مشكلتنا مع ” الثورات ” العربية 

 توفيق شومان | مفكر وخبير سياسي لبناني

متظاهرون  بالملايين ومئات الآلاف وعشراتها،  ينزلون منذ سنوات  إلى الساحات والميادين العربية، ينددون بسوء الحال والأحوال، ويندبون ويلطمون واقعنا الأسود وآفاقنا الحالكة.

عاطفيا ، ليس القلب أصم حتى لا تتماهى  نبضاته  مع صرخات  المتظاهرين ونايات  الحناجر المطالبة بنظام شريف وعيش كريم، وعقليا، ليس من الحكمة التماهي مطلقا مع كل شعار وخطاب وحراك،  وهنا يحضر أبو العلاء المعري قائلا :

نهاني عقلي عن أمور كثيرةو

طبعي إليها بالغريزة جاذبي

وعلى هذا النحو تأتي الأسئلة  والتساؤلات،  وفي عناوينها وتفاصيلها يحل السؤال الكبير: ما الثورة؟ ومتى يمكن أن تكون ” الثورات ” ثورات؟.

ثمة ثورات في التاريخ، باتت قيمة إنسانية عليا، بصرف النظر عن تجاذبات السياسة وخصوماتها وتضاربات مصالحها، والثورات تلك، ومنها الثورة الإنكليزية، والثورة الفرنسية، والثورة البلشفية، والثورة الإيرانية، وحتى الثورة الأميركية بعد فطام الولايات  المتحدة عن الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، هي ثورات فكرية قبل أن تكون سياسية، وقبل أن يكون الهامش المطلبي والحياتي واحدا من أهدافها أو أبعادها، ولذلك شكل الفلاسفة والمفكرون آليات إنتاجها، فكانوا عقولها التي سبقت أفعال  الثورات وواكبتها في لحظات اشتعالها وإندلاعها، واستكملوها  بعد قطاف لحظات التاريخ بتصوراتهم ورؤاهم وأفكارهم وفلسفاتهم . 

إذا … المفكرون أولا 

والثورة ثانيا .

كان الناس، وإلى وقت قريب  مستقرين على ظن آثم، بأن الفقر خلقة من الله، وبأن الحُكم يؤتى من الله، وهذه الجبرية الشاملة، ما فتىء  تفعل أفاعيلها في الهند، فطبقة “الشودرا”  أو المنبوذين وتعدادها بمئات الملايين من البشر، ما  هي إلا عقاب بؤس مستطير  نازل على الحياة الراهنة لأفرادها  جراء ما اقترفوه في حياة سابقة وفقا لعقيدة الهندوس، والجبرية الإعتقادية إياها، كانت سبيلا لحكم الفراعنة المصريين، فهم من سلالة الآلهة على ما ظن الناس  آنذاك واعتقدوا، و في الصين  القديمة لم يكن الإنقلاب العسكري الأول الذي شهده تاريخها المكتوب في القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، سوى نزول عند “رغبة السماء”  التي “اجتمعت”  و “قررت” عزل أسرة “تشانغ” عن الحُكم وتنصيب حاكم بديل من أسرة ” تشو “.

في الأمثلة  تلك: 

المفكرون، وأغلبهم كهنة،  كانوا مع  واقع الحال عقولهم  تنتج أفكارا لحماية الوضع القائم  وتبريره وهذا يعني، أن  في نماذج حماية الواقع أو في نماذج الدعوة لتغييره و تثويره، يحتل المفكرون صدارة  الدعوات والدعاة، تسويغا أوتثويرا .

نبقى مع الثورة 

ثمة “ثورات” كثيرة عرفها التاريخ، وغدا إثرها المحكومون حاكمين، وتغلبت جماعة وغُلبت أخرى، وهكذا دارت أيام الحُكم والمُلك كما تدور عجلة الزمن، وسقطت أنظمة وقامت أخرى على أعقابها، فهل تلك ثورات بالفعل؟.

ماذا عن أفكارها؟

ما الذي قدمته للإنسانية؟

وأين مفكروها؟

هذه ليست ثورات، ولذلك غارت في غياهب الذاكرة، ولم يبق في تاريخ أكثرها، إلا واقعة حدوثها، تماما مثل دولة اسبارطة اليونانية، وكانت دولة قوية، لكنها دولة من دون تاريخ كما يصفها  المؤرخ العلامة ول ديورانت، فيما عقول البشر أجمعين ما زالت تغرف من ثقافة مدينة أثينا وأفكارها السياسية والفلسفية و الإنسانية منذ أكثر من ألفين وخمسمائة عام.

قبل الثورة الإنكليزية(1688) والتي يسميها الإنكليز  “الثورة المجيدة”، كتب توماس سميث  في عام 1583كتاب “الجمهورية الإنكليزية”، ودعا من خلاله إلى أن يبقى الملك رئيسا للنظام ويقوم  البرلمان بدور المحكمة العليا، وناقش فرنيسس باكون  السلطة الملكية داعيا إلى تقييدها  وألا تكون مطلقة، وتشعبت مؤلفات وكتابات وأفكار توماس هوبز ( 1588 ـ 1679) ما بين “عناصر القانون” و “كتاب المواطن” والطبيعة الإنسانية والهيئة السياسية “واللاويثان”، ليخلص بنظرية تبحث عن ” الوسط الصحيح”  الذي ينتج مجتمعا سياسيا بميثاق إرادي ونفعي  يؤسس لسلطة  تقوم على عقد ليس بين الحاكم ورعاياه، بل بين أفراد يقررون تنصيب حاكم عليهم، وأما جون لوك (1632 ـ 1704)، فما زال منذ تاريخه يتصدر طليعة الفلاسفة السياسين من خلال كتابيه “رسالة في الحكم المدني” و”رسالة في التسامح”، واللذان سيشكلان معينا لا ينضب في مجالي الفلسفة السياسية والعلوم الإجتماعية.

كان المفكرون الإنكليز قبل الثورة 

استمر المفكرون الإنكليز بعد الثورة .

لا يختلف حال الثورة الفرنسية (1789) عن سابقتها الإنكليزية، فقد مهد كتاب ” العقد الإجتماعي “للفيلسوف جان جاك روسو (1712ـ 1778) الطريق أمام الثورة الفرنسية التي شكلت منعطفا خطيرا في تاريخ أنظمة الحكم والأفكار السياسية على مستوى العالم كله، فيما كتاب “روح  الشرائع” للفيلسوف مونتسكيو (1689ـ 1755) الداعي إلى فصل السلطات  يشكل أسس  الدساتير وقواعد الحكم  في معظم دول المعمورة ، ولم يختلف الحال مع ثورة العام  1968 التي تقدمها فلاسفة فرنسيون مثل موريس بلانشو وجان بول سارتر وجيل دولوز ، مما جعلها عميقة التأثير في فرنسا والعالم.

وبالإتجاه نحو الولايات المتحدة، فقد عمل الأميركيون على المزج  بين  “الحكم المدني”  لجون لوك  و “روح الشرائع” لمونتسكيو، وكان “الآباء المؤسسون” لدولة ما بعد إخراج الإمبرطورية البريطانية من الولايات المتحدة، مثل جورج واشنطن وجون آدامز وتوماس جفرسون وجيمس ماديسون ، أقرب إلى أن يكونوا مفكرين من كونهم رؤساء يحكمون بلادا جديدة  ويتولون أدوات السلطة ويمارسون  السياسة. 

مرة أخرى:

المفكرون  وأصحاب  الرؤى في المقدمة يصوغون الأفكار قبل أن تأتي الثورات ، وإذا جاءت الثورات، وهي في العادة تشبه “الطوفان”  تكون  الأفكار والتصورات مثل سفينة نوح تنقذ الناس من طوفان بعد طوفان بعد طوفان .

إلى الشرق والثورة البلشفية:

قبل ثورة العام 1917، بل قبل ثورة العام 1905، وبعدهما، وضع فلاديمير أوليانوف المعروف ب “لينين” مجموعة كتب من  بينها “ما العمل؟” و”الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”و  “الدولة والثورة” وغيرها.  الأمر الذي كان يعني وضوح الرؤية السياسية  والفكرية للبلاشفة وكيفية إدارة الدولة منذ ما قبل سقوط النظام القيصري وما بعده، وإذا كانت الحلقة المحيطة بلينين ضمت مفكرين نظراء له، من أمثال ليون تروتسكي  وغوركي بليخانوف وجريجوري زينوفييف وليف كامنييف، فإن علاقة لينين بالوسط الأدبي لم تكن أقل شأنا، خصوصا  مع الروائي الروسي  مكسيم غوركي أو مع الروائي الإنكليزي هربرت ويلز أحد مؤسسي روايات الخيال العلمي.

ومع الثورة الإيرانية، لم يختلف المشهد، فقامة فقهية وفكرية  كبيرة مثل الإمام الخميني ، جمعت حولها مفكرين كبارا في طليعتهم محمد بهشتي ومرتضى مطهري، وللأول  مؤلفات  منها:”الحكومة  في الإسلام” والإيديولوجيات المعاصرة  “وأبحاث المعرفة” و”النظام المصرفي في الإسلام” والمعرفة ولغة الفطرة”، وللثاني كتب ومؤلفات معروفة ومتشعبة بين “الفلسفة” و”العدل الإلهي” و”الإقتصاد الإسلامي”  و العرفان والدين والفلسفة “و “الإنسان الكامل”، وغيرها،  مما جعل أفق الثورة  ظاهرا بينا وطريقها واضحة وجلية .

عودة إلى” ثوراتنا ” العربية

هل ما قام ويقوم به المتظاهرون  العرب حراكا مطلبيا أم احتجاجا أم ثورة أم انتفاضة  أم ماذا ؟

 لا ضرورة للغرق في تفسير هذه المصطلحات، المفكرون يفسرونها، ولكن المفكرين غير موجودين لا في الساحات والميادين ولا عند الأنظمة والحكومات، وهذه اشكاليات كبرى .

نحن عراة يا سادة من المفكرين: أنظمة سيئة وعقيمة وأحزاب سيئة عقيمة، موالون سيؤون وعقيمون ومعارضون سيئوون وعقيمون.

  وكل ذلك يطرح أسئلة كبرى:

ماذا عن إسقاط الأنظمة؟

عمليا … سقطت أنظمة عربية عدة وترنحت أنظمة أخرى ، ولكن في مراحل ما بعد السقوط وفي مراحل ما بعد الترنح، لم ينتج البدائليون فكرة بديلة ولم يقدموا رؤية بديلة، وهذه هي حال الأنظمة  العربية، فهي لا تنتج مفكرين ولا تفتح باب التفكير ، ولذلك لا تعرف كيف تجدد نفسها ولا تدرك كيفية الخروج من الكوارث  ، وهي مولودات تلك الأنظمة .

لا إجابات على هذه الأسئلة ولا أجوبة على هذه التساؤلات ، وليس من العقلانية القول إن إسقاط الحكومات  أو الأنظمة يجب أن يتقدم الأولويات وبعد ذلك لكل حادث حديث ولكل واقعة منطق ، فمثل هذا القول ينم عن انعدام الرؤية  واحتجاب  منافذ الطريق ومسالكها .

صحيح أن الحكمة الصينية تقول : ” اشعل شمعة بدل أن تلعن الظلام ” ، والشمعة في هذه  الحكمة  هي الفكرة  العملية   التي تضيء الطريق ، ولذلك لم يقل الحكيم الصيني امشوا في الظلام ، وهذه هي حال  التظاهرات  و” الثورات ” العربية ، فلا أحد يعرف  أين يمكن أن تحط وإلى أين يمكن أن تسير وإلى أين يمكن أن تطير، وأما الكلام عن ” الشارع ”  الذي ينتج أفكاره ومفكريه وقيادييه ، فذاك من ” اللغو الثوري ” ، واللغو عاقر لا ينجب معنى ولا فكرة .

وعلى هذه الحال ، وعلى هذه المقارنات ، وكما بدا على مدى السنوات “الثورية” العربية في السنوات الأخيرة،  ليس كل سقوط حكومة محمود، وليس كل سقوط نظام ممدوح، فالفوضى قد تكون أكثر بؤسا من بؤس الحكومات البائسة والقائمة، خصوصا حين تترافق الفوضى مع بؤس الأفكار وغياب المفكرين والرؤيويين، ووفقا لذلك  يعود الكلام إلى بدأه:الفكرة الثورية  قبل الفعل الثوري والمفكرون يصنعون الثورة في عقولهم والثوريون ينزلون بها إلى الشوارع والساحات والميادين تلك هي الثورة وعلى هذه المعادلات  تُقاس، ومن هذه المعادلات يطل السؤال الأخير:

هل ثمة مفكرون في الميادين ؟!.

هذا السؤال غير مطروح على الأنظمة، فقد سبق القول: الأنظمة  سيئة وعقيمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى