هديّة السّماء

هند خضر | سوريا


في المدينة الهاربة من حزن الخريف ابتلَّ وجه الصّباح بحبّات المطر الّتي انهمرتْ طوال الّليل بلا انقطاع ، تساقطتْ على الطّرقات المظلمة ،الأغصان الغضّة ،الأبواب العتيقة والنّوافذ المغلقة…
تصاعدتْ رائحة التّراب فاستردَّ الصّباح بعضاً من وعيه ثمّ تنفّس من جديد …
وابلٌ من الغيث اجتاح نافذة ماجدة وكادتْ حبّات البَرَد أن تهشّم الزّجاج ،أنصتتْ لعجيج الآلام الخفيفة ،سمعتْ موسيقا هادئة عساها تطرد صخب روحها ،ارتدتْ معطفها الشّتويّ الأحمر فهو يشبهُ وجنتيها الشّهيّتين ،حملتْ مظلّتها وانتظرتْ ريثما تكفّ السّماء قليلاً عن المطر لتخرج …
تأمّلتْ المشهد من وراء نافذتها و طوّقت ذراعيها براحتيها فهي منذ زمن لم تشعرْ بالدّفء ،برد قارس يقتحم عظامها فيسلبها الرّاحة والهدوء وتبدأ رحلة الضّجيج الدّاخلي الّتي لم تنتهٍ أبداً منذ ذلك الحين الّذي سافر فيه جمال إلى خارج البلاد للعمل وانقطعتْ بينهما كلّ سبل الاتّصال ..
كانت دائماً تشعر بوجوده قربها وتحدّث نفسها :يا ترى هل يتّذكرني كما أذكره ؟أمازال يحبّني كما أحبّه ؟
وأسئلة كثيرة تجوب بها بقاع العالم بلا جدوى وتضعها في فراغ قاتل …
إنّه هطول المطر يُخرِج الحنين من رحم الوقت ويجعلنا نعيش على قيد الانتظار هذا كلّ ما بإمكانها فعله ..
توقّفت السّماء عن عزف أنشودتها بعض الشّيء ،أغلقتْ ماجدة باب المنزل وتقدّمتْ نحو شوارع البلدة بخطوات مشتاقة تارةً وتائهة تارةً أخرى ..
تدخّلتْ يد القدر في ترتيب فوضى حواسّها فكانت المفاجأة ..
ناداها صوتٌ خفق معه قلبها ،ما إن التفتتْ حتّى شعرتْ بيد تربّت على كتفها ملامسةً خصلات شعرها المبلّلة ..
جمال ؟!أكاد لا أصدّق متى عدتَ من السّفر ؟
جمال :لا يهمّ ،المهمّ أنّني رجعتُ لأرى وجهك الجميل مع تساقط هذه القطرات المباركة
ماجدة :لقد عصفتْ بي الأشواق في بعدك ،أعددتُّ لك في فؤادي زاويةً لا يتوقّف فيها المطر
جمال :لا جدوى من الاحتماء بمظلّة الكلمات ،ما رأيك بالصّمت ؟فهو أجمل وأبلغ أمام هديّة السّماء
ماجدة :ونحتفظ بهذه الّلحظة الجميلة في ركن لا تطلّ عليه شمس الغياب ولا تقتلعه أعاصير الفراق لتكون طوق نجاة يمتدّ لنا كلّما أوشكت نيران الوجد أن تحرقنا .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى