رواية “الدّجاجة التي حلمت بالطيران” ما وراء الأكمة (4 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني| أديب وناقد فلسطيني بجامعة الإمارات

وإذا كان فرخ البط البرّي (الأب) يمثّل للدجاجة الصديق الصدوق الذي يُعتمد عليه، فإن فرخ البط البري الصغير يمثّل للدجاجة أكثر من ابن، فهو ابن بالصدفة، ومن شبه المستحيل أن يتكرّر، وهو وساطة حلم الأمومة والطيران، وقد برز في الرواية من خلال مجموعة من الصفات الجسدية والنفسية، “كان الرأس الأخضر يمتلك سمعاً مرهفاً، ولذلك كان يحسّ على الدوام بشبح ابن عرس الزاحف إليه قبل وصوله”، ص ص154ـ 155، وقد كان تميّزه الشكلي، بلونيه الأخضر والبني، وبالاً عليه، إذ عاني الرفض والإهمال من قبل بطات الحظيرة، كما عانى التهديد بقص الجناح من قبل زوجة المزارع، وعلى الرغم من أنّه كان يريد أن يبطبط لا أن يقوقئ، فقد تأخرت إبساك قليلاً في استيعاب هذا الأمر، بدافع الخوف عليه، فحين حاول رئيس البط أن يدفعه إلى الماء “نفشت إبساك ريشها، وصاحت غاضبة: دعه وشأنه.

ركض بايي عائداً إليها، واختبأ تحت جناحها، فتنهد رئيس البط بحسرة:

ـ أنت مخطئة، يظل فرخ البط فرخ بط، حتى لو حضنته دجاجة”، ص113.

غير أنّ الأمر بدأ يستقر تدريجياً لصالح قانون الطبيعة، وصارت البركة والسماء مكانين طبيعيين للصغير بايبي:

  • “لم تتمكن إبساك من الوصول إلى بايبي، لأنه ابتعد كثيراً في الماء (…) كان يطفو على سطح الماء، وإن كان يفعل ذلك بطريقة مضحكة”، ص115.
  • “في أحد الأيام سبح بايبي إلى مسافة أبعد من المعتاد، وعاد مع رئيس البط الذي كان يسبح خلفه”، ص116.
  • “كان الرأس الأخضر منشغلاً بالطيران، ويمضي يومه بكامله عند البركة، وهكذا كانت إبساك تتجوّل في حقل القصب، أو تتسلق التلة لتشاهده وهو يسبح ويطير”، ص136.

وهناك جانب نفسي مهم في شخصية فرخ البط الصغير بايبي الذي بدأ، مع تفتّح وعيه، يعيش صراع ثنائية الانتماء، بين مشاعرة الميّالة إلى أمّه الدجاجة، وبين قانون الطبيعة، وكثيراً ما تسرّب الحزن إلى نفسه نتيجة لذلك الصراع: “ازدادت كآبته هذه بعد أن تغيّر لون ريشه”، ص130، وقد راح ينفرد بكآبته، وبأفكاره بعيداً عن إبساك التي كانت تحس، بوصفها أمّاً، باستغراقه في التفكير بعيداً عنها؛ وإذ يبتعد عنها تشفق على وحدته ووحدتها في آن:

  • “شعرت إبساك بالإحباط لأن الرأس الأخضر لا يشاركها أفكاره حتى عندما تسأله”، ص130.
  • “كان الرأس الأخضر غافلاً عن الوحدة التي تحس بها إبساك، لكنه كان وحيداً أيضاً”، ص137.

وتدرك الدجاجة الأم تدريجياً أن عليها أن تتحمل عقابيل اختلافه عنها، يساعدها في ذلك ابنها البار بايبي الذي يريد أن يبطبط، ولكنه يعبّر في كل مرة عن ذلك بطريقة عاطفية، لا تلغي المشاعر المتبادلة بينهما:

“أعرف أنك تحبينني يا أمي. لكننا مختلفان”، ص139.

“تبدين مختلفة عني، لكنني أحبك يا أمي”، ص172.

وقد ظهر هذا الحب بأنصع بيان في أثناء تطور الأحداث؛ إذ أظهر بايبي كثيراً من العاطفة، وهو يودع أمه إبساك أولاً، وهو يشيعها، ثانياً، بنظرات أخيرة إذ يحلّق مبتعداً عن سربه حتى تراه، بينما أظهرت الأم حبها من خلال تضحيتها ببقاء ابنها لصالح انتمائه لمملكة السماء والحرية.

خامساً ـ حيوانات في سجن الحظيرة:

وفي المقابل برزت حيوانات الحظيرة في موقف عدائي تجاه إبساك، وهو موقف لا يمكن تسويغه إلا بالغيرة من استقلايتها، وتميّزها، أو بعدم استيعاب أحلامها وطموحاتها في مكان يؤمّن طعاماً ممزوجاً بالخنوع الأليف. وتبدو مثل هذه الثيمة التسويغية (الغذاء مقابل الخنوع) مألوفة للقارئ العربي، وحسبنا هنا أن نشير إلى قصة (النمور في اليوم العاشر) لزكريا تامر.

فالكلب الحارس يحرس سجناً هو سجين فيه، ويعمل على منع الدجاجة مع فرخ البط البري الصغير من الدخول إلى الحظيرة: “لا يمكنني السماح لأي كان بالدخول إلى هنا. إنّ سمعتي كحارس لا غبار عليها”، ص39. ويمنع أي محاولة تقرّب الدجاجة من الحظيرة، وكأنّ نباحه لا يُستحضر إلا لطردها: “حاولت إبساك جاهدة إقناع طيور الحظيرة بعدم طردها، لكن شراسة الكلب كانت تزداد عند كلّ محاولة”، ص41.

إنه يتعامل مع الدجاجة، بوصفه موظفاً عند المزراع، مكتفياً بقوت يومه، شأنه في ذلك شأن الديك/ الملك الذي تخاف منه جميع حيوانات الحظيرة، بمن فيهم الكلب (ونستخدم هنا (مَنْ) مع إدراكنا أنّ (مَنْ) تشير إلى العاقل، و(ما) لغير العاقل؛ إذ إننا أمام شخصيات تقترب من النماذج البشرية في مونولوجاتها، وأحلامها، وطرائق تفكيرها، وهي في الأساس تمثّل إسقاطات لشخصيات ذات امتدادات واقعية، تحيل أفكارها على الخير والشر، وعلى السجن والحرية، وغير ذلك مما يقرّب عالم الحظيرة من عالم البشر)، فالديك هنا ملكٌ غير متوّج، أو لنقل إنه ملك ليس له من سطوة الملوك سوى الطعام والتبختر وسط حيوانات السجن/ الحظيرة، والصراخ عليهم، وتدليل دجاجة الحظيرة التي كانت، برغم جمالها ومكانتها، تغار من إبساك: “لا يمكننني أن أرتاح إذا لم تغادر تلك الدجاجة عند الصباح. إن أعصابي لا تحتمل وجودها، وخاصة لأنني على وشك أن أضع البيض”، ص44.

إنه ملك “يمتلك ريشاً جميلاً وعرفاً أحمر اللون. وبدا أنيقاً بعينيه اللتين لا تعرفان الخوف ومنقارِهِ الحاد”، ص16، وهو يستمتع بوظيفته الصباحية “كان ينادي في كل صباح بصياحه المميز كوكو كوكو، لكنه لم يكن يفعل شيئاً عدا عن ذلك غير الاسترخاء مع دجاجة الحظيرة”، ص15، ويفرض سطوته على الكلب، ويأكل من إنائه، ولا يخاف نباحه، و”كانت هذه هي طريقة الديك في تذكير الجميع بأنه ملك باحة الحظيرة”، ص16. ويتجاوز رغبة الكلب في عدم استضافة إبساك في الحظيرة، فيمهلها ليلة واحدة؛ ليثبت للجميع (جميع سجناء الحظيرة) أنه ملك:

  • “سوف أسمح للدجاجة بدخول الحظيرة، وإنّما لهذه الليلة فقط (…) عليكِ أن تغادري ما إن أصيح معلناً طلوع الفجر”، ص43.
  • “خاطبها كأنه يذيع مرسوماً: من الأفضل لك عندما أصيح في المرة التالية أن تكوني في الخارج”، ص46.

ومن الطريف أن تُبرز صن ـ مي هوانغ عيب استئناس المرء بعبوديته، من خلال هذا الديك الذي

يقول لإبساك: “أنت عار كبير على الطيور ذات الأعراف”، ص98، ويتهمها بعدم الخجل، والاستهتار بقيم الطيور ذات الأعراف: “ألا تخجلين من نفسك، أنت التي تنتمين إلى فصيلة الطيور ذات الأعراف، لأنك حضنت بيضة طائر آخر؟”، ص98، في حين أنه يتناسى أن إبساك عملت على تحرير نفسها، بخلاف جميع سجناء الحظيرة البائسة، بمن فيهم الملك/ الديك نفسه.

في هذه المملكة التعيسة يفكّر الجميع بالطريقة نفسها، ويعزّ تفريد الشخصية، وتغلب الصفات الجمعية التي تتماثل في طعامها، وفي تفاصيل حياتها، وفي طريقة تعاملها مع إبساك، ويمكن تجلية ذلك من خلال المقتبسات التالية:

  • “كانت مجموعة كبيرة من البط متجمعة حول إناء خشبي ورؤوسها تكاد تختفي عن الأنظار نحو علفها، فيما ذيولها تشير نحو السماء”، ص15.
  • “وقد دفعها [الكلب] بخطمه عدة مرات، فيما ضحكت البطات كثيراً”، ص40.
  • “دفعت إبساك راسها إلى الوعاء، وابتلعت المزيد من الطعام، غير أن البطات تجمعت حول الوعاء وقد رفعت أذيالها في الهواء، من دون أن تترك فراغاً يسمح بمرور شيء بينها”، ص ص 48ـ 49.
  • “طيور باحة الحظيرة تكرهني على أي حال”، ص61.

ولم يكن سجّان الحظيرة سوى مزارع يمثّل السلطة التي تفيد من الناس، فهو يطعم الدجاجات لكي تعطي البيض؛ إذ يقول وهو يقدّم لها طعام الإفطار:

  • “أريدك أن تضعي عدداً كبيراً من البيض كبير الحجم؛ فقد ارتفع سعر العلف مجدداً”، ص13.
  • “كلي جيداً لتضعي بيضاً كبير الحجم”، ص15.

وقد “كان يردد الكلمات ذاتها في أثناء تقديمه كل الوجبات”، ص15، ويفترض الطاعة في الجميع، لذلك ـ حين رفضت إبساك تناول الطعام “وقف أمامها متعجّباً لأن الطعام الذي وضعه لها يوم أمس  بقي كما هو”، ص17.

ولم تختلف عنه زوجته كثيراً ودارت في فلك المنفعة الشخصية، تستأنس الطائر البري بقصّ أجنحته، وتُخرج الدجاجات العليلة من القن، وتقرّر الإفادة من لحم الدجاجة حين يتعذّر بيضها:

  • “حسناً، إنها لم تعد تضع البيض. هل يجب علينا أن نطبخها”، ص49.
  • “هل يجب علينا أن نضعها في القن؟ أم نصنع منها حساء للعشاء في الغد؟”، ص103.

في المقابل، تبدو شخصية ابن عرس خارج نسق الشخصيات الأخرى، إذ تمتلك حريتها، وتستثمرها في الشرّ (الذي تكتشف إبساك نفسها ارتباطه بالصراع من أجل البقاء)، وتمثل هذه الشخصية القدر الذي لا يكاد يُردّ، فهي الموت الذي يلاحق الجميع، وقد بدأ تعرفها إلى الدجاجة في الوقت الذي تعرفت فيه إلى فرخ البط البري المتشرد الذي ساعدها في الخروج من حفرة الموت، فكان نصيبه حقداً يعتمل في نفس ابن عرس، سرعان ما تجلى بافتراس بطته البيضاء، ثم بافتراسه، وأخيراً بافتراس إبساك: “كان ابن عرس يقف على قائمتيه  الخلفيتين، ويحدّق إلى إبساك من بعيد، ولا بد أنه كان يشعر بالغضب الشديد من فرخ البط البري، لأنه حرمه من فريسته”، ص31.

لقد كان ابن عرس شديد الغضب، وشديد القوة والبطش، وقد ازداد غضبه وبطشه حين تمكنت إبساك في معركة بينهما من اقتلاع إحدى عينيه: “كان ابن عرس ذو العين الواحدة أكبر وأسرع بكثير من العدد الآخر من فصيلته، كما كان رشيقاً وماكراً جداً”، ص163، كما أن “مواجهته صعبة بالنسبة إلى الجميع”، ويندر أن يتمكن أحد من الهرب من بين فكّيه؛ لذلك كانت إبساك محظوظة جدا؛ إذ نجت في البداية منه، غير أنها كانت تخافه كثيراً: “أحست إبساك بموجة من الخوف تخترق جسمها. لم يكن ذلك غريباً لأن عيناً كانت تلمع وهي تنظر نحوها. أدركت فطرياً أن ابن عرس يراقبها”، ص148.

وكان ابن عرس ذاته ميّالاً إلى بث الرعب في نفس إبساك، خاصة بعد أن اقتلعت عينه، لذلك كان يقول لها بين وقت وآخر “إن فرخك شهي، وسوف ألتهمه قريباً”، ص148، و”احرصي على أن تظلّي حية وراقبي جيداً ما سأفعله بصغيرك”، ص149.

وإذا كان ابن عرس يمثّل القدر الحتمي لكل الطيور التي يصادفها على الأرض، فقد استطاعت إبساك أن تتحدى هذا القدر حين حافظت على صغيرها حتى كبر وتمكّن من الطيران إلى مملكة السماء التي لا يطالها أصحاب مملكة الأرض مهما اشتدّ بطشهم.

كلمات أخيرة:

ثمة أشياء أخرى كثيرة يمكن متابعتها في هذه الرواية، لولا خشية الإطالة، من مثل إمكانية مقارنتها مع قصة “البنفسجة الطموح” لجبران خليل جبران، ومن مثل فلسفة إبساك وانشغالها، إذ تراقب الطبيعة، بفكرتي التجدد والاستمرار، إضافة إلى تطور فكرة الحرية لديها. غير أن ما قدّمناه يبدو لنا كافياً لإعطاء فكرة عن رواية جديرة بالقراءة، من قبل مستويات مختلفة من القرّاء؛ لأنها مبنية أساساً على تعدّد الدلالات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى