سيميائية الوجود العدمي.. قراءة في نص: ” عصر الضجيج ” لـ ” سالم الحمداني “

باسم عبد الكريم | ناقد وشاعر – العراق

(أ) النص -:

من أين يبدأ المصير؟

تأرشفت الملوك والعهود .

عصر تدلى،

عصر تناءى،

وعصر مازال في الضمير .

تعددت الشموس،

والظلام هو الظلام .

أيضمحل الشعاع،

وتبقى الشموع؟

كل المرايا تلاشت

تهشمت

على صدر

أخرى تهادت

من طين غريب،

ونحيب وحشة

بوجه من زبد مريب

كم تعثر الرفيف .

فتعالت اهازيج الدماء،

على متون الصلبان

صبايا يرقصن،

تئن أثداء الأرض

من بطن الضجيج .

استلت صرخة شجن

والفكر بين قضبان المنون

يهتف بكل أشداقه

من أين يبتدئ العروج

والمسير؟

(ب) – القراءة: تفكيك بنية النص السيميائية :

أولا / العتبة العنوانية :

توحي بالامتداد العامودي للبنية الزمانية (العصر)، مبتدأه في الماضي الموغل القدم، حتى آنية الوقت الحالي لكنه زمن بلا ملامح أو هوية، فهو بلا تاريخ، حيزه المكاني غير معلوم الحدود (لازمن بلا مكان)، وبالإحالة إلى متن النص (المتن يفسر العنوان كما عرّفه علم العنة )، نجد أن سماته ضبابية:

(عصر تدلى)/ لا إشارة إلى الموضع الذي تدلى منه، ولا إلى أي منحدر

(عصر تنائى)/ مجهولية المتنائى عنه، والجهة المتنائى صوبها

(عصر مازال في الضمير)/ ضمير من، وما سرُّ هذا المكوث؟

كما إنه ملوث بضوضاء اللامعنى (الضجيج/ بالإحالة الخارجية: صخب وجلبة مختلفة ومتداخلة الأصوات لا يُفهم لها معنى، وهو من ملوثات البيئة الحية، يؤذي ارتفاعه الشديد المسامع، ويتسبب بالتوترات النفسية للسامع .. بذا تكون العتبة مفتاحاً دلالياً، توحي للقارئ بمضمون النص، وتمكنه من دخول عالمه الداخلي وفتح مغاليق معانيه المكتظة بلا منطقية اشاراته وعبثية دلالاتها المعنوية .

ثانيا – البنية الفنية للغة النص :

1 ـ البنية الدلالية: تكاد الاشارات الاحادية المعاني ، المألوفة الدلالة، تطغى على مركبات هذه البنية في مجمل اللغة النصية، كما في هذه العينة :(تأرشفت، تنائى، الضمير، الشموس، الظلام، الشموع، المرايا، الأرض، الفكر ، قضبان ، الخ) فبالرجوع إلى سياقاتها اللغوية، نجد انها مجرد دوال تلازم مدلولاتها المعجمية ، بلا احالة او تناص خارجي ما خلا مرتين ستردان في سياق الدراسة لاحقا.

المقاربة الدلالية: قصدية فقر الاشارات السابقة معنوياً هو خلق مكافئ وصفي لجدب الحياة في مكزمان العصر المذكور

2 ـ البنية النحوية:

أ / الاتكاء قصدياً على الدلالة الاستفهامية

فمطلع النص وخاتمته جملتان استفهاميتان كلتاهما تبدآن بذات الاسم المجرور الدال على مكان (من أين) المتسائل ظاهريا عن فعل الشروع الآني الحدوث، بصورتيه المجردة (يبدأ) والمزيدة (يبتدئ)، إلا أنه يضمر تساؤلاً عن مسكوت عنه (ظرف مكاني يتمم دلالة فعل. الابتداء الذي لكي يتحقق معناه يستوجب وجود موضع مكاني معلوم بمثل بداية منطلقه.. نحو منتهاه / موضع توقفه) .وهذا ما يوضحه الجواب: يبدأ / يبتدئ المصير من المكان (كذا)، عن ذاك السؤال:  من اين يبدأ المصير؟

غير أن ذلكما الاستفهامين مجازيان يفيدان (الاستبعاد) عما يمكن أن تحقق صورته في الذهن (مفهوم الاستفهام الحقيقي) فمكانا المصير والمعراج هما افتراضيان لا واقعيان / المسكوت عنه: لا منطقية الإشارتين

وفي السياق النصي استفهامات أخرى :(أيضمحل الشعاع.. وتبقى الشموع؟) استفهام مجازي تعجبي، من هيمنة الغربة على ذلك المكزمان، ومعمّقة لغربة انسان فيه (الشعاع المضمحل يكافئ دلالياً ديمومة الظلام الموحي بالوحشة والعزلة)/ (وكم تعثر الرفيف) استفهام كما في اعلاه، يفيد معنى التعجب من ترصُّد وتصيُّد ذلك المكانُ النزوعَ نحو الحرية، فآفاقه تضيق بتحليق طيوره / الرفيف + افاق = حرية

ب / لا أسماء أعلام ولا ضمائر أو غيرها من أسماء المعارف تدل أو تشير لعاقل لتأكيد غياب الأثر الإنساني عن المكزمان الممسوخ الحياة

المقاربة الدلالية: المكزمان يزيح، ويقصي ماله عائدية أو صلة بالكائن الحي العاقل / الإنسان،

تكثيف المقاربة: المكزمان ساقط من ذاكرة الوجود الإنساني

مما سبق يتضح أن الاتكاء على دلالات الاستفهام أظهر تحتانية قصد مضمون النص (خواء الوجود إنسانيا)،

3 ـ البنية الزمنية: ابتداء وانتهاء النص بفعل مضارع ، دلالة على استمراريته الحدثية الآن وفي المستقبل، وتواصلية مقاصده

4 ـ الإحالة أو التناص الخارجيان؛ الإشارتان (المصير) و (العروج) إحاليتا الدلالة للسياق الخارجي الديني/ القرآن، وهذا جعلهما يموضعان ذلك المكزمان في (الواقع العربي)

مقاربته الدلالية: مصير الإنسان مقدر عليه مسبقاَ وعليه التسليم به

5 ـ بنية الصور الشعرية:

العناصر المركبة لمعظم هذه الصور متقابلة الدلالة، ومنها (أيضمحل الشعاع، تبقى الشموع، أهازيج السماء، متون الصلبان ، قضبان المنون)

مقارباتها الجدلية المعنوية كما يلي :

يضمحل (أفول)/ الشعاع (توهج)، تبقى (ثبوت)/ الشموع (زوال)، أهازيج (أفراح) / السماء (دعاء وخشوع) …… إلى قضبان (وجود مادي / المنون (عدم حسي)

المقاربة التشكيلية: صور لاواقعية، كاسرة للقياسات الجمالية، لاعقلانية، ترسم غرائبية وتناقضية حياة لا يجد فيها الإنسان ظلاَ لمعناه او صدى لأفكاره.

المقاربة المعنوية: مكزمان متعارض مع الوعي الإنساني.

6 ـ الإزاحات الدلالية والتركيبية :

الاشتغال عليها يتمثل في بعض الاشارات المركبة منها :

(كل المرايا تلاشت) / الدلالة: تبدد صدى اغوار الذات الانسانية الداخلية، غربة نفسية (على متون الصلبان

صبايا يرقصن) / قطف البراءة، وأد الآمال (والفكر بين قضبان المنون) / تغييب الوعي خاتمة النص الاستبعادية الاستفهام (من أين يبتدئ العروج والمسير) مرسِلة إشاراتية الدلالة تعني شعور إنسان هذا المكزمان العربي (باستدعاء الاشتغال التفكيكي على الفقرة 4 أعلاه)، شعوره باليأس من الخلاص وبُعد سبيل الانعتاق (العروج) من غربته الوجودية.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى