قصيدة القناع.. الرمز الأسطوري عند الشعراء الرُّواد

أ.د. رعد أحمد علي الزُّبيدي | كلية الآداب – الجامعة المستنصرية – العراق

             تميّز الرمز الأسطوري في الحضور في شعر الرّواد بشكل كبير وناجح ؛ لأنّه منح تجربتهم الشعرية مرونةً واضحة في التعبير، وفسحة المناورة في الدلالات، والقدرة على الإضافة والتجدد، والاستفادة من ترسّخ المعاني للأسطورة على مستوى البشرية في تاريخها القديم والحديث، وكذلك لأن الأسطورة تعددت تجاربها الكثيرة متناولةً أغلب معاني الحياة والتحديات التي واجهة الإنسان على هذا الكوكب، وبالفعل كانت الرحم الذي ينتج أدباً على قول مالينوسكي.
إن الشاعر والرمز أصبح شيئاً واحداً في قصيدة الشعر الحُر ، فكلاهما يتكئ على الآخر في تجسيد تجربته والإضافة التي تجدد في الرمز الأسطوري ديمومتها ، وتمنح التجربة الشعرية هذا التجذر التاريخي لقضيتها وسعتها الإنساية الكبيرة. وهذا ما يمنح الأسطورة القدرة على بثّ الروح والحياة في الأشياء.. هذه الخصائص وغيرها دَعتْ الشاعر المعاصر الى استلهام الرموز الأسطورية في أقنعته الشعرية .
إن من أهم الرموز الأسطورية في شعرهم كان رمز ( السّندباد ، تموز ، عوليس ،برومثيوس ، عشتار ..) والكثير من هذه الرموز الأغريقية والشرقية . وقد برز منها بشكل لافت رمز السّندباد الذي دار حضوره بين الشعراء على تنوع من دلالاته التي تشاركت مع تجربة الشاعر .
لقد تناول بدر شاكر السّياب، وخليل حاوي، وصلاح عبد الصبور رمز السندباد بشكل لافت وعميق في قصائدهم الطويلة .
يقول حاوي في قصيدته – السّندباد في رحلته الثامنة – :
عدتُ اليكم شاعراً في فمه بشارة
يقول ما يقول
بفطرة تحسُّ ما في رحم الفصلِ
تراهُ قبل أن يولدَ في الفصولْ
     في هذه القصيدة مثّل السندباد الدلالة المضيئة التي أوحت لخليل حاوي بأنّ الرحلة الجديدة الثامنة هي رحلة الأمة وهي تعود الى ذاتها ، سالكةً طريقها الصحيح لعودة وجودها المستحق بين الأمم ، حتى سمّيت هذه القصيدة بقصيدة الأنبعاث العربي ، فهي تحمل حلم الإنسان المتفائل بالقادم لأمته، فكان السّندباد هذا المتفائل العربي في رحلته الداخلية مع ذاته وتطلعاته على غير رحلاته السابقة التي كانت في البحر، والبحث عن التجارة والكسب المادي ، وهي الآن رحلته في البحث عن كينونة الإنسان وماهية الأمة، واصبح السّندباد عنده الإنطلاقة المتفائلة في ضمير الشعب العربي عند خليل حاوي، وقد نجح قناع القصيدة في التعبير عن هذا التطلع المتشرِّب روح المجازفة، والممتلئ تفاؤلاً بالمستقبل، والمؤمن بقدرات الأمة وتحقيق ذاتها .
وفي هذه القصيدة ما يبرر دعوتنا في أهمية اختيار الأقنعة القادرة على تبني موقف الشاعر المعاصر فليس جميع الرموز ناجحة في التعبير عن التجربة المعاصرة، ولكنها قد اجتمعت في رمز القصيدة – السّندباد – خاصية التخطي والمجازفة المعهودة في قصته ، والبحث المستمر عبر رحلاته السبع السابقة، لذلك كان السندباد بهذه الصفات مهيأً لأن يمثل الإنسان العربي الثوري الذي يتطلع بروح الإصرار والمجازمة إلى بعث أمته من جديد، وكما كان السّندباد فرحاً بكسبه التجاري في الأسطورة عاد سندباد القصيدة جذلاً باكتشاف ذاته التي سُلبت منه منذ عهود طويلة في ظل الاستعمار ، والفقر والتخلف والتفرقة.

ويتكرر السّندباد عند خليل حاوي في عدد من قصائده بهذه الدلالات المشرقة للمستقبل القادم كما في قصيدته (وجوه السّندباد) . يقول في المقطع الأخير منها :
اسندي الأنقاض بالأنقاض
شدّيها .. على صدري آطمئني ،
سوف تخضرُّ في اعضاء طفل
عمره منكِ ومنّي
دمُنا في دمه يسترجع
الخصب المغنِّي ،
حلمُهُ ذكرى لنا ،
رجعٌ لِما كنّا وكان ،
     بينما استخدم السياب في قصيدته – رحل النَّهار – اسطورة السّندباد ممتزجةً مع رموز الأسطورة اليونانية في رمز عوليس أحد أبطال حروب طروادة ، وهو يصارع التحديات الجدية من أجل الوصول إلى حبيبته سالماً بعد هذه الحروب الطويلة.

وقد تحدثت الأسطورة عن نجاح عوليس في العودة إلى حبيبته ، ولكنه في قصيدة السّياب لم يكن مقدّراً للرمز بنجاح العودة ، وفشلَ في تحقيق آمال زوجته التي كانت تنتظره عند تخوم البحر ، وهذا يؤكد حجم الإحباط الذي يعيشه الشاعر في تجربته، حتّى أن الأسطورة فشلت في اسعاف آماله وطموحاته :
هو لن يَعود
أوما علمتِ بأنّه اسرته آلهة البحارْ
في قلعةٍ سوداء في جزرٍ من الدَّمِ والمحارْ
///
خصلاتُ شَعركِ لم يصنها سندبادُ من الدَّمارْ
شَرَبتْ أجاجَ الماء حتَّى شابَ اشقرُها وغَارْ
ورسائل الحُبِّ الكِثار
مبتلةٌ بالماءِ منطمسٌ بها ألق الوعودْ
///
رَحَلَ النَّهار
فلترحلي ، رحلَ النَّهار
نلاحظ في تجربة السَّياب مع الرموز الشعرية قد تضمّنت خاصيتين بارزتين ، وهما :
1 – التشابه الكبير بين حكايات الرموز وحكاية السَّياب في تجربته الشخصية، ولاسيما في قضية المرض والترحال المستمر، فكان هذا التَّبني العميق بين الشاعر ورموزه، وهي أهم عناصر النجاح في قصيدة القناع ؛ لأنّه لابد لتحقيق هذا التبني الموضوعي والإستبطان الداخلي للرمز وليست القضية  وصفاً من الخارج للأسطورة ، أو سرداً تاريخياً لها، لأنّها ستفقد البُعد المعاصر للتجربة ، وتكون مجردَ تاريخي غريب مكرر .
2- مقدرة السَّياب والشاعر المعاصر عموماً في تحقيق هذا التَّبني وإضافة التحول والجديد في حكاية الرمز بما ينسجم مع التجربة المعاصرة مع المحافظة على ملامح الرمز.

لقد أضافّ خليل حاوي رحلةً ثامنةً جديدة الى رمزه السِّندباد، وهي رحلة تاريخية لم يسبق للرمز أن مرَّ بها في حكايتهِ التاريخيّة فيما سبق ، وهنا يضيف السَّياب غياب العودة لرمزه – عوليس – وفشله في ذلك وهي إضافة جديدة لم تكن موجودةً في حكاية عوليس الأسطورية الذي عاد منتصراً.

وهذا يمثل قدرة الشاعر الواعي في عصرنة الرموز لديه، ومنحها هذا الحضور  وخلقها ببُعدٍ جديد يحرّك في المتلقي دلالات أخرى تشدَّه الى واقعه المعاش ، وهذا ما يحقق قضية التَّذاوت من وجدان الشاعر الى وجدان المتلقي .
ولربّما لم يخرج صلاح عبد الصبور في رمزه السِّندباد عن الإحباط، والقلق الذي بثَّه السَّياب مع سندبادهِ.

فهو يحاول أن يحقق الحركة وكسر الرَّتابة والروتين من خلال السَّفر والتخطي، ولكن يعود السَّندباد عنده مثقلاً بروح الخيبة والإنكسار. يقول صلاح عبد الصبور :
ملاحُنا هوى الى القاع السَّفين ، واستكانْ
وجاشَ بالبُّكا بلا دَمَعٍ .. بلا لسانْ
ملاحُنا ماتَ قبيلَ الموتِ حين ودَّعَ الأصحاب
والأحبابَ والزَّمانَ والمكان ْ
وكذلك تنوعت الدلالات للرموز عند بقية الشعراء أمثال علي الجندي في قصيدته – الدوار- ، وبلند الحيدري في قصيدته –برومثيوس- التي يقول فيها :
وكالذرى ،
تلك التي لاترى
في صمتها القارص غير الرعود
أعيش في موتي وأقتاتُ من
سرى الذي كان ، فكان الوجود
لا هاجس يبحثُ بي عن صَدى
ولا غد يحلمُ لي بالخلودْ
   لذا فقد عبَّر الشاعر المعاصر عن عصره وجيله من خلال تجربته الذاتية التي امتزجت مع الأسطورة، لكي يستثمر منها شموليتها الإنسانية الواسعة، فهي أقدر في التعبير والمشاركة من خلال انتفاح الأبعاد الدينية والفكرية والثقافية للأسطورة واصبحت بعداً إنسانياً مشتركاً، وهي الخاصية التي وظَّفها الشاعر في استلهام الماضي برؤية الحاضر، ومنح تجربته الشعرية وعيها المتفرد بالموضوعية والمعاصرة في آنٍ واحد .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى