قراءة في رسائل الأسير حسام شاهين إلى ” القمر “

رائد محمد الحواري| ناقد فلسطيني

تكمن ميزة الكاتب المبدع في قدرته على الكتابة بأكثر من شكل، وأكثر من طريقة، وأكثر من أسلوب، بحيادية. بعد أن قرأت راوية “زغرودة الفنجان” لم أك اتخيل أن من كتب ذاك الجحيم يمكنه كتابة نصٍ بمستوى “رسائل إلى قمر”، فاللغة والفكرة وطريقة التقديم والأسلوب كلها تجعلنا نستغرب كيف تمكن “حسام شاهين” من صياغة هذه الرسائل، فقد كانت “زغرودة الفنجان” جحيما، بينما “رسائل إلى قمر” نعيم/جنة/فرح، فعندما نقرأ “زغرودة” نتشنج ونغضب، بينما هنا نفرح، نشعر بالحنان والعاطفة، حتى أننا نبكي فرحا، نبكي إنسانيا على عطاء الشخصيات وتفانيها.
إذن نحن أمام عمل إنساني أدبي، جاء بصورة رسائل، وهذا النوع قليل الإنتاج، ونأمل أن يأخذ مجالا أوسع كحال بقية أنواع الأدب الأخرى، الرسائل موجهة إلى ابنة صديقيه “عماد وشرين”، وبما أن المرسل إليه طفلة وأنثى، فإن هذا فرض أسلوبا ناعما على المرسل “حسام شاهين” بعيدا عن الشدة والغضب، كما جعل المرسل يهتم بالنساء أكثر من الرجال، وكأنه يريد إعطاء “قمر” معلومات/نماذج/فكرة عن المرأة القوية/المناضلة/المعطاءة، التي تتجاوز واقعها وتتألق محققة هدفها رغم ما تواجهه من عوائق وصعاب، فكثرة النساء اللواتي ذكرهن المرسل، تعكس اهتمامه بهن، فهو يريد أن يزيل فكرة (المرأة الضعيفة) من عقل قمر والقارئ، ويريدها أن تكون القدم الثانية التي يقف عليها المجتمع، فالمرأة التي قدمها في رسائله تخدم فكرة تألق المرأة التي تتفوق على الرجل وتتجاوزه.


أما طبيعة النساء التي تحدث عنهن، فنجد الرسائل تناول المرأة العادية إلى المرأة القائدة، وكانت النماذج من القرية والمدينة، من نساء متعلمات إلى غير المتعلمات، ومن النساء الفلسطينيات وإلى الغربيات، وهذا ما يجعلنا نقول أن هذه الرسائل (تنحاز) إلى (الأدب النسوي) الذي يخدم قضايا المرأة ويرفع مكانتها في المجتمع.
أما الأفكار المطروحة فإنها أفكار تحررية، أفكار الحرية، وتحمل الفكر والنهج العقلي، فهي بعيدة جدا عن الطرح العادي/الخطابي المتداول، وهذا ما يعطيها قيمة فكرية.
بما أن المرسل كاتب، فإنه سيقدم معلومات عن كيفية الكتابة وأشكالها: “…لغتي في الكتابة إلى حبيبتي هي لغة مباشرة وشخصية، ولا يمكن أن ألجأ فيها إلى أدوات تفصل الحديث عن المتحدث، ولا عن المخاطب، فعندما أكتب مقالا للجريدة أسعى قدر الإمكان أن أكون راعيا للنص، بمعنى آخر (حيادي)” ص22، فهو يعرف “لقمر” أن هذه الرسائل غير محايدة، وخارجة من داخله، فهي تنبض الحياة والحميمية، فهو بهذه يدعو قمر/القارئ للتوقف عندها لما فيها من روح، لما وضعه فيها من حياة، فهي جزء منه، من كيانه.
ويحدثنا عن أهمية الرسائل بالنسبة للأسير المرسل: “..الحفاظ على الروابط الإنسانية والاجتماعية، …توفر إحساسا باستمرارية بين مرسلها ومتلقيها، وتنقل الأخبار التي يحتاجها كل طرف… تمثل البيت المعنوي الذي يعيش فيه الأسير بكل ما تحمله الكلمة من ألم وآمل” ص23. المرسل هنا يكشف أهمية الرسائل بالنسبة له وبالنسبة للمستقبل، وهو لا يخفي أن الرسائل تعد الماء الذي يحتاجه للحياة، وحتى يجعلها بمكان مقدس: “فالرسائل نوع من العبادة وتجسيد حقيقي للحب” ص25، من هنا علينا أخذ هذه الرسائل على أنها جزء من كيان “حسام شاهين” فهي ليست قابلة للإهمال، وعلى كل من يتقدم منها أن يتعامل معها ككائن حي، وليست مجرد نصوص مكتوبة فقط.
إذا كانت هذه الفكرة قدمها المرسل بطريقة مباشرة، فإننا نجدها بطريقة غير مباشرة، من خلال اللغة التي استخدمها، يقول في “باكورة حلم”: “صغيرتي الحبيبة، يتلعثم القلم عندي كثيرا، خاصة وأنني أمارس الكتابة لأول مرة مراسلا فيها عذرية ونقاء الطفولة البريئة، جاهدا من خلال هذه المحاولة المتواضعة إلى جمع رحيق كلماتي من بستان المعرفة الذي أنعمت به الحياة علي، لأصنع قرصا “قمريا” يليق بمقام ومكانة قمر الحبيبة، طفلة اليوم وأنثى المستقبل” ص39، إذا ما توقفنا عند الألفاظ المجردة، سنجد فيها ما يأخذنا إلى طبيعة المرسل والمرسل إليه، فاستخدامه “يتلعثم، عذرية، نقاء/ طفولة، البريئة، رحيق، بستان، الحياة، قرصا، قمريا، الحبيبة، طفلة، أنثى” كلها ألفاظ بيضاء وناعمة، حتى أننا نكاد لا نجد أي لفظ قاسٍ/مؤلم، مما جعل المقطع ناصع البياض، تجتمع فيه الفكرة واللفظ لخدمة البياض/الفرح، وهذا يشير إلى أن المرسل يتوحد مع النص/الرسالة، فهو يكتبها ليس من خلال العقل الواعي فحسب، بل يضيف عليها عاطفته/مشاعره، لهذا كان هذا النص صافيا، نقيا، لا يأتيه السواد/الألم لا من خلفة ولا من بين يديه”.
كما أننا نجد المرسل يركز على عنصر التأنيث أكثر من المذكر، وإذا ذكر المذكر أقرنه بحالة الفرح والجمال، “رحيق، بستان، مقام، قمر”، فبدا المقطع وكأن الأنثى (منحت) المذكر الفرح والهدوء والنعومة، فجاء بهذا البهاء والهدوء.
والمرسل يقدم أفكاره بطريقة أدبية سلسة، يقول في “غضب”: “حبيبتي قمر… قد يلبسك الغضب بعض الوقت، المهم، كيف يمكنك أن تطرديه عن جسدك، ومن ثم عن نفسك، دونما أن تتعري أخلاقك أمام الآخرين” ص46، الجميل في هذا المقطع أن المرسل أقرن فكرة الغضب بتعرية الأخلاق وليس بتعرية الأنثى، وهنا يكون (وقع) الفكرة وأثرها أكبر على “قمر” التي تعلم معنى “التعري” كأنثى في مجتمع ذكوري.
وعن طبيعة العلاقات البشرية يقول في “علاقة”: “أن أكثر العلاقات صلابة بين البشر، هي تلك التي تحفرها الأيام الصعبة في تجربتهم، بحيث تكون عميقة بعمق المعاناة المشتركة التي يعيشونها معا، وتنقش في ذاكرتهم بطريقة لا تنسى” ص53، هذه الحكمة تأتي من تجربة حياة عاشها “حسام شاهين”.
وذروة الفكر وخلاصته نجدها في “بين الشك واليقين”: التي يطرح المرسل فيها أسئلة وأفكاراً جديدة بعيدا عما هو سائد ومتداول: “…فإن كان الله قد قبل الشيطان نقيضا له في هذه الحياة، وحاوره، لماذا يريد منا البعض أن نرفض الاعتراف بحق من هو أقل خطرا من الشيطان؟ ولماذا نسلم برأي من هو أقل شأنا من الله؟.
…نحن نحتاج إلى أن نعرف الله أكثر، قبل أن نعبده، ونعرفه لذاته بعيدا عن صفقة العبادة مقابل الحسنات، نحتاج إلى أن نعرف أنفسنا وغاية وجودنا أكثر، قبل أن نتبع تعليمات الله التي فسرها لنا الآخرون، …علينا أن لا نسمح لأحد بأن يجعل من وعينا المغيب نقطة ارتكازه في توجيه عقولنا، لأن ذلك يجعل منا بلهاء، وعبيدا لسطلة البشر لا لسطلة الله” ص147، مثل هذا الطرح يعتبر تمردا على ما هو سائد، فالمرسل يفكك طريقة تعامل الله وحواره مع الشيطان، ويقدمها كنموذج/كنهج للتفكير وللسلوك مع المخالفين/المعارضين، فهو يرسم أسس المجتمع المدني المتعدد والمتنوع بعيدا عن سلطة فكر الشموليين، الذي لا يرون ولا يريدون إلا من هو شبيه به أو على شاكلته.
من الأفكار التي تدعو لتحرر المرأة ما جاء في “خارج السياق”: “…فمنذ أن حبس الرجل جمال المرأة في جسدها وفصله عن خصائصها الأخرى، سقطتنا في مستنقع التخلف والرجعية، الطريق الذي يقود نحو شهوة التملك والهيمنة والسيطرة في كل نواحي الحياة، في البيت، والأسرة، والسياسة، والدين، والاقتصاد، وغيرها من الأمور” ص35، فهذا الطرح المتقدم يطرق جدار كل بيت وكل (ذكر) في المجتمع، ويعمل على فتح (ثغرة) في جدار الخزان الذي حبست فيه المرأة.
ومن الأمثلة على أن المرأة والرجل يمكن أن تنشأ بينهما علاقة سوية، بعيدا عن فكرة “ما اجتمع رجلا وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما، يقول في “كاترين وأنا وثالثنا الشيطان”: “أريد أن أقول لك شيئا من الممكن أن يحدث بين الأصدقاء علاقة أحيانا!
ابتسمت في وجهها الجميل الذي يشع نورا ويحمر حرجا في تلك اللحظة، قلت لها: كلامك صحيح مئة بالمئة، ولكن أن حدث بينهما شيء لن يبقوا أصدقاء، أليس كذلك؟
قفزت بعض العبرات من عينها، سارعت إلى مسحها واحتضانها، وهي تقول صحيح، صحيح، صحيح، نامت كاترينا ونمت أنا نوما هانئا في تلك الليلة، وكذلك نام بينا الشيطان ونام الملاك أيضا، لأن الصداقة كانت أقوى منا جميعا” ص171، شاب فلسطيني وشابة نرويجية، ينامان في بيت واحد، دون وجود أحد، ورغم أنه جرى بينهما حوار حول عن علاقة الرجل بالمرأة، ومع هذا لم يقدر (الشيطان) على غوايتهما، وحافظا على إنسانية العلاقة.
والجميل في هذا المقطع ليست الفكرة فحسب، بل طريقة تقديمها، فبعد محاوره صور “كاترين” بطريقة مذهلة: ” قفزت بعض العبرات من عينها، سارعت إلى مسحها واحتضانها،” فتصوير قفز الدموع من عينها جاء بطريقة مذهلة، والغى/محى/أزال (وجود) الجسد وما يحمله من (إثم/غريزة) وجعل العلاقة (روحية)، بحيث كان عناقهما كالأخوة، من هنا ناما معا في نفس المكان.
فالمرسل يشير إلى أن الإنسان يبقى إنساناً ويستطيع أن يرسم له نهجا/طريق في الحياة بعيدا عما هو سائد من أفكار، فهو لم يكن ملزما بالحديث عن هذا الحدث، لكنه أراد به التأكيد على أن العديد من الأفكار والمفاهيم التي يحملها المجتمع خاطئة ومجرمة بحق الأفراد، فليس كل علاقة بين شاب وفتاة تعني أنها محرمة ومحظرة، فهو عندما ركز على الجانب العاطفي أراد به أن يقول أن الفكر/الأخلاق أقوى وأمتن من الغريزة/الجسد، ومن السهل (قتل) الغريزة وإماتتها إذا أراد الإنسان أن يبقى إنسانا.
الرسائل من منشورات دار الشروق للنشر والتوزيع، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى