حديث الغريب.. أصداء الرحلة (4)

سوسن صالحة أحمد | سورية – كندا
أهِ يا صديقي
هاتِ لي وطناً يُعَوَّلُ عليه
أتساءل… هل مازال الموتُ يأتي بغتةً!!
مع كل الروائح التي تصدر عن الأمة العربية وأشدها ما صدر مرتبطاً بشبهة ربيع، ألستَ معي في أننا أمة تدخل التاريخ من قفاه حتى تغيب في حشىً نتن!!
لا أريد كتابة تاريخ، ولا تسجيل مواقف، الأحداث دونها كثيرون، وحتماً هناك مثلهم ممن حكوا عن معاناة الإنسان، لكن لكل حكاية عبرتها، أكتب ربما يقرأ هذه الرسائل من يتعظ ليكون ماء تطفئ جذوة الحروب، وأعتقد أن كل من كتب عن معاناة إنسان كان هذا قصده، أي شغل في التاريخ كتابة أو قراءة لا يكون الهدف منه إيجاد مواطن الوهم والكذب فيه هو عمل لا فائدة منه سوى مضيعة الوقت، التاريخ للقص أو للتأثير في المزاج والعقل العام هو تاريخ مسيس لا هدف منه سوى مصالح من يعملوا له، تماماً كما ظهر الشيوخ المسيسون ليفتوا في آلة الحرب، ( ومالو ) كلمة جعلتني لأول مرة في حياتي أدعي على إنسان، كان الشيخ القرضاوي حين قال بما معناه.. الثورة تحتاج أن يموت من أجلها الشباب.. فليمت كم من الشباب لأجل الهدف (ومالو)، كان الحراك في بداياته، وكثر المتنطعين إعلامياً كل على هواه ومناه، وطبعا مصلحته، كنا ندور بين المحطات كحجر الرحى نطحن أسانا ونبتلعه بماء أعيننا، نعم نريد الخلاص والعدل والمساواة، لكن معنى الثورة أكبر من إسقاط نظام، الثورة يا صديقي عليها أن تبدأ في الرؤوس، وكما أن هناك حاكماً مسؤولاً، أيضا هناك مواطنة مسؤولة، لست بمعرض الدفاع عن أحد، ولا الانضمام تحت لواء بعينه، لكن هي فكرتي عموما عن معنى الدولة والمواطنة، لا أشك أبدا بأننا جميعنا مسؤولون عن ما حصل ومازال يحصل، على أن من بيده القرار يحمل الجزء الأكبر من المسؤولية.
صرنا حبيسي بيوتنا كل أيام الجمع بسبب المظاهرات التي كانت تنطلق في كل جمعة، لن أذكر تفاصيل الحراك، لكن سأذكر حادثات مستني شخصيا، لأنقل لك معاناة كل سوري بسيط قرأ الحدث مثلي ولم يوافق على حمل السلاح لأي طرف، وسالت من شرايينه كل نقطة دم أُريقت في هذا البركان.
صرنا حين ننزل إلى الشارع أو الأسواق، نرى ملامح غريبة على كل وجه، أضحت الساعات تمر بطيئة مُستَعجَلة، حيث الصبر على الصبر ثنائية متناقضة تقتات الأرواح وتشرب ماء وجوهِ شاخت في محراب الترقب والتوجس والخيفة، نفوس باتت تحاكي حتى السراب أن يكون لتعيش ولو بأمل كاذب أن الاخضرار ما زال يسكن غصن الزيتون، آذان تحلم بسماع لحن لا يذكرها بفقد أو ضياع، قلوب ملآنة بالحب لا تجد ما تنفقه فيه، بشر تعيش حلماً، أن تستيقظ من كابوس أضنى صحوها وابتلع صوتها في صراخ لا يسمعه سواها، فباتت متخشبة الأوصال على سرير عجزها في غرفة منفردة، وفي الغرف الأخرى يعيش واقع يبعد مسافات حلمها ويضَيِّق الفضاء لأنفاسها، ويسيل على صحوها رداءَ يأسٍ من أن تجد طريقاً تخطو فيه أول خطوات الحلم.
في بلدي، أصبحتَ تسير ويطول كل طريق، وما من نهاية لأرصفة الجنون، حيث تلم كل خطوة تعب كل خطاك وخطى أهلك، تقطف من كل شجرة على الطريق ورق موت وشهادة، تتنفس في كل زفير وشهيق روائح اللقاءات الأخيرة، ترى في كل عين نظرة مودع، تلملم الحزن من على أسوجة البيوت بدل الياسمين، تجمع الألم في جيب قلبك بعدما كنتَ تجمع زهر الليمون في منديلك.
في بلدي، اجتمعت كل ألوان الوجع، فما عدتَ تدري من أيها تعاني، أمُ فَقدَت، زوجة ترملت، أب ضاعت أحلامه وقد قضى عمره في التكوين، صبية تخضب فستان عرسها بدم الحبيب، شباب صودِرَت أحلامَها، عوائل تفترش الأرصفة، أكباد لا تجد ما يسد بعضاً من الجوع، طوبُ ورملُ في مشاهد غريبة للخراب تسمع أنينها على تعب يدٍ أنشأت وأنفاس لازمت عمراً، شوارع تشتاق خطا المارين، أصبحت تفوق مدن الموتى وحشة، ولعل أكثرها إيلاماً، أطفال وحيدون وُجدوا على الأرصفة لا يدرون عن أهاليهم شيئاً ولا يجدون للوصول إليهم سبيلاً، وبعضهم ما تجاوز الرضاع.
تتنامى أشجار الحزن بسرعة غريبة تدعوك للشرود في تلك البذرة التي انتشت لتجتاح المدى طولاً وعرضاً و ما بقي قلب إلا واقتات منها حتى أصيب الجميع بتخمة الحزن.
في بلدي، تسأل لماذا، لا للعلم والمعرفة فلا أحد تنقصه المعرفة عن بلدي، هو سؤال استنكار لوجود.
الفرح بات غريباً لا يمر ببلدي
صديقي العابر للعمر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى