النقد والدوائر المغلقة.. الشعر بين الفلسفة والرؤية الفلسفية (5- 5)

مصطفى سليمان | سوريا

نشأ تأثير الفلسفة في النزعة الوجدانية في الشعر العربي نتيجة ترجمة الفلسفة اليونانية، وبخاصة كتاب أرسطو في فن الشعر وآراء أستاذه أفلاطون،… إلى جانب ترجمات آداب الهند والفرس وأساطيرهما… وكانت قضية الصدق والكذب في الشعر مرتبطة بالفكر الفلسفي، مقابل الوجدان والمشاعر… يقول البحتري مهاجماً أنصار الفكر في الشعر: (كلّفتمونا حدودَ منطقكم والشعر يًغْني عن صدقه كذبُهْ)، والكذب هنا هو الكذب الفني الجمالي المرتبط بمقولة: أصْدقُ (أو أحسن أو أعذب) الشعر أكْذَبُه. مقابل الصدق المنطقي العقلي الجاف.

والشاعر الناقد الأندلسي ابن خفاجة يسمّي الكذب ” التخييل” وهو مصطلح نقدي فلسفي عند فلاسفة النقد العربي كابن سينا والفارابي… وكان الناقد الآمدي في (الموازنة بين الطائييَن- أبي تمام والبحتري) ميّالاً إلى نظرية عمود الشعر القديم وإلى طريقة البحتري، رغم ادّعائه الحياد بينهما. يقول: (وإذا كانت طريقة الشاعر غير هذه الطريقة وكانت عبارته مقصّرة عنها ولسانه غير مدرِك لها حتى يعتمد دقيق المعاني من فلسفة يونان أو حكمة الهند أو أدب الفرس…قلنا له: قد جئتَ بحكمة وفلسفة ومعانٍ لطيفة حسنة فإن شئت دعوناك حكيماً أو فيلسوفاً، ولكن لا نسميك شاعراً). والمقصود هنا أبو تمام… وبعد الآمدي قال المعرّي موازناً بين المتنبي وأبي تمام والبحتري: (المتنبي وأبو تمام حكيمان. أما الشاعر فالبحتري)… والطريف أن النقاد يُسمّون المعرّي نفسه: شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء.

ومن الأندلس عاب ابن بسّام، مؤلف كتاب “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” إقحامَ الشعراء ألفاظ الفلسفة ومعانيها في الشعر: (فهؤلاء المحْدَثون فزعوا إليها حين عدموا منهج كلام الأعراب فاستراحوا إلى هذا الهذيان). !! فالشعر عنده شعر الوجدان والعاطفة والقلب والمشاعر… وأما ما عدا ذلك فهذيان!

وفي عصرنا هتف عبد الرحمن شكري، من رواد الشعر والنقد الحديثيَن: ألا يا طائر الفردوس إن الشعر وجدانُ… وهاجم محمد مندور، في كتابه (النقد والنقاد المعاصرون)، غلبةَ الفكر الفلسفي في الشعر الذاتي الغنائي، وشعر العقاد بخاصة: (الشعر لا يمكن أن يتسع للفلسفة أو التفلسف… وفرق بين أن يتفلسف الشاعر وبين أن يصدر عن فلسفة خاصة في الحياة والطبيعة. كما أن هناك فرقاً كبيراً بين التأمل الفلسفي وبين التفلسف أو الفلسفة…والذي لا شك فيه أن قوة الانفعال هي التي تولد الرؤية الشعرية لا التفكير الفلسفي الجاف).

وكأن التفكير الفلسفي عند مندور ليس فيه ” قوة انفعال “! فماذا نقول عن فلسفة شوبنهاور ونيتشه واسبينوزا وهي، بشكل عام، فلسفة تصدر عن قوة الانفعال، وبخاصة فلسفة نيتشه في أشعاره…؟ هذه نظرة ” ميتافيزيقية ” تقليدية للفلسفة بتجريدها من الانفعال والمشاعر وكأنها علم المنطق الصارم، أو مباحث ” الإلهيات ” الميتافيزيقية… أفلاطون في ” الجمهورية” أو ” المحاورات ” المختلفة فيلسوف شاعر، أو شاعر فيلسوف كالمعري في ديوانه العظيم: سقط الزند، أو حتى في ” اللزوميات “.

ونعرض رأي العقاد نفسه؛ حيث يركز على تفاعل الفكرة الفلسفية مع الإحساس الشعري أو تركيزها في بؤرة الإحساس بمعادلة دقيقة: (لا بد للفيلسوف الحق من نصيب من الخيال والعاطفة ولكنه أقل من نصيب الشاعر. ولا بد للشاعر الحق من نصيب من الفكر ولكنه أقل من نصيب الفيلسوف. ولا نعلم فيلسوفاً واحداً حقيقياً بهذا الاسم كان خلواً من السليقة الشاعرية، ولا شاعراً واحداً يوصف بالعظمة كان خلواً من الفكر الفلسفي…هكذا كان شكسبير حتى في أغانيه الغزلية، وهكذا كان شعراء الألمان الفلاسفة: غوتيه، وشيللر، وهايني. وهكذا كان قبلهم دانتي في عصر النهضة الإيطالية)… واقرأ ما قاله ” إليوت “: (إن دانتي، قبل أن يكتب الكوميديا الإلهية استفاد بقوة من الفلسفة، وأي فصل لها عن شعره تَجنٍّ، فالفلسفة جزء أساسي من فنه الشعري)

شخصياً أقف هذا الموقف. والمتنبي والمعري مثال تطبيقي عليه؛ وبالذات شعر المعري في ديوان سقْط الزند كما أسلفت. فالشعر الغنائي في تأمله الفلسفي أو التفكير الفلسفي التأملي يكتسب عمقاً خاصاً. فللفكر أيضاً غنائيته. وللفلسفة غنائيتها. ومن يقرأ محاورات الفيلسوف أفلاطون يتمتع بشاعريتها الفلسفية، كتمتُّعه بفلسفتها الشاعرية.

وأخيراً، فإن العبرة تكمن في عبقرية الشاعر بتحقيق التعادلية المتوازنة بين الفكر والوجدان أو بين الشعر والفلسفة، أو التأمل الفلسفي، أو الرؤية الفلسفية، لا الفلسفة العقلانية ذات الحدود المنطقية الخالية من نبض الوجدان، وروح التخييل المبدع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى