‏أُريدُ أن أكون التفاحةَ والسهمَ، ‏وهذا التداخلُ يحدُثُ

نداء يونس| فلسطين المحتلة

تقوم فلسفة العدمية Nihilism لدى فريدريك نيتشه على الاعتقاد بنسف كافة الأسس المرجعية للقيم وكذلك الاعتقاد بإمكانية المعرفة، ويرافقها عادة التشاؤم الشديد والشك المتطرف الذي يدين الوجود.

إن هذا التعريف ينطلق أساسا من زاوية معالجة فكرة العدمية التي يستند نيتشه في تعريفها إلى التدمير ويعني ذلك تحطيم ما هو قائم لا إنكار الوجود ذاته، إن عدمية نيتشه تبدو أكثر توجها نحو الهدم، الزوال أو التآكل، إنها ليست اللاشيء nothingness إنها نوع من أنواع الوجود الذي نقول بعدم استحقاقه للوصول إلى درجة اليقين أو إنه العدم المرتبط بعملية تآكل جوهرية للوجود، فالعدمية بهذا ليست الفراغ الذي يعني حالة اللاوجود أو القيمة الصفرية للأشياء، ويستند نيتشه في تعريفه للعدمية إلى الأصل اللاتيني nihil، أي اللا شيء بعد ان يكون، إنها نفي للشيء. 

ينتمي بعض الفلاسفة إلى هذا المذهب الذي تميز في القرن العشرين بنزعة نحو الفشل المعرفي، وتدمير القيم، والكون الذي بلا هدف واللامبالاة ورفض النزعة التأسيسية وهي مبادئ رئيسية تبدو كنبوءة قديمة من نيتشه لخصاص مرحلة ما بعد الحداثة التي تميزت برفض السرديات الكبرى أو الفوقية والكيفية التي تم بها استخدامها لشرعنة سلطات الخطاب، إلا أن ما يميز نيتشه هو جدليته المتعلقة بآثار العدمية المسببة للتآكل والتي ستدمر في النهاية كل المعتقدات الأخلاقية والدينية والميتافيزيقية وتعجّل بأكبر أزمة في تاريخ البشرية، وبهذا المفهوم يمكن أن تجد أرضية تطبيقية في تفكيكية دريدا ولا نهائية تعيينها للدوال والمدلولات، سيما وإن عدمية نيتشة تبقى محصورة في بعدها الأنطولوجي فقط مع ضرورة الانتباه إلى ما تقودنا إليه تفكيكية دريدا من إنكار ليس للحقيقة؛ بل لقدرتنا على معرفتها.

إننا أمام هدم داخل اللغة واليقين سيؤدي بالضرورة إلى نسف مرجعي لفكرة تقديس الثوابت من خلال عدم قدرتنا على إثباتها، وهذا سيؤدي إلى نسف الكيونة (سيندي) لا الوجود (سين).

إن العدمية النيتشوية ممارسة فكرية بينما تفكيكية دريدا ممارسة لغوية، وإذا كان كلا التوجهان يستندان إلى التشكيك بثبات المعتقد، فإن مسألة اليقين تصبح مجرد العاب لغوية كما أسماها فنجشتاين وبنى على ذلك ليوتار.

وفي هذه الحالة، تتحول أنطولوجيات السرد الفوقي كممارسة سلطوية إلى العاب للغة تستخدم لإضفاء الشرعية على الادعاءات بدلا من الاعتماد على الموضوعية والتجربة.

وإذا كان سورين كيركجارد قد قدم العدمية بمفهومها الماركسي أي التسوية leveling بافتراضه أن الفرد يمكنه أن يقود تمردا لكنه لا يستطيع أن يقود عملية تسوية (مع سلطات الخطاب)، فإن هذا البعد التجريدي ذاته للعدمية الكيكجاردية والذي يعتبر قهرا للفردية هو إلغاء للفرد أو عدمية له، أي إنه انحلال أو تآكل لمفهوم الوجود الإنساني نفسه أمام فكرة البنى الفوقية.

وبما أن الشعر وجه آخر للفردية التي ترفض الخضوع لسلطات الخطاب، وحيث إن الثقافة رافعة ما دامت تسير مع السائد وحالة قلق إذا اختلفت عنه، فإن حتمية الاختلاف أوجبت انشغالات وهواجس وجودية كان العدم أحدها في مجموعتي الشعرية كتابة الصمت بجزأيه “أنائيل” و”بروفايل للسيد هو”، فهو الذي أقول إنه “طائرُ “: 

“يحفرُ جذعَ الزمنِ،

لكنه بلا منقارٍ  ص (277)

وحيث إن كل شي يصبح مجرد وهم وانحلال، فإن الزمان يصبح مرادفا لسيولة المكان وعدميته من خلال عمله كموظف حسابات لدى  العدم، هذا السيد الخراب:

فقاعاتٌ

تقدمُ تقريرًا للعدم؛

الزمن (ص 253)

وبهذا تصبح الحياة عدمية أيضا ولا وظيفة لها سوى أن تحجز لنا مكانا لنا معه او مع أشياء نقول إننا نعرفها أو ندعي ذلك وبهذا تصبح المعرفة التي ندعيها مرادفا نيتشويا للعدم:

ألمٌ؛

إذا كنت تستطيع

أن تستمرَ بالسباحة في الملحِ

دون لاصقةِ جُروح؟

الانتظار؛

إجابةٌ للأسئلةِ التي تطرَحُها

الحياةُ، وهي تحاولُ أن تحجزَ لنا موعداً مع العدمِ

أو شيءٍ آخر ندَّعى بأننا نعرفه؛ 

أو هكذا يبدو (ص 254)

وبهذا تصبح الحياة ذاتها في تعريفها هنا مجرد عدم قدرة على التقاط الإشارات أو عدم إمكانية لفعل ذلك، وهذا انعكاس للمفهوم التفكيكي لدريدا، ما يؤدي إلى نسف الكينونة كما قال نيتشه، وبهذا أنفذ الى معنى الحياة كوجه آخر للوجود، فالمعنى يكمن في الضد، ويظهر ذلك في: 

على شاشة التلفاز bad signal،

والحظ موسوم بـ bad signal،

والحياة منذ البدء bad signal،

وحدها الجبالُ

ترى النارَ التي أشعلتِ الماء.

الجُندِيُّ الذي رسم وجه بوذا،

على باب خشبي

في ثكنة عسكرية،

لم يكن يعرفك،

لولا أنت،

يمكن أن يُفهم «هو»؛ 

خطأً.

طبقٌ باردٌ،

ألتهمهُ بلا جوعٍ،

وأتقيؤهُ؛

هذا الوقت.

الزمن نورسٌ يحلقُ فوق

صحراء،

إما أنه لا يرى،

أو أنه يقضي عقوبةً بالعدم.

وبعدين؟! 

لا أرى من جثةِ الحياةِ

سوى يدِها 

المتفسخةِ.

الحلمُ هو المكانُ الأكثرُ أمنا،

لكنْ لا شئ مما يحدثُ له

ماضٍ،

إلا منذ أن وضعتْ اينانا

يدها 

على رحمي.

ثلاثةُ دنانير ذهبية،

هل تكفي ليكونَ لي بستانُكَ،

لأشتريَ سيفَكَ المُطعَمَ،

لأَمتلكَ صندوقَ العجائبِ

والممالكِ

والمرافئِ

والزّمن.

خارطةٌ؛

هلا فككتَ معي الطلاسِمَ؟

شامَةٌ على اليمينِ،

وغابَة الدفْلَى عن شمَالكَ،

وهنا غارَ نيزكٌ واحترقَ.

أكمِلْ … أكمِلْ،

ماذا تُسمّي هذي العلامةَ

تلك الإشارةَ،

وكيف يمكن أن تَطالَ كنزَاً 

من ورق؟!

– علّمْني: كيف؟!

أو أعطني تعريفاً آخر للعدم!

 

– للعدمِ معنىً آخر: bad signal (ص 238-242)

وبما ان العدمية تمارس أيضا من خلال ألعاب اللغة كما يقول فنجشتاين، ولأن الشعر حالة رفض فردي لسلطة الخطاب كما يقول فوكو، فإن العدمية هنا هي ممارسة شعرية مشروعة تحاول أن تخترق البنى العمودية بالخلود، من خلال النص الذي يبقى، وتماحك نبوءة ليوتار حول فشل الفردية امام الجمعية اليقينية التي تمت السيطرة عليها خطابيا، فالنجاة من العدم قد تكون شكلا آخر للتجريد أو للحب الذي هو رومانسية وهروب مؤقت ما يلبث أن يصطدم بالواقع وبالعدم الذي يمكن أن تتمثل مرحلة انسلاخه وانهياره بظهوره ظلا جسدا أي تجسدها:

لا ‏أ‏قولُ ‏أ‏ن الانعكاسَ ضرورةٌ‏،

‏بل أن الظلَّ

‏إثباتٌ‏ ‏على نجاةِ الكائناتِ‏

‏لا من الحبِ؛

‏بل ‏من العدَم‏ِ.(ص 48-49)

والشك قائم في اعمق الجماليات الوجودية التي نلجأ اليها لنكسر وهم الخرافة؛ الحب

مروركَ يكفي كي أصدقَ

خرافتي، وأنجو

ربما،

من فكرةِ العدم (ص 108)

لكنني أيضا اقلب الفكرة، فكرة العدمية ذاتها، ففي هذا المقطع الشعري، تصبح العدمية شغل العدم نفسه وليس الإنسان، إنه الذي يمارس لامبالاته العالية امام احتراق الإنسان في سؤالي الكينونة والوجود أو اللاكتراث أمام وهم اليقين أو إنه الذي يقود الحياة والزمن مثل ضد اوركسترا البديهيات:

وليس يهتم

بأكثر من طعام في منقاره

طائر العدم.

ولهذا، فإن العدمية لا تتعلق بالماضي فقط بل بالمستقبل أيضا،  إن إمكانية التأكد من الذي حدث غير ممكنة وبالتالي، فإن اليقين في الغيب غير ممكن أيضا، وبهذا يبني الشعر من خلال سرديته الفردية في مواجهة الأسئلة الأخطر والأعمق سردية العالم ذاته :

لأكتُبَ عما لا أعرفُهُ 

في محاولةٍ للتّحايلِ على

ما أعرفُهُ 

ولا أريدُ أن أقولَهُ

أخلقُ تناظراً بين الفراغِ والعبثِ 

ومن أجل الكثيرِ من الإيقاعِ 

أَرمي حجراً في بئرِ العدمِ

لأقيسَ آخرَهُ.  (ص 184)

وبهذا تكون الحياة وهي الوجه الآخر للعدم في مواجهة العدم والماضي في مواجهة المستقبل وعدم الثبات في تعريف المتحرك شكلا من أشكال الاعتراف بأن الحياة والعدم نوع من أنواع الاشتغال أو الوظيفة التي يمارسها شيء ما في مواجهة حالة تحول الواقع من سيولة إلى غبار أو هواء:

‏يمكنه أن يقولَ أن الوقتَ

قصيرٌ جدًا؛

الدخان،

‏و‏أ‏ن يضعَ توقيعَهُ ‏على العَدمِ؛

‏النيزك.

غدًا هو الأمس،

لكنه بلا أبوابٍ ‏و‏بلا سقفٍ أيضا، 

لنقلْ أن ‏للغيبِ 

عملًا دائِماً‏.

عتمتي؛

ضريحُ ا‏لهيكلِ العظميِ للغيبِ‏

و‏الحنين ‏نهرٌ ‏يدفعُ تذكرةً ‏

إلى كل الاتجاهات؛

عدَاه. (ص 70-71)

تبقى محاولة النجاة مستمرة على صعيد الممكن الفردي أي الحب في مواجهة اللاممكن، رغم أنه قد لا ينجح لكنه طريق يحقق حالة اللااكتراث امام اللايقين، ويعيد قلب الأدوار العدمية للعدم الإنسان التي قدمها هذا العمل، فليس العدم وحده مجرد طائر يكتفي بالاهتمام بما في منقاره من طعام، بل المحب كذلك كائن لا يهتم إلا بما قلبه من حب أمام هذا الانحلال في كل شيء:

أظافرٌ مكسورةٌ‏، 

وتغاويطُطيورٍ‏أسطوريةٍ‏

تغطى زمنَ الرمل؛

‏لا علاقةَ لي بكل هذا،

ليلي لوقت اللازوردِ والعنبر. (ص 49)

أيتها النارُ أو جسدي؛

الحب كأسٌ ينكسرُ

‏ليس قبل الثمالةِ 

‏بل قبل الامتلاء.

‏الغيابُ فصلٌ واحدٌ فيَّ،

أنا الطائرُ المعلَّقُ

فوق المزاراتِ 

‏والرماد.

أيتها النارُ أو جسدِي؛

‏افتحِي كتابَ الوقت،

‏اخلعي قلادتكِ الغرانيتيةِ،

ألقي طبائعكِ – وأعني صفاتِي،

‏وتمدَدي ‏دون أن تَلتفتِي

إلى الماضِي.

‏أيتها النارُ أو جسدِي؛

‏يمرُّ بي الشعراءُ والقرامطةُ 

في الطريقِ إلى الجنوبِ،

‏والعرافونَ والحفاةُ والمريدونَ

في الطريقِ إلى الجنوبِ،

‏والأَباطرةُ ‏والرعاةُ

في الطريقِ إلى الجنوبِ،

والأولياءُ الذين ‏يحملونَ الآياتِ

كأجسادِ الغرقَى 

‏ويوزعونَ القبابَ 

‏في الطريقِ إلى الجنوبِ،

لكنني أ‏رى شبحَ اللحظةِ

‏يرتدي وشاحًا ريفيًا 

بنقوشٍ ملونةٍ 

‏ويمدُّ يديهِ إلى الوراء‏.

لا ‏مقبرةَ للوقتِ الذي بيننا،

‏ولست أعرفُ

كيف أُشعلُ النارَ ‏في الرماد،

ولا

كيف أشرحُ بالمجازِ أنه ‏حتى

الميتافيزيقيا 

لم تتمكن من أن تقبضَ

‏على غيبوبتي؛

فيك‏. (ص 50-53)

وبهذا يصبح التداخل بين الشاعر وقدره مسألة إرادة الفرد امام العدم، مسألة المعرفة امام سؤالها ولهذا كانت التفاحة التي احتفظت بدلالتها الغيبة عن الماضي ورمزية المعرفة أمام الرغبة الدائمة بالاكتشاف أو ذاك التبادل بين العاشق والمعشوق في محاولة لقلب الأدوار بين الفكرة أي العدم وتعريفها أي الحياة والعكس صحيح:

‏أُريدُ أن أكون التفاحةَ والسهمَ،

‏وهذا التداخلُ 

يحدُثُ. (ص 71)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى