التعليم والسعادة.. الغاية والوسيلة

أ. د. جمال على الدهشان | أكاديمي مصري 

إذا كانت السعادة غاية ومطمحا إنسانيا عبر كل الأزمنة والعصور، وإذا كان الإنسان هو غاية التربية وهدفها، وإذا كانت الناس تتعلم أفضل وهي سعيدة، إذا كان الأمر كذلك، فإن السعادة يجب أن تكون أحد الغايات الأساسية للتربية، كما يجب أن تتم العملية التعليمية في جو من المتعة والبهجة.

ولذلك أصبح التوجه نحو التعليم من أجل السعادة توجها تعليميا يمزج بين التعلم الأكاديمي وتنمية الشخصية وتحقيق الرفاه، حيث يزود الطلبة بمهارات الحياة؛ من مثل: التفاؤل والمرونة والإنجاز والمثابرة، وتنمية الفكر والتفكير الذهني الكامل والتفاعل ونحوها، فمن خلال تبني نهج التعليم من أجل السعادة؛ يمكن أن تتحول المدارس  تتحول إلى مؤسسات لدعم قدرات الطلبة وصقل مواهبهم الفكرية وتطوير مجموعة واسعة من نقاط القوة والمزايا والكفاءات الشخصية التي تدعم سعادتهم وإيجابيتهم، علاوة على تزويدهم بالمعارف والمهارات الحياتية التي تحقق لهم الازدهار والمساهمة في ازدهار الآخرين، ومن ثم يهدف التعليم من أجل السعادة إلى تمكين الشباب من مهارات التفكير المرن والتفكير الإيجابي مما يمنحهم الحكمة العملية التي يحتاجونها لاتخاذ خيارات جيدة، والتغلب على الشدائد، والعيش حياة سعيدة وناجحة، والمساهمة الإيجابية في المجتمع.

وتزداد أهمية تبني التعليم من أجل السعادة في ظل ما أشار اليه تقرير الشبكة العالمية للتعليم الإيجابي (2018) بأن واحدا من أصل خمسة أشخاص يعاني من حالة اضطراب واكتئاب قبل التخرج من الجامعة، وأن مستويات الاكتئاب تزايدت بالرغم من زيادة الثروات الوطنية، وما أكد عليه تقرير منظمة التعاون الإسلامي (2017) إلى انتشار حالات انقطاع الشباب عن المدرسة دون اكتسابهم للمعرفة والمهارات اللازمة التي تخول لهم أن يعيشوا حياة تتسم بالمرح والإنتاجية والسلامة الصحية وتحقيق سبل العيش المستدامة. لذلك فإن ضعف جودة التعليم وافتقاره لقيم السعادة تهدد مستقبل ملايين الأطفال والشباب في ربوع منطقة العالم العربي والإسلامي.

إن السعادة في التعليم تحول مدارسنا إلى بيئة ممتعة وسعيدة، جاذبة للطلبة، وذلك إذا أخذنا على عاتقنا نشر ثقافة السعادة والروح والإيجابية والوعي بأهمية التغيير، كمسؤولية مشتركة بين جميع الشركاء لتحقيق ممكنات السعادة، أن التعليم هو أهم عوامل تحقيق السعادة، وبالدرجة نفسها فإن السعادة هي أكثر العوامل فعالية في التعليم، ومتى شعر الطالب بالاستقرار النفسي والشعور بقيمة الذات والرضا الداخلي، يكون أكثر ميلاً إلى الاستقلالية، وقدرة على التحكم في الذات والشعور بالانتماء إلى الجماعة والحماسة للعمل ونضج الشخصية  أن السعادة يجب أن تكون الهدف النهائي الذي نسعى لتحقيقه من كل استراتيجية أو مبادرة في مؤسساتنا التعليمية.

وغالبا ما يرتبط مفهوم التعليم من أجل السعادة بمفاهيم أخرى تناولت هذا المضمون وإن اختلف في المسمى من أبرزها التعلم للمتعة، وبهجة التعلم.

فالتعلم الممتع: هو نهج شامل للتعليم يهدف إلى رعاية شغف التعلم والتطوير المستمر طوال الحياة حيث يساهم في رفع الدافع للتعلم وإحداث حالة من التدفق والمشاركة الفاعلية باستخدام طرق ممتعة ومبتكرة للتعلم، والذي يحول الموقف التعليمي بكل عناصره ومضمونه التعليمي بصورة منضبطة ومتناسقة إلى خبرات تعليمية مرنة وممتعة يشارك الطالب في تحديد مكوناتها؛ بغرض اكتساب المعرفة مع تحقق المتعة وهو كذلك عمل استراتيجي يهدف إلى تطوير الموقف التعليمي بصورة دقيقة من خلال تنظيم يهدف إلى إمتاع المتعلمين بما يتعلمونه، ويكسر مشاعر الملل أو الإحباط التي قد تصاحب المواد التعليمية ذات الطبيعة الأكاديمية القائمة على الاستدلال والمنطق.

وقد ظهر مفهوم التعلم للمتعة Learning for Fun للإشارة إلى مشاركة الطلاب في خبرات تعلمهم وتقييمهم وتمتعهم بعملية التعليم في حد ذاتها، حيث يقدم هذا الاتجاه مجموعة من خبرات التعلم الفريدة والمميزة، والتي سيكون لها انعكاساتها على البحث التربوي المستقبلي وتصميم الخبرات التعليمية.

وقد استقطب التعليم للمتعة الاهتمام العالمي لدى التربويين، ما حدا بهم لوضع قواعد تجعل من التعلم ممتعا قدمتها جانيل كوكس في النقاط التالية:

– دمج التكنولوجيا في التعليم بما يساعد على الاستمتاع والانخراط في التعلم.

– بناء بيئة صفية يسودها المرح وذلك بدمج أنشطة المتعة العلمية في الدروس.

– تكليف المتعلمين بإجراء التجارب بأنفسهم لأنهم يجدون المتعة في الممارسة.

– مراجعة الدروس بصورة مرحة وممتعة من خلال استراتيجيات التعلم النشط.

– الخروج عن الجو التقليدي للصف من خلال الرحلات العلمية واقعًا وافتراضًا.

– تكوين فرق العمل والمجموعات التعاونية التي تساهم في تنمية مهارات التواصل.

– إعطاء استراحة لدماغ المتعلمين من خلال أنشطة كسر الروتين.

– إنشاء مراكز التعلم، لأنها تعطي المتعلمين خيارات متعددة للتعلم.

– تعريف المتعلمين بقدراتهم الأعلى من خلال الذكاءات المتعددة التي توجه الطريقة التي يتعلمون بها.

أما البهجة فهي حالة من فيض السرور والاستبشار والنور والحسن والنضارة، فهي حالة تهيؤ عقلي ورضا نفسي وانطلاق روحي تنشئ حالة من الإقبال على الحياة والنشوة بها، والبهجة للنفس كالماء للأرض الهامدة التي إذا انزل الله عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج.

وبهجة التعلم هي حالة تهيؤ عقلي ورضا نفسي وانطلاق روحي تنشئ حالة من الاقبال على التعلم والنشوة به، فهي بهجة إقبال تدفع المتعلم على التعلم وهي قوة ذاتية تولد لدى المتعلم الرغبة الملحة والعزم والإصرار على التعلم وفى ضوء ذلك فان بهجة التعلم هي: 

– بهجة آنية تلازم عملية التعلم وتكون حاضرة دائما تخفف العناء وتزيد النشاط، وتبعد عن المتعلم اى كلل او ملل او فتور، يبذل الجهد ويعمل العقل ويحث النفس على العمل راضيا مرضيا.

– بهجة بعدية تالية للتعلم وسرور بانتهائه على أكمل وجه، وليس مجرد الانتهاء منه، بهجة انجاز واتمام لنشاطات التعلم وتحقيقا للأهداف.

– غاية تستحق السعي إليها والانطلاق نحوها والحرص عليها. 

– أيضا وسيلة تستوجب الاهتمام بها والتفاني من أجل إشاعتها بين المتعلمين.

السعادة في البيئة التعليمية: 

    إن تحقيق السعادة في البيئة التعليمية أصبح هدفا وهاجسا مستمر لدى كل أطراف العملية التعليمة بكل مستوياتها بدءا من الوزارة ومرورا بالمؤسسة التعليمية المدرسة والجامعة وادارتها ومعلميها وطلابها واسرهم واولياء امورهم، حيث يسعى كل طرف منهم في تحقيق ذلك الهدف من زاويته الخاصة بحيث يحقق تكامل تلك الزوايا الهدف المنشود، متمثلا في السعي نحو نشر السعادة في كل ارجاءها وبين كل أطرافها بما يؤدى الى تحقيق أهدافه في جو من المتعة والبهجة والطمأنينة.

إن الحديث عن بيئة تسعد الطالب يعنى الحديث عن منظومة متكاملة تشمل المعلم والمنهج والمناخ المدرسي وأولياء الأمور والخروج عن الأساليب النمطية في التعليم والتعلم وإتاحة المجال لمشاركة الطلاب في العملية التعليمية بعيدا عن أجواء الورقة الامتحانية التي تقيس الحفظ ولا تقيس الفهم، فمن غير المعقول الحديث عن بيئة تعليمية جاذبة في ظل تواجد نظام تدريسي تقليدي يعتمد على التلقين، ومناهج بعيدة عن حياة الطلاب، واحتياجاتهم وواقعهم، ومعلم غير راضي او محب لمهنته، وامتحانات تقيس الحفظ والتلقين وغيرها من العوامل التي تؤدى إلى تذمر الطالب من المدرسة وتغييبه وهروبه منها.

إن النظر للعلاقة بين السعادة والتعليم يمكن النظر اليها من زاوتين الأولى تتناول النظر إلى السعادة كغاية للتعليم والثانية تتمثل في النظر إلى السعادة كوسيلة للتعليم الممتع او المبهج.  

السعادة كغاية للتعليم: 

في ضوء كل ما سبق فان العديد من الدراسات اكدت على إن السعادة يجب تكون أحد هذه الغايات، حيث يتبنى العديد من الفلاسفة والمفكرين التربويين الرأي القائل بأن تعزيز السعادة والمتعة والرفاهية يجب أن يكون أحد الأهداف الأساسية للتعليم، بل إن بعضهم يجعل من السعادة الهدف الأول للتعليم، وحتى لو كانت السعادة ليست الهدف الوحيد للتربية والحياة لكنها هدف رئيس ومركزي، ويمكن استخدامها كمرآة يمكننا من خلالها الحكم على كل شيء نفعله. 

    في ضوء ذلك فإن التعليم يجب أن يهدف إلى تحقيق سعادة الإنسان على المستوى الشخصي والجماعي، وهذا يقتضي التركيز وإعادة النظر في الأهداف الاجتماعية والثقافية للتعليم وتأكـيـد أهميـة العلاقـات والمشاعـــر الإنسانية والجوانب الوجـدانية فـي العملية التعليمية، وهــو الأمـر الذي يجعلنا نتعامل مع الإنسان باحترام وحب وثقة وأمل، فهذه المشاعر الإنسانية مجتمعة هي ما يمكن أن يميز العمل التربوي الملتزم بالأهداف الإنسانية عن طريق العمل مع الإنسان ولأجله حتى نجعل من رحلة تعلمه رحلة ممتعة مثمرة. 

   إن من أهم الأشياء التي يمكن أن يسهم فيها التعليم في سعادة الإنسان هو الإعداد للحياة الأسرية، وأن المدارس ينبغي أن تعد البنين والبنات لتكوين بيت وأسرة سعيدة، وتنتقد بشدة تجاهل المناهج لذلك الأمر، فعلى الرغم من أنه لا توجد مهمة بشرية تتفوق على الأبوة والأمومة، فإن مدارسنا ترى أن تدريس الجبر والكيمياء أهم منها، وحتى مدارس البنات التي كانت سابقا تعلم التدبير المنزلي والخياطة ورعاية الطفل لم تعد تفعل ذلك بحجة أنها مواد غير مهمة (للمزيد من لتفاصيل انظر : نل نودينجز،131:2009 – 136)

  فالتعليم يجب أن يكون من أجل الإنسان وسعادته ورفاهيته، الإنسان مع نفسه وفـي بيتـه وفي عملـه ومع وطنه وعلاقاتــه المستمـرة التي لا تنقطع مـع كــل البشر، وفي كافة مجالات الحياة.

السعادة كوسيلة للتعليم: 

    والمقصود بالسعادة كوسيلة للتعليم ، هو أن تتم العملية التعليمية في جو من البهجة والمتعة والراحة والحرية، والإبداع والديمقراطية، والعلاقـات الإنسانية السويـة، وأن تكـون المدرسة مكانا للمتعة والسعادة للتلاميذ، وليس معنى ذلك بالطبع – كما تمت الإشارة من قبل – أن يكون التلاميذ سعداء على طول الخط، وأن يشعروا بالسعادة في كل يوم وفي كل لحظة داخل المدرسة، وإنما أن تكون الخبرات التعليمية الإيجابية أكثر من السلبية، وأن يشعر التلاميذ بالرضا العام عن تعليمهم.

   إن السعادة في التعليم تعني تهيئة مساحات للتعلم تجعل التلاميذ سعداء، وأن التعليم يجب أن يتم في جو من الراحة والطمأنينة، وأن خبرة التعلم لا يجب أن تكون مؤلمة ومثيرة للاشمئزاز، ويؤكد على أهمية الأنشطة اللاصفية في هذا المجال، وقبل ذلك كله لابد أن يكون المعلمون سعداء وهم يعلمون طلابهم.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه على كل من له علاقة بالتعليم هو كيف تكون البيئة التعليمية مصدرا للسعاد لأبنائنا، وماهي التغييرات التي ينبغي ان تطرأ عليها حتى تسهم في تحقيق هذا الهدف النبيل؟ 

مراجع مختارة: 

1- باتريك بليسنجر: دور التعليم في صناعة السعادة؟  ورقة بحثية مترجمة  بعنوان  What role should education play in creating happiness?   متاح على https://www.researchgate.net/publication/233869051_What_role_should_education_play_in_creating_happiness

2- تامر الملاح : من استراتيجيات التعليم في اليابان : استراتيجية التعليم المريح ” يوتوري كيوئيكو “ متاح على https://www.new-educ.com/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-

3- حلا أحمد: مصر التعيسة في تقرير السعادة العالمي – المعهد المصري للدراسات – القاهرة – 18 أكتوبر 2019 . 

4- سعاد ياسين الرباعي: الشعور بالسعادة وعلاقته بالعوامل الخمسة الكبرى  للشخصية لدى عينة من طلبة جامعة دمشق – رسالة ماجستير غير منشورة – كلية التربية جامعة دمشق – 2014. 

5- فوزية البكر: كيف يحقق دعم المعلم والوالدين السعادة للتلاميذ؟ متاح على https://www.al-jazirah.com/writers/2017147.html

6- ﻣﺎﻳﻜﻞ أرﺟﺎﻳﻞ: ﺳﻴﻜﻮﻟﻮﺟﻴﺔ اﻟﺴﻌﺎدة – ﺗﺮﺟﻤﺔ: د. ﻓﻴﺼﻞ ﻋﺒد  اﻟﻘﺎدر ﻳﻮﺳﻒ ﻣﺮاﺟﻌﺔ: ﺷﻮﻗﻲ ﺟﻼل – عالم المعرفة – العدد 175- المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب – الكويت – يوليو 1993. 

7- المجلس العالمي للسعادة وجودة الحياة: التقرير العالمي لسياسات السعادة وجودة الحياة نيويورك: شبكة حلول التنمية المستدامة  2019 .متاح على http://www.happinesscouncil.org/   

8- محمد حمادات، احمد القضاة: مستوى السعادة لدى عينة من طلبة جامعة البلقاء التطبيقية في ضوء بعض المتغيرات في المملكة الأردنية الهاشمية – مجلة المنارة – المجلد 22- العدد 3ا – 2016. ص ص 145- 176. 

9- نجاح أحمد الظهار: البيئة التعليمية الجاذبة والطاردة متاح على https://www.al-madina.com/article/338507

10- ندى شوقي: لماذا لا تجد السعادة طريقها إليك؟ متاح على:

https://www.ida2at.com/why-does-happiness-find-its-way-to-you/

11- هيثم محمد الطوخي: السعادة في التعليم رؤية لإصلاح المدرسة، مجلة العلوم التربوية –  المجلد    العدد الاربع – الثالث والعشرون   (الجزء الأول( أكتوبر2015.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى