعرف أن غياب هؤلاء القادة جاء من باب التكتيك المحسوب، أو التصرف وفقًا لقواعد “التقية” الدبلوماسية المحمودة واتّباع “حدس” بوصلات مصالح دولهم الخاصة في لعبة الأمم الكبرى.

يندرج معظم ما كتب في أعقاب توقيع الإتفاقين في باب الوصف، ومحاولة القلّة بإسقاط تبعاته على مصير العلاقات العربية – الإسرائيلية، ومستقبل القضية الفلسطينية؛ فوصفه كاتفاق يضمن لإسرائيل”سلامًا”مع دول لم تحاربها هو حقيقة ناجزة؛ بيد أن هذه الحقيقة لا تتعارض مع اعتبار الاتفاق، مع كيانين عربيين مسلمين، نصرًا إسرائيليًا هامًا أدّى عمليًا إلى تصدع كبير في “محفظة” المفاهيم الأساسية التي شكّلت، حتى بعد توقيع اتفاقتي كامب ديفيد ووادي عربة، ولأكثر من قرن، مساطر تعريف قواعد الاشتباك بين “العرب والمسلمين” هكذا بالمعنى المطلق والمعوّم، وبين الحركة الصهيونية وابنتها  “اللقيطة إسرائيل”. 

ويحاول البعض التخفيف من أهمية هذا الأحدودب القاتل الذي أصاب ظهر العروبة المكشوف، فيحيلنا إلى “نعمة” الانثروبولوجيا الحديثة ويؤكد أن الشعوب، في عصرنا، هي الضمانات لإنقاذ الأمّة من هوانها، وهي التي ستثأر ممن خانوها وسترمي بهم إلى سلال التاريخ .. إنها مجرد أمنيات بلا رصيد، فمعظم تلك الشعوب التي يعوّل عليها الفقهاء وينتخيها المنظرون ويتغنى بسحرها الشعراء والحالمون، عاشت جل تاريخها تحت قمع المحتلين؛ وتعيشه، منذ جلا عن أوطانها آخر المستعمرين، وهي مسلوبة الحرية، فتنام راضية بكسرة خبز وتفيق خائفة من جزمات حكام مستبدين لم يعرفوا يومًا معنى احترام المواطن ولا قيمة الإنسان وعشقه لأطواق الياسمين.

فعلى أية دولة عربية أو إسلامية سنراهن وأمامنا تتوالد في معظمها مجتمعات من صدأ وطين ترهن إراداتها عند جلاوزة وسلاطين، وتطيع، وهي عمياء، أولي الأمر وتتمسح بوعّاظهم إذ سيضمنون لهم قبورًا باردة وجنة حمراء وخمرًا ينساب من بلور الأجاجين؛ فكيف يستطيع من يخشى أن يفقد عبوديته، بناء وطن؟  

أكتب بلغة اليأس، رغم إنني أحاول قراءة واقعنا بموضوعية متأنية، بعيدًا عن العواطف، ومنقبًا عن الايجابي في ثنايا ما يحدث حولنا ولنا، نحن الفلسطينيين بشكل عام، وبيننا نحن المواطنين العرب في إسرائيل؛ فعندما سألتني ابنتي عن شعوري وكانت تشاهد، في بيتها من عزلتها الكورونية، وقائع حفل توقيع الاتفاقيتين في البيت الأبيض، أرسلت لها صورة رغيف خبز عربي، وحبة بندورا حمراء ضاحكة وصحن مليء بكرات اللبنة المغموسة في زيت الزيتون الجليلي.                 

ضحكت حين فهمت أنني لا أشاهد مثلها ما يعرض مباشرة؛ ولكنها أرغمتني بسؤالها على أن أتابع تفاصيل الحدث. 

لم أخطط لمتابعة البث المباشر تحاشيًا لمشاعر القهر والحسرة التي لم تنتابني بشدة، كما توقعت.

كانت لغة جسد ترامب مستفزة كالعادة، وكانت نبرته مستخفة بالجميع ومفرداته تدفعني نحو التفتيش مجددًا عن الحكمة في وصية المسيح حين قال “طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون”؛  ثم جاء بنيامين نتياهو وأدى دوره كممثل بارع على مسرح “العبث” بخيلاء طاووس؛ فتلاه حليفاه الجديدان واستنكرا سبب خلاف الأحفاد من قرون، فلا فرق إن كان إسماعيل هو وريث هذه الأرض وكانت أمّته خير أمّة أخرجت للناس، أم كان ذلك إسحق وأمّته وريثتها؛ فالكل، في النهاية، أبناء إبراهام وستحميهم طبعًا طائرات الإف 35 وصواريخ التوماهوك.

لم أنزعج كما كنت أتوقع مما شاهدت وسمعت، فكتبت لابنتي مجيبًا على سؤالها: “أحاول أن أستوعب الحدث بأدوات تفكير سياسية.. فعاطفيًا، شعوري بالطبع مثل شعوركم وأساسه مشاعر إنسان حر ومهزوم” !

ما أزعجني أكثر من مشاهدة وقائع الحفل كانت ردود فعل كثير من الفلسطينيين ومحاولات بعضهم تحميل القيادات الفلسطينية مسؤولية ما يحدث من انهيارات في الموقفين التاريخيين، العربي والإسلامي، إزاء إسرائيل وما مارسته بحق الفلسطينيين؛ فهذه الاتهامات الفلسطينية هي طعنات في الجسد الفلسطيني وخدمة يقدمها هؤلاء، عن قصد أو بدونه، لأعداء فلسطين.

لا أنكر بالطبع حق كل فرد بأن ينتقد أو أن يعارض أو أن يبدي رأيًا مغايرًا بشكل كامل وحر؛ ولكن أن يتخذ الفلسطيني واحدًا من هذه المواقف ويقف عنده فقط ويعفي قادة العرب والمسلمين من تغيير مواقفهم تجاه قضية فلسطين ومن قمع شعوبهم وما يجري في أوطانهم، فهذه ممارسات لحريات تصب ريوعها، في نهاية الطريق، بصالح من يحاولون القضاء على الحلم الفلسطيني ومسح منجزات الشعب وتضحياته التي قدمت منذ مائة عام حتى يومنا هذا. 

لن أدخل في تفاصيل ما سيق من ادعاءات واتهامات ضد القيادات الفلسطينية،  وقد أوافق على بعضها طبعًا، لكنني أؤكد على أننا سنشهد في السنوات القليلة القادمة خارطة عالم جديد؛ وكل من لم يلحظ كيف ومتى بدأت الانهيارات الحقيقية من جهة، والاصطفافات المتشكلة، من جهة أخرى، ولا يعي الآن كيف تغوّل النظام الأمريكي ولا يتورع عن اغتصاب عملائه علنًا، سيبقى خارج حدود الجغرافيا وملقى على أرصفة التاريخ أو في زرائبه.

لن تأتي النجاة للفلسطينيين من جهة أنظمة العرب ولا من جهة الأنظمة الإسلامية، ولن تستطيع شعوب هذه الدول، رغم مواقفها الفطرية المساندة لقضية وشعب فلسطين، أن تسعف الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال الإسرائيلي، فهؤلاء هم أصحاب قدرهم وصناع نجاتهم؛ وكي يضمنوا استمرار صمودهم في وجه الاحتلال ومن يحالفونه علنًا، عليهم أن يتوحدوا، وأن يتفقوا على أولويات التقاطع والاستعداء والتحالفات.

فبدون تذويتهم لهذه الفريضة سيفقدون أغلى ما عندهم، وهي حفنة الأمل الباقية؛ وإن فقدوها سيصبح اتفاق “كوشنر نتنياهو أبو ظبي المنامة”، كما خطط له، حجر الأساس الذي لن يتردد بعض الأشقاء والأخوة، في الدم والدين، أن يبنوا فوقه شاهدا كبيرا ويحفرون عليه: “هنا دفنت قضية فلسطين”.

أعرف أن الكثيرين سيصرخون فورًا : لن يحصل هذا .. وأنا سأصرخ طبعًا مثلهم ولكن.. شعور الهزيمة الذي رافقني، هكذا كتبت لابنتي: “جعلني افكر لماذا يصيبني وكيف أستطيع تغييره، ليس كفرد بل كواحد من مجموعة تشعر مثلي وتعيش في إسرائيل؟ فبدون إلحاح السؤال وباستمرارنا العيش كمهزومين سنتحول إلى عبيد” .

لم يتفق معي الأولاد تمامًا ؛ فهم ينتمون إلى جيل يعطي لمصطلحاتنا معاني ومضامين مختلفة؛ فالهزائم عندهم ليست بالضرورة هزائمنا.

مع ذلك وجدتهم يوافقوني عندما كتبت لهم : “فلو فكرنا مليًا بماذا كان يجمعنا قبل إبرام هذا الاتفاق، نحن المواطنين العرب في إسرائيل، مع البحرينيين والإماراتيين، وماذا تغير علينا اليوم، سنجد اننا ورثنا أوهامًا مقوْلبة وعشنا بظل فرضيات لم تكن موجودة أصلًا.

فكروا معي فقد يتحسن عندها شعورنا ونعود الى واقعنا بعقلانية خالية من فائض عواطف قبلية، ونستطيع، من مواقعنا هنا، استشراف مستقبلنا الأفضل” . قلت ووعدتهم أن أكتب في ذلك أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى