ذكريات

حليمة أبو حجير – غزة – فلسطين
أجواء الخريف الغريبة في تقلباتها ..دائما ما تأخذني لمكامن غريبة في الروح ..والفكر ..تعصف بوجداني ..فتراني مثله ..أعبث بأوراقي أفتش بينها على ما يوائم حالتي ..أو تجدني أستشعر حالة جديدة ..لماض بعيد أره بصورة محدثة استطاع فكري الوصول إليها أخيرا ..بتنقيح جديد ..
من خلف غبار الماضي البعيد لطفولتي.. تعود أجواء  المساء التي كنا نتراكض بها صغارا ..نجوب الشارع الممتد أمام بيتنا ..ذهابا ورواحا ..ففي آخره يقبع بيت جدي لأبي .. ويعيش فيه عمي وأمه زوجة جدي ..رحمهم الله جميعا .. وكان هذا البيت محببا لنا جدا ..فمنه نأخذ سلال التين والعنب والصبر والجميز ..ونعود بها لأمي  ..وكانت زوج جدي دائما .. ما تذكرنا بأننا يجب أن نذهب للكرم ونحضر ذلك بأنفسنا .. لأنها لن تحضر لنا في المرة القادمة ..وتحضر لنا دائما رغم تهديداتها المستمرة ..
كنا صغارا على الذهاب للكرم البعيد .. في ظل غياب الوالد . .وقد كنا كل مرة نخبر والدتي بأن جدتي تريد منها الذهاب للكرم ..وأنها تتطلب أن نذهب معها في الصباح الباكر حتى نحضر لأنفسنا العنب والتين والصبر  ..فتبتسم امي   ابتسامة خفيفة ..وتقول ولما لا .. اذهبوا معها باكرا ..
وأذكر في ذهابي ذات مرة مع جدتي وكنت في السابعة من عمري  ..وكان الفجر في صحوته الأولى هادئا  لاوجود للمارة في الشارع .. وصلت بيت جدي وامي ترقبني في اخر الشارع ..وحين وصلت كانت جدتي الجميلة تستعد لركوب عربتها التي تجرها حمارة كبيرة  الحجم بيضاء اللون .. وقد سعدت كثيرا برؤيتي ..وغمرتني بحضنها و بالثناء علي ..لكنها كانت مستاءة من أمي وعدم اكتراثها بالذهاب للكرم ..فتنعتها بكلمات الإهمال والتقصير ..فتتأثر من تلك الكلمات ..وأظل صامتة أمامها ..
تحركت عربة جدتي من باب بيتها بمنتصف البريج متوجهة لشرقه ..حيث كروم العنب والزيتون ..المكان الأول لسكن جدي  بعد النكبة ..وما إن تحركت العربة حتى أطلت  عجوز هرمة من بيت صغير مجاور لبيت جدي .. لفت نظر جدتي لها قائلة انظر ي ياجدتي هذه  العجوز ..فضحكت جدتي الجميلة والتي كانت كطفلة في جمالها ..وطيبة قلبها ..هذه الحاجة  جازية أم  عوض ..زوجة جدك ..أي جدتك .. جدك  علي تزوج نساء كثيرات ..
صمت طويلا ..وانا مازلت التفت خلفي على جدتي الجديدة  أم عوض .. والتي لم أرها قبلا ..
ثم عدلت من جلستي والتصقت بجدتي الحبيبة .. وأنا لا أفهم شيئا ..
خرجنا من منتصف البريج ومخيمه الهادئ آنذاك ..وسلكنا باتجاه شرقه الذي يموج بالخضرة و الجمال ..وأنا التصق أكثر واكثر  بجدتي ..لرؤيتي كلب هنا أوكلب هناك ..أشجار الغيلان المتجاورة بإنحناء على المارة  .. تذكرني بالأشباح التي يذكرها الطلاب ..  من سكان وادي غزة .. وجحر الديك ..  حيث يسكن أخوالي ..في ذهابهم للمدرسة ..
ترد السلام جدتي بصوت عال  على من تعرفهم من جيران وأقارب نهضوا باكرا للعمل في حقولهم  ..تتوقف قليلا لتتبادل أطراف الحديث مع أم عبدالله  التي تزرع  حول بيتها ….ينهين الحديث بضحكات من القلب ..ثم تمضي قبل أن تشرق الشمس ..
نصل للكرم الرائع بصبرة المصطف بنظام حوله ..تحت الجميزة الوارفة ..ربطت عربتها ..واستلت  من بين ضلوع الصبر طوالتها  ..وهي عبارة عن عصاة طويلة جدا ..في نهايتها كاس تلتقط به حبة الصبر ..وترميها على كوم من الرمل ..لتفركه قليلا من الشوك ..ثم نضعه في سلة من القش القاسي ذهبي اللون ..ولم تغفل جدتي عن  العودة للوم أمي .. مما جعلني أفكر بعدم  مصاحبتها ثانية ..فتلك أمي .. فلست بالعنب والصبر والثناء الطارئ أحيا فقط ..
حملنا جنينا وانطلقنا عائدتين لمنتصف البريج حيث تجمع الناس الأكثر ..وقد بدأت الحياة تدب في الشارع من باعة متجولون وآخرون يبدأون يومهم ..ونصل أخيرا بيت جدي حيث تبدأ جدتي بإنزال خيرات كرمها ..وتطلب مني الذهاب لبيتنا لاحضر  أخي الأكبر ويأخذ العربة لبيتنا..لإيصال السلال والعودة بالعربة ..أذهب مسرعة وأعود مع أخي لأستمتع بركوب العربة  مجددا  ..
تقف جدتي مهددة أخي الأكبر بإرجاع العربة فورا وأنها ستقف له على ناصية الشارع لترقبه ..وأوصته أن لا يضرب حمارتها  ..وكأنها أوصته أن يفعل ..فقد نال الحمارة من العصي نصف عشرات الأمتار بين البيتين ..
مرت الأيام على ذلك اليوم ودخل الخريف بأرديته الصفراء وجفت شجيرات العنب وعناقيدها .. ولم يعد الذهاب للكرم واردا ..لكن ذهابي لبيت جدي أصبح مختلفا ..فلا أدخل البيت إلا وأرقب بيت جدي الآخر ..جدتي الجديدة  أم عوض ..ليتها تطل ثانية لأرى وجهها المغضوضن بالتجاعيد ..كيف تعيش في هذا البيت وهل هنالك أناس آخرين أقارب لي في بيتها ..تساؤلات كبيرة ..أثقلت  رأسي الصغير الذي سرعان ما نسيها .. وأنا أتأرجح تحت ظل شجرة في بيت جدي ..بدأت جدتي بالوضوء لصلاة المغرب  .. وطلبت  منا المغادرة ..و هي تغرينا بأشياء كثيرة حتى نغادر بحب وسرعة ..
في الصباح الباكر ..يعلو في بيتنا صوت جاراتنا الطيبات ..فقد كن ووالدتي  قد عزمن أمرهن على طبخ المفتول في اليوم التالي .. الاثنين المبارك ..رحمة  على أرواح الأموات ..وتوزيعه على الجيران والأقارب ..كان صباحا مختلفا من نشاط وضحكات وأطباق كثيرة هيأت للتوزيع ..وقد بدأ الإخوة وأولاد وبنات الجيران .. بحمل كل واحد منهم  طبقا للجار أو قريب معين عليه إيصاله لبيته ..وكان الطبق الذي علي أنا  إيصاله ..طبق زوجة جدي الجديدة أم عوض ..بهت من معرفة أمي لأم عوض وقد طلبت مني أن أسالها أيضا إن كانت تريد شيئا.فسألتها أم عوض ؟
أجابتني نعم ..أم عوض زوجة جدك ..وكأنها تعرف أنني اعرفها ..وأنا لولا أن أطلت برأسها  في ذاك اليوم ..لما سمعت بها ..
بيني وبين نفسي ..قلت  إذن امي تعرفها ..إذن لماذا لا نراها كما نرى زوجة جدي أم شحدة ..
أسقط في يدي ..حين وصلت بيت زوج جدي أم عوض ..فقد توقفت أمام البيت المفتوح بابه قليلا .. طرقت الباب بيدي طريقتين  ..وسمعت العجوز تدعو من بالباب للدخول .. ..دخلت ووجدتها بثيابها السوداء ..ووجهها النحيف وجسدها النحيل  .. سألتني من أنا فأخبرتها ..
نظرت لي مليا وذكرت لي جدي وأبي ..ثم صمتت برهة وعادت لتقول وهي تبكي سيعود عوض ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى