ثلاث قصص قصيرة: وباء،  ملياردير، بين جبلين

د. قائد غيلان | اليمن

(وباء)

أرسلت تبلغهم بإصابتها بذلك الداء الخطير، وأرسلت له رسالة أخرى. صعدا قمّة الجبل المطل على أحزان المدينة الفارغة، قبّلا بعضَهما بكلّ ما أوتيا من قوّة وحب وشغف، تشـرَّبَ كلٍّ منهما كلّ ما في جسدِ الآخر من كائنات وشوق وحنين وفيروسات قاتلة، عادا إلى المدينة وصفيرُ الرياح يجتاح الطرقات والبيوت والمقابر. تحسّس جيبه وتحسست محفظتها، ضحكا حتى سمع ضحكتهما من في القبور والأماكن العامة، تخيّل قوات الأمن العام والأمن المركزي والاحتياطي العام وقوات الدفاع المدني وهم يوجهّون نحوهما مدافع المياه وأدوات التعقيم والأشعّة القاتلة للميكروبات والفيروسات والجينات الغريبة، وتخيّلت وجه أمّها الشاحب وهي تحذرها من الغرباء. تمسّكت به بكل قواها، وشدّها إليه بكل ما أوتي من أمل، اتّجها صوب سيارة الإسعاف التي فرّ طاقمها، تجوّلا في المدينة الفارغة، تزودا بالوقود المجاني من المحاطات الفارغة أيضا، وزوّدها بما بقيت لديه من طاقة، تجوّلا في المدينة الموبوءة والمطر يغسل كلّ شيءٍ فيها، دخلا كلّ الأماكن المحظورة، ثم عادا إلى حضن الجبل الذي تزودا فيه بكل الأمصال المضادة للغباء والكُره والأمراض المعدية. قالت: لعلّهم يأتون يبنون علينا بنيانا، قال: “فابعثوا أحدكم بورقكم هذه” وأشار إلى قلبه، قالت: “وليتلطّف ولا يشعرن بكم أحدا”،  قال وهو يضع سبّابته على فمها: ليس هناك أكثر لطفاً من هذا، قالت وهي تضع يدها على قلبه: “وكلبُهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد”، فاستحسن لكنـتها المحـبّبة في قلب الكاف قافاً، وكرّر “بالوصيد” وأشار إلى صدرها،  ثم قال: ما أوسع صدرك وما أضيق هذه المدينة. بعد عامين تحوّل الجبل إلى مشاتل كبيرة للورود، والمدينة إلى مزار سياحي لكل عشاق العالم.

 

(ملياردير)

اكتشف الملياردير الشهير في إحدى تجلياته الليلية أن التغيرات التي تحدث لجسم الإنسان عند الشيخوخة سببها تقلبات الليل والنهار واختلاف المناخ، دعا العلماء من مختلف التخصصات ليصمموا له بيتا يثبّت درجة الحرارة ومستوى الرطوبة. بعد عامين تقريبا أصبح عنده منزل ضخم على مساحة كيلو مترين، يحتفظ بدرجة حرارة واحدة ومستوى ثابت من الضوء والرطوبة، تحققت له أمنيته في البقاء شاباً يانعاً لما يقارب مئة وعشرين عاما، شاخ أبناءُ أبنائه وهو مازال يرفل في ثوب الشباب، يؤتى له بعروسة كل بضعة أعوام، لهذا كان يضطر لإجراء بيريسترويكا أسرية كل عشرين عاما.

خرج ذات يوم يلعب مع أحفاد أحفاده في حديقة المنزل ويقطف بعض الثمار. قرّر فجأة أن يتسلّق السور ويخرج يرى الناس كيف أصبحوا بعد هذه الحقبة الزمنية الطويلة. مرّ في الشوارع والأسواق يتأمل وجوه الناس بريـبة وشغف. خرج أبوه مبهوتا يبحث عنه، قرّر أن يذهب إلى قسم الشرطة يقدم بلاغاً رسمياً بالاختفاء. في القسم كان يملي على الضابط معلومات ققد تساعد في العثور ابنه المختفي:

شاب طويل، قمحي البشرة، أسود الشعر، عمره 27 عاما يسكن مع أبويه وإخوته في بيت شعبي في شارع هايل، يعاني من حالة نفسية  منذ شهرين ..

 

(بين جبلين)

يتمركز مع قواته فوق ربوةٍ بين جبلين شامخين، صوّب نظرةً إلى دبّابّاته المحشوّة تحت الأشجار، ونظرةً أخرى إلىمدافعه المنصوبة فوق أكوام من التراب الخشن، تأمّل المئذنة طويلاً، غضِب غضبةً مُضريةً على ما آل إليه الدين والوطن والعِرض، قرّر أن يوقف كل تلك المهازل، حرّك قواته المسلحة، فاحتل كلّ القمم وحاصر السهول والوديان والحقول، قاد بنفسه قواتٍ خاصةً وقوات التدخل السريع، قبض بكلتا يديه على كتفي الراعية حتى كاد أن يخلعهما؛ إن كباشها ورِخالها يمارسون أفعالا مخِلّة بالشرف أمام الجنود، وذلك يثير الغرائز، ويؤخّر النصر، ويشغل الشباب عن الجهاد.

عاد إلى ثكنته مضَـرِّجا بحقده الدفين على أعداء الدين والوطن، أمر بطرد الكلبة التي تصرّ على النوم داخل خيمته، نودي على الصبي الجديد الذي أُحضِر لتعليمه مخارخ الحروف وأحكام التجويد، صعد فوق سارية العلم، صدح بصوته الأجش:

ألَسْتُمْ خَيرَ مَن رَكِبَ المَطَايا     

و أندى العالمينَ بطونَ راحِ

وأندى العالمين بطون راحِ” ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى