الواقعية السحرية في رواية “متاهة إبليس” لـ بُرهان شاوي

 سارا زيد محمود| باحثة وأكاديمية من إقليم كوردستان العراق

“الكتابة الإبداعية الروائية ليست بطراً ثقافياً أو تسلية أو قضاء وقت، بل رحلة في متاهة الفكر والتاريخ الاجتماعي وتوغل إلى أعمق مغارات الذات ومنعطفات الروح والفكر” (وهم الحرية، برهان شاوي).                 

الواقعية السحرية هي الاتجاه السردي الجديد الذي ظهر للتعبير عن الأحداث السردية بأسلوب تشويقي وفانتازي سحري، من أجل خلخلة البينية السردية للأحداث، وعدم تقديمها برؤيا واضحة وواقعية، بل تهجين الواقعي بالسحري؛ لخلق التوتر وتفعيل أفق انتظار المتلقي.

“متاهة إبليس” للروائي بُرهان شاوي، وهي الرواية الخامسة في سلسلته “المتاهات”، تُعد من النصوص السردية ذات البنية الثرية من حيث توظيف التقانات الحداثوية وما بعد الحداثي برؤيا رؤيوية  كونية جديدة.

ومن خلال القراءة الفاحصة للرواية بدا أن الروائي بُرهان شاوي استطاع أن يمزج بين الواقعي والسحري باتقان دقيق مثل (التناص والميثولوجيا، الفنتازيا والعجائبية، ميتا السرد، الرموز، والأقنعة…) بأسلوب درامي سردي سحري، حيث كل شخصية روائية تتمتع بحرية التعبير والرؤية، إذ يستخدم الروائي آلية السرد الذاتي في التعبير عن ذوات الشخصيات والوقوف عند منعطفات الفكر والروح والجسد، وطرح تساؤلات تهم البشرية بنكهة فلسفية، فهي تنتمي إلى”بنية سردية مغايرة يلتحم فيها الواقعي بالميثولوجيا والحسي بالتجريدي والمرئي باللامرئي والمنطقي بالغرائبي، والملحمي بالغنائي، وتلتحم فيها الخطابات السردية الحديثة بخطابات ملحمية وميثولوجية قديمة” (فاضل ثامر، 2003، المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي)، والمتن السردي الحافل بالمفاجآت وبالبنية السينمائية والدرامية، المشحونة بطاقة فعالة ولغة شعرية مزيجة بالرموز والأساطير والتناص، فنتلمس الفنتازيا السحرية، واللغة المزيجة بالتنوع الدلالي، والحوارات الفلسفية المكثفة التي تعبر عن الشخصيات وآيدولوجياتهم وأفكارهم المتنوعة، والتي تختلف حسب ثقافة الشخصيات ومستواهم ووعيهم وتوجوهاتهم، رواية تجمع بين الفنتازيا والواقعية، فهي تجسد االواقع العراقي الذي اقترب من الخراب العربي، وجسدت الإرهاصات الأولى للحركات الإرهابية في العراق وسوريا، والصراعات الطائفية والقومية على متن الرواية.

رواية “متاهة إبليس” تعد من الروايات النفسية – الفلسفية – المعرفية التي تتوغل في بواطن الشخصيات، وتحليل مغزى أفكارهم وتطلعاتهم، كاشفةً عن الأسرار والخبايا، برؤيا سردية ومن خلال أسلوب سينمائي يعتمد على اللقطات السينمائية في رصد الشخصيات والانتقالات المونتاجية في الزمان والمكان بشكل دقيق، وكذلك دقتها في بناء شخصياتها، ووصف وتوثيق الأماكن، كل هذا بسرد حكائي تشويقي وفانتازي، بما تحملها من أحداث وحقائق، التي مر بها العراق، وما عاشته الشخصيات من ظلم ومعاناة.

ولا يمكن للقارئ إلا أن يعترف بقدرة الروائي بتفحصه الثاقب لما وراء قشرة الوقائع والأحداث وتصوير ذلك تصويراً ديناميكيا حياً، وكشف عوالم الشخصيات من خلال  تعبيرها عن رؤيتها بحوار حية، عميقة، جذابة، فاللحوار الدور البارز في التعبير عن تعدد الأصوات، والآراء والآيدولوجيات، فهذه إحدى الطرق الفعالة والنشطة في اعطاء الحرية الكاملة للشخصيات للتعبير عن تصوراتهم، ورؤياهم التي تساهم في إضفاء الطابع الدرامي على الأحداث.

رواية ” متاهة إبليس”  تسلط الضوء على بروز الظواهر الفانتازية والسحرية العجائبية في مشاكسة الواقع، والعمل على خلخلة الخيط الثابت إلى تموجات وتوترات تساهم في خلق الخروقات الجمالية السردية، وإضفاء الطابع اللاواقعي على الواقع، واللامتوقع على المتوقع، والمسكوت على المقموع في سرد أحداثها سرداً ذاتياً معبراً عن الجوانب النفسية للشخصيات، والتهجين المتقن لهذه المتضادات في بوتقة السرد ومتاهاته، والمزج بينهما للتعبير عن تناقضات الواقع والوجود الإنساني، لكن بأسلوب غرائبي فني وتشويقي سحري، لخلق الترقب والدهشة والابتعاد عن الملل والفتور، وهذه البنية الغرائبية ليست مقتحمة داخل الأحداث والزمان والمكان، بل منسجمة انسجاماً محبكاً ومتقناً من قبل الروائي، حتى نجد إن الرواية وأحياناً من خلال بنية المتن الروائي تقترب من أفلام الخيال العلمي والكابوسي وجذب القارىء لتكملة سلسلة الأحداث، وغوره في عالم الشخصيات المتناقضة، وتصور أحداثها وتقلباتها المدهشة.

ونستطيع ان نصف هذه الرواية “متاهة إبليس”وبقية روايات سلسلة (المتاهات) تعد ضمن روايات الحداثة ومابعد الحداثة، من حيث إنها تتميز ببناءها الكلي الشامل في محاكاة الواقع الإنساني، وتجسيد الواقع تجسيداً مغايراً وغير مألوف، وتوظيف التقانات التي تخدم الواقع الحالي وتتحمل هذه التناقضات ومشاكل الوجود وتفسرها وتحليلها وفق منظور واقعي وفلسفي ونقدي، وهذا الدمج بين الواقعي الذي يجسد العراق والمنطقة وأوروبا، والتقلبات السياسية التي مرت بها من السجون والقتل المعمد، وانتهاك حقوق البشر، واضطهاد المرأة واغتصابها، وسيطرة الظلم والمال والسياسة الزائفة على الواقع ما جعل الروائي أن يتخذ له المنفذ الحر لتجسيد الواقع تجسيداً واقعياً، لكن بملامح سحرية عجائبية، لخلق المتعة والاستمرار في مواجهة تناقضات الذات الإنسانية والواقع السوداوي، والابتعاد عن الأسلوب التقريري المباشر، فكما ذكر الناقد (فاضل ثامر) أهمية السحري والغرائبي‘ إذ ” يلعب الغرائبي دوراً شبيهاً بالدور الذي يمكن إن يؤديه الموقف الكوميدي أو الهجائي من الواقع أو من مظاهر القهر والإحباط. فالإنسان في هذا اللون من السرد المزدوج (الواقعي والغرائبي معاً) يستطيع إن يتحدى الموت والقهر والهزيمة، وأن يسخر من كافة الضخوط التي يتعرض لها، وإن يحقق ما هو مستحيل ضمن منظمومة تخييلية باهرة تشحذ، بدورها وعي القارىء وتعمقه وتبث فيه أملاً مضاعفاً ورغبة أعمق في الحياة ومواجهة الصعاب والانتكاسات والاخفاقات المتلاحقة” كما يسهم في خلق الدهشة والابتعاد عن الرتابة والتصوير الفوتوغيرافي، بل تصوير الأحداث تصويراً درامياً حياً من خلال توظيف الحوار بأنواعه الصريح وغير الصريح، وإيهام المتلقي بواقعية الحدث وتجسيد تخلخلاته وتموجاته السردية والنفسية، ولتقنية الحوار أهمية كبيرة في الكشف عن مغزى أفكار الشخصيات، وآيديولوجياتهم بأساليب مختلفة، لكل شخصية لغتها وأسلوبها.

ويمكننا القول بأن “متاهة إبليس”  تنتمي الروايات ذات البناء المتعدد الأصوات (البوليفونية) كما صنفه (باختين) في كتابه (المبدأ الحواري)، ولهذه التقنية أهمية في جعل الروائي يتمتع بموضوعية، واعطاء الحرية للشخصيات للتعبير عن شكوكهم وآيدولوجياتهم بديموقراطية، وعدم اقتحام آرائه الكاتب الشخصية والفكرية بأسلوب مباشر رتيب وملل. 

النسق المكاني يلعب الدور في خلق العالم الفانتازي في عالم بُرهان شاوي الروائي، إذ نجد المكان الذي يخلق الحدث الكابوسي هو (المصعد)، وأيضا من الثيمات الأساسية في رواياته الأخرى يحتلان (الفندق، والمصعد) في تصوير الأحداث الغرائبية والسحرية في هذين المكانيين في رواياته مثل (فندق مفيستو، مملكة الموتى الأحياء- فندق باب السماء، وفي سلسلة المتاهات).  ففي “متاهة إبليس” الروائي يستحضر الشيطان ويجسيده على شكل كائن أشقر وسيم، فهو يتقمص شخصية متناصة مع الممثل الايطالي (هيلموت بيركر) الاشقر الوسيم، لخلق أرضية فانتازية وهمية وواقعية. كما يظهر هذا الرجل الأشقر الوسيم في المصعد لأكثر من مرة حيث ليمثل هذا المكان المتحرك مكانا روائي في سيرورة الوجود السردي، فهو مغلق وضيق، لذا هو يجسيد العالم الكابوسي، ويخلق الدهشة لدى المتلقي، لاسيما وأن المصعد دائم الصعود من الأسفل إلى الأعلى، ومن الأعلى إلى الأسفل، وهذه الخلخلة تكشف عن بواطن الشخصيات التي يعيشون في حالات غير مستقرة وقلق وخوف، لذا كان للمصعد الدور المركزي والرمزي في الكشف، وتحريك خيال المتلقي في ترقب الاحدث باستمرار، ناهيك أن الرواية تضم عنوان فرعيا ضمن الفصول معنون بـ(جني في المصعد) أثناء وجود حواء ذوالنورين، وإيفا سميث، والفتاة الخليجية المتلبسة بالجن، حيث فجأة وهم في المصعد توقف حركة الزمن مع توقف المصعد، وعبر الأحداث المرعبة من فوقها ” حدثت، فجأة، قرقعة، واهتزاز عنيف في المصعد، وارتباك في حركة سيره، وتوقف محدثاً اهتزازاً أرعب النساء الثلاثة…” وأثناء هذا الحدث كانوا يشعرون بخوف من المجهول وبالأخص الفتاة الخليجة شعورها بالعدم والارتباك جعلها تكشف عن اللاوعي النفسي وحقائق تفيد في تطوير الأحداث إلى الأمام والكشف عنها، ولكن بأسلوب فنطازي مرعب كالافلام الهيلوود، تبوح (الفتاة الخليجية) في الكشف عن حقيقة هذه الحادثة “ أنا أعرف ذلك.. إنه الجني الذي يعشقني.. ألا تصدقين.. أقسم لك إنه هو.. إنه يؤذيني.. يلاحقني من مكان إلى مكان..” وهذا التوتر يستمر في المصعد والفتاة كأنها كائن خرافي قلق إلى أن تبدأ رجوع الحركة السردية إلى طبيعتها ويوقف المصعد، والفتاة الخليجية “فجأة قفزت إلى خارج المصعد وأخذت تهرول في المرر متجهة نحو السلم، بينما أغلقت باب المصعد وأخذ يتجه للأعلى”.   

” متاهة إبليس” رواية عن عالم من التناقضات والشكوك، فهي تحاور الكتب المقدسة، وتفككها، وتتناول التابوهات الثلاثة (الجنس، الدين، والعنف السياسي)، تخلخل القناعات بالثوابت والمسلمات، وتوظيف التناص بشكل معكوس للتعبير عن تناقضات الواقع، وتحريك الثوابت والمسلمات التي لا يجرأ الإنسان التفكير بها، كما يرى المفكر وعالم النفس الاجتماعي (إريك فروم): إن الإنسان دائماً يتبع الجماعات من دون التفكير، هذا الاتباع يعطي الشعور بالراحة والاطمئنان، لذلك يقدسون الثوابت العامة.

شخصيات الروائي بُرهان شاوي في هذه الرواية وبقية سلسلة المتاهات شخصيات شكاكة، دائمة التفكير والشك، لا تؤمن باليقين، كما يشير الناقد المغربي د. عبد الجليل غزالة في كتابه ( الحجاج السردي والتحليل النفسي  في رواية ” المتاهات” لبرهان شاوي) إلى إن ” العقلانية النقدية التحليلانية التي ينتهجها برهان شاوي في بعض منطلقاتها تنسجم انسجاماً عميقاً مع المخيلة الإبداعية بل إنها متلازمة مع المخيلة الإبداعية”، ويشير الناقد إلى العقلية التفاعلية الحية التي يتمتع بها الروائي، فهو لا يقبل بالثوابت والأمور البديهية، بل يفككها، ويحاول فك العقد وتحليلها، وترميمها وإعادة تشكليها، تشكيلاً ينم عن وعي ودراية بالحقائق والفلسفات التي  تحث الإنسان للتفكير والتحليل، للوصول إلى شكٍ مستمرٍ، وعدم الوقوف في مكان والتسليم باليقين، وهذا ملازم مع الحركة الإبداعية للروائي والبحث الدائم في مسارات الوجود وخياله المتمرس في خلق العالم الذي يناسب الواقع والإنسان.

إذن، فالروائي(بُرهان شاوي) يرفض، من خلال شخصياته الروائية، الثوابت والموروثات والأساطير الدينية، بل يتوجه إلى هدم هذه الأهرامات الموروثة، من خلال بناء فكري إبداعي قابل للشك الدائم والوصول إلى مديات أوسع من الشك ثم الشك، وحتى شخصياته الروائية يتمتعون بالإيمان بالشك المستمر، لاشغال الذهن، وعدم القبول بالهيمنة والتبعية، لمعرفة طريق الإنسان وأهدافه ومتطلباته في الحياة، وعدم الخضوع لأي سلطة مهما كانت، بل الخضوع إلى جوهر الذات والطبيعة البشرية، ومعرفة احتياجاتها، ومشاكلها، وتحليلها منطقياً، والوصول إلى نتائج يشعر الإنسان بالراحة وكينوته وسعادته المطلقة، إحدى الشخصيات الرواية تبوح بحقيقة وجودها ” أنا حواء الكرخي، أشك في كل شيء طمأنينة اليقين تخيفني، بينما قلق الشك يمنحني الطمأنينة . الشك هو الذي يقودني إلى الحقيقة، لكن الحقيقة متاهة… متاهة تفضي إلى شك جديد.. نعم الحقيقة هيّ متاهة صامتة أعتقد أن الله يحب الشكاكينأكثر من المؤمنين .. إنه يبارك قلقهم العظيم، لأن الشكاكين يفكرون فيه دائماً.. يحبونه.. يريدون أن يعرفوه بجلاله وعظمته ووجوده. المؤمنين قطيع مطمئن لمصيره.. قطيع ينتظر تبن الفردوس.. لا أكثر .. نعم .. نعم.. أنني أرى البعض يحمله صليبه الثقيل بصبرٍ.. وبمعاناةٍ.. وألمٍ…يصعد طريقه إلى الجلجلة بصمت الشهداء والقديسين.. بينما أرى الملايين تئن تحت شوال من التبن…. “.

“متاهة إبليس” رواية تلقي الضوء على شخصيتين مطاردتين من قبل المنظمات السلفية المتطرفة والمليشيات السرية، حيث يتتبع الروائي في هذه المتاهة مصير شخصيتين من متاهته الثالثة “متاهة قابيل”، وهما (حواء ذوالنورين، وحواء الكرخي)، بعد أن هربتا من العراق إلى سوريا، ساردا بشكل  سينمائي مصيرهما مفصلاً في رصد هواجسهما وخوفهما وقلقهما الوجودي. 

(حواء ذو النورين) هي من الشخصيات الغامضة والكتومة، فهي كانت متواجدة في “متاهة قابيل”، بعد هروبها من العراق إلى سوريا، وتاركة وراءها مأساة انتحار ابنها الوحيد (آدم ذو النورين) على أيدي  مجموعة دينية  مسلحة، فهي هاربة خوفاً من أشباح العراق “لقد خطفوا ابني المسالم، المهتم بالأدب والشعر والموسيقى، بسبب إصدار زوجي القاضي حكماً قضائياً على بعض أعضاء تلك الجماعة التي خطفته بالسجن المؤبد نتيجة اشتراكهم في ذبح شاب بطريقة وحشية، وياليته لم يفعل … لكن زوجي قاض عنيد وحازم.. وكانت نتيجة ذلك أن اغتالوه أمام باب الدار وخطفوا ابني..!”، وهي تروي قصتها المؤلمة ..، وإضافة إلى الشخصية الثانية (حواء الكرخي) التي تم قتل صديقتها (حواء الزاهد) من قبل ملثمين كانا يقودان دراجة نارية، أمطرتهم مسدساتهم بوابل من الرصاص بمسدساتهم الكاتمة الصوت وفروا، ولكن حواء الكرخي لم تصب، لأنها كانت تحتضن الطفل الرضيع هابيل في المقعد الخلفي، وهربت إلى سوريا هي والرضيع ومخطوطات آدم البغدادي، الكاتب الأول في المتاهة الأولى “متاهة آدم”.

وتصوير المرأة التي تكون غير متحكمة ومسيطرة على رغباتها، فتصل إلى قاع الجحيم، وتغرق في لذاتها وتعيش مع رجلين، حبيب وعشيق، فهي تحمل في داخلها عقد وحالة عدم سيطرها على اللذة والجنس، شهوانية تريد أن تكون موضع اهتمام واثارة لتشعر بجسدها ويغمرها فرح الأنوثة والعشق والحب وتشعر بالذة الحياة، كما وجدنا عند (حواء الديمشقية) أخذت لها حبيب بمثابة زوج وعشيق آخر، وشخصية مازوخية تتلذذ بالإهانة والاحتقار والتملك الجنسي بصورة متوحشة ” وهل يمكن أن تحب المرأة رجلين في آن واحد..؟ ربما سأخالف كل النظريات والأعراف والتفاليد… وكل الحديث الرومانسي عن الحب والوفاء,.. وأقول نعم… نعم… يمكن للمرأة أن تحب رجلين في آن واحد.. رجل منهما كزوج.. وآخر كعشيق..أنا أعرف أنك ستقولين إنني بالأساس غير متزوجة.. لكني علاقتي مع آدم المفتي هي أشبه بالعلاقة الزوجية بينما علاقتي بآدم سانتشو ماريا زاباتو علاقة عشيق… كنت أحبهما كلاهما .. كل منهما له ضرورة وجودية في حياتي.. “. التعمق في النفس البشرية وخصوصاً عالم المرأة الخفية، فالكاتب متعمق في تحليل وتفكيك هواجس المرأة، وإعادة تشكيلها، تشكيلاً جملياً ضمن المنظومة السردية، الكشف عن رغباتها الدفينة والقاء الضوء عليها، وتشخيص المشكلات التي تعاني منها، ما يجعلها مقيدة ومكبوتة المشاعر، وبالتالي تنعكس في المظهر الخارجي وتؤثر على شخصيتها وكينونتها.

وكذا الأمر مع شخصية “إبليس” الشخصية المركزية الذي تحمل الرواية اسمه، له ثقل وحضور في المتن السردي المتفاعل، يشارك في الحوار ويطرح آرائه، ويوجههم، والروائي يقتنص  شخصية إبليس الموجودة في الديانات ولكن استخدمه في تناص معكوس. فالرواية جسدت إبليس بالشخصية الخيرة وهي ترشد الشخصيات إلى الخير وتوجههم، ولكن زيف البشر وطبيعته المكتسبة من رخام ونتن الواقع، والذي يركض وراء غرائزه، يقتل أو يغتصب أو يسرق … وعندما يشعر بالذنب يلقي اللوم على إبليس، وفي الحقيقة ليس لإبليس وجود، والإنسان يخلقه من خلال وهمه وتبريره للخطاياه، ليشعر بالراحة والاطمئنان، قال ابليس مبتسماً: ” أنا لا أريد منك شيئاً.. أنت نفسك تستطيع أن تعتبرني الشيطان الرجيم، ويمكنك أيضاً أن تعتبرني ملاكك الحارس… أعماقك هي الأساس.. رغباتك الغامضة والمظلمة.. رغباتك التي تعرفها أنت نفسك، يب أفكارك التي تعرفها أيضاً وتؤمن بها.. هي وحدها التي يمكنها أن تجعل مني شيطاناً أو ملاكاً…. الجميع يحتاجني كرمز للشر ليبرروا لأنفسهم كل الأشياء المحرمة دينياً ….”.

إذن، الرواية أرادت أن تصرح بفكرة أن الناس يتخذون إبليس كقناع ليتستروا خلفه عن أخطائهم وذنوبهم وسقاطتاتهم … لكي يبرروا لأنفسهم اقتراف آثام جديدة، فيرتدون أقنعة ويستشعرون مشاعر الضحية، فهذا يلبي حاجاتهم النفسية ويريحهم.  

وتكشف الرواية عن الجانب المظلم والشرير في الإنسان الذي بدا وكأنه الشيطان الأعظم، كما يقول (جان بول سارتر): “الجحيم هم الأخرون”، الذين يحملون حب التملك والسلطة والمال والسياسة والجنس، بعيداً عن طبيعة البشرية ماتحملها من حب وقوة ومشاركة، وجوهر الإنسان وطبيعته يختلف عن ما يتصبغ به من ركامات وأتربة الواقع الصناعي الذي هيمن على جمال الإنسان والطبيعة.

سيمياء العنوان كما هو معروف (متاهة إبليس) يحيلنا إلى الموروث الديني، وتوظيفه برؤيا مختلفة من خلال تقنية (التناص الامتصاصي الإبداعي) و(التناص المعكوس)، ويعد هذه التناصات من أرقى الأنواع وأكثرها جمالياً وأثراً، والروائي لا يوظف المصطلح توظيفاً رتيباً ومللاً ونقل الموروث الديني نقلاً مباشراً وصريحاً، بل نقلاً عكسياً في خلق بنية غنية بالدالات وتحتمل التأويلات والتحليلات، بحاجة إلى قاريء يفك رموزها،  وتفكيكها وإعادة تشكليها وفق رؤية الكاتب الإبداعي يخلق نصاً مغايراً بالواقعية والفانتازية، ويشكل وعي المتلقي الإبداعي وتطوير ذائقته، وإن الرواية تستحيل بفعل ذلك إلى نص روائي مفتوح وإلى نصٍ يتطلب بمفهوم (رولان بارت)، قارئاً يقظاً ومتأملاً من نوع خاص يمتلك القدرة على ردم الفجوات وملاحقة تقلبات السرد واخيراً تقطير المعاني والدلالات التي يزخر بها النص والكشف عما هو مغيب ومضمر داخل المستوى الحضوري لسيل الدالات، ويوظف الروائي تقانة التناص ببراعة وقدرة على تقمص شخصياته مع شخصيات عالمية أدبية ومع الأساطير القديمة، ليغني نصوصه بأفكار وتوجهات تخدم شخصياته، معبراً عن بواطنهم وآلامهم كما وجدنا تناص شخصية (حواء ذو النورين) للتعبير عن شعورها وكينوتها مع الشاعر الروماني الإسكندراني (قسطنطين كافافيس) عندما قرأت حواء ذو النورين قصيدة له تقول:

جدران    

دون أي اعتبار 

دون شفقة

دون أن يبالوا 

ابتنوا حولي هذه الجدران العالية.

اليوم، لا أستطيع أن أفكر في قدَري 

ومصائبه.

وما دامت لدي أشياء كثيرة أقوم بها في الخارج، 

فلِمَ لمْ أحاذر حين أخذوا يبنون حولي الجدران؟ 

لكني لم انتبه إلى أية ضجة من البنائين..

كانوا غير مرئيين 

وأغلقوا عليّ هنا، بعيداً عن العالم.

 اختار الروائي بُرهان شاوي هذه القصيدة تناسباً وتوازياً مع أوجاع الشخصية (حواء ذو النورين)، ليصور ذاتها ويكشف عن أوجاعها، ويعيد ماضيها وحاضرها ومستقبلها المجهول في متاهات الوجود، إذ يمارس ضد الإنسان كل الممارسات العنيفة من قبل البشر، لا يشعر بنفسه وما حوله، وحتى يجد نفسه تائه في متاهات للاوجود وللاحياة، عبرت الشخصية عن أحساسها المفاجىء بما تشعر به من وخز وقلق قائلة : ” يا له من شعر يبهر ويقطع الأنفاس، كأنه يتحدث عني، ياه.. كم من الجدران بُنيت حولي ولم انتبه..؟” فهذه القصيدة عبرت عن حالتها النفسية، وقلقها الوجودي، وعزلتها وفقدانها لمعنى الحياة والسعادة والجمال وحتى الثقة بالآخرين، نتيجة الأشرار التي قابلتهم ودمروا حياتها وحياة عائلتها،  تحولت إلى  شخصية غامضة قلقة، وساعية للخروج من مازقها، مطالبة بحياة أفضل وأكثر أطمئنينة وأستقراراً في مواجهة المجهول الغامض والتائه بقوتها وإصرارها، والحياة وقساوتها تعطي للإنسان القوة في مواجهة الشر وتحدي الواقع. 

إن المزج والدمج بين اللاواقعي والواقعي، والخيالي والوثائقي، والماضي والحاضر، والمعقول واللامعقول، والمرئي واللامرئي، المنطقي واللامنطقي، الحياة والموت، أن تبعد الأحداث من الواقعية الرتيبة، وتتمتع بمدى سعة التخييل، وتشغل ذهن القارىء بفك فراغات ورموز الواقع، وتوهم المتلقي بحقيقة حدوثهما، كونها هجينة من الواقعي والخيال الفنتازي.

يمكن القول  عبر  رواية ” متاهة إبليس” بأن تجربة الروائي (برهان شاوي) تجربة متميزة، وهي من التجارب الروائية العراقية خاصة والعربية عموماً، التي كانت لها الدور في توظيف وتعميق البعد الميثولوجي والفانتازي والعجائبي، والتناص مع الموروثات العربية والعالمية والتحسس العميق بالبعد الواقعي والإنساني، والقدرة الواعية على إعادة خلقه وانتاجه عبر وعي ذاتي وتأويلي ونقدي، ويؤمن بالسيرورة الواقعية وبحركة العالم والأشياء حسب مفهوم (لوسيان جولدمان)، ويطلق الحرية الكاملة للأصوات والرؤى والتبئيرات السردية للتعبير عن ذوتها بروح ديموقراطية ومتفتحة ضمن البنية السردية البوليفونية الواعية بتقاناتها وأدواتها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى