ديوان الشعر العراقي.. فرحة لم تكتمل

عبد الرزّاق الربيعي 

في عام 1993، قبل مغادرتي العراق، جاءني اتصال من الصديق الشاعر علي الشلاه الذي كان قد استقرّ في الأردن، والتحق بالدراسة في جامعة اليرموك، أخبرني، خلاله، أنّه يعكف على وضع مختارات بين دفتي كتاب سيصدر ضمن منشورات” سعد البزّاز” التي كانت أوّل نشاط له بعد لجوئه إلى الأردن، تطارده لعنة كتابه” حرب تلد أخرى” الذي كان سببا لمغادرته العراق، مغضوبا عليه، وكان الهدف من وضع تلك المختارات هو التعريف بالتجارب الشعريّة العراقيّة التي كانت تعاني من العزلة في ظلّ الحصار، ذلك الظرف الصعب الذي جعل الطباعة داخل العراق نوعا من الترف، وكان ذلك قبل صدور سلسلة “ضد الحصار” التي كانت تطبع بورق الصحف، وأضاف أنه سيراعي تنوّع التجارب، وقال إنني من بين من وقع عليه الإختيار ، إلى جانب كل من: جواد الحطاب، وزاهر الجيزاني، وكزار حنتوش، وعدنان الصائغ، وعلي الشلاه، وصلاح حسن، ومحمد تركي النصار،: فتواصلت مع الصائغ، والحطّاب، والراحل كزار حنتوش، والنصّار، أما عن الشاعرين(زاهر الجيزاني، وصلاح حسن)، فقد كانا في دمشق،وبعثت له ما أراد، وبقيت أنتظر خبر صدور الكتاب، دون جدوى، وظننت أنّه من ضمن المشاريع التي نسمع بها كثيرا، ولا نراها!
وعندما وصلت عمّان في 2-2-1994م، كان أوّل شيء فعلته هو السؤال عن الكتاب، فعلمت أنّه جاهز، وعلى وشك الصدور، لكنّ ذلك تأخّر، وبعد عشرة شهور، انتقلت إلى  “صنعاء”، والكتاب مازال حبرا على ورق!
وبعد أسابيع من وصولي “صنعاء” أخبرني أخي عدنان الصائغ بخبر صدوره ، وأوصل لي نسخة من الكتاب الذي حمل عنوان” ديوان الشعر العراقي”، وحمل الرقم(1)، بما يشير إلى وجود أجزاء أخرى، وقد سبق نصوص كلّ شاعر تعريف موجز به لا يتعدى بضعة سطور، في صفحة مستقلّة، وكان معدّل نصيب كلّ شاعر حوالي 15 نصا ، بما يعطي فكرة جيّدة عن نتاجه، وجاء الكتاب الذي بلغ عدد صفحاته 184 صفحة من القطع الكبير، بدون مقدمة، ولم يُذكر اسم ( الشلاه) كمعدّ، أو جامع للمختارات، ولكن الناشر قال كل شيء على الغلاف الأخير بكلمة موجزة، ولأهميّتها، سأتوقّف عندها، فقد جاء في الكلمة ” هذا جزء أول من ديوان لا ينبغي أن يعرف أحد نهايته، فهو أكبر من ديوان شعر، لعله أقرب إلى مرايا تنعكس عليها أمواج حياة العراقي في أكثر سنواته نزيفا، وتماسكا، توهجا، وانكسارا، ويهمني-والكلام للناشر-  أن ألفت نظر القاريء إلى أمرين في هذا الكتاب حتى يكون أمامه تفسيرا لنشر هذا الشعر الجريح”، ويفصّل الأمرين، فيقول في الأول ” إنّ ثمة محاولة، ربما تكون يائسة، ليصبح مشروع هذا الديوان حاضنة لنتاج شعراء حربي الخليج، وما بعدهما، الشهود عليهما، والضحايا فيهما، بعضهم قاتل، ونزف، وبعضهم توجع، لكن لا أحد كان متفرجا فيهما وعليهما، وإذا كانت كبريات حركات الانبعاث الإبداعي في العالم قد ولدت عند حافّات الحروب، والكوارث، فلنا أن نتخيّل كم سيكون المخاض معقّدا لشهود حربين، وشهدائهما، للنازفين فيهما دما، وشعرا”
ويعدُ الناشر في النقطة الثانية أن ” يبقى هذا الكتاب مفتوحا لالتقاء ما يمكن جمعه من نتاج شعراء الداخل، والمهجر، الموطن، والشتات، إذ أن لوحة الثقافة العراقية المعاصرة ستتشكل من هذين الرافدين، لا من إحداهما، أيا كان أحدهما هذا، فالمنافي تبتلع الأجساد، والداخل يتوجع بحملها، الا أن الفضاء في الموطن، والمهجر يتّسع لوجدان واحد، وذاكرة ذات جذور متماثلة، ذاكرة طفلة لا تريد أن تشيخ، لأنها على الأقل صفحة ماء ينعكس فيها صورة شعب لا ينبغي أن يشيخ، فقد طُعن من فوق جلده، وتحت جوانحه، حتى نزف دمه، إلا أن قلبه لم يزل يخفق..”
وبناء على ذلك، فالإصدار جزء من مشروع، كان من الممكن أن تلحق به أجزاء أخرى، لكنّ هذا لم يحصل، فتوقّف مثلما توقّفت الكثير من المشاريع الجماعيّة، مع بدء انطلاق رحلة الشتات.
اكتسب ميزته أنه ضمّ شعراء من داخل العراق، وخارجه- يومها لم تكن بدعة أدباء الداخل والخارج قد ظهرت بعد!- وجمع جيلنا الثمانيني (الصائغ، الحطاب، الشلاه، النصار) والجيل الذي سبقنا(السبعيني) (الجيزاني، كزار حنتوش)، وقبل ذلك صدرت كتبا ضمّت نصوصا لشعراء من الجيل السبعيني (الموجة الجديدة: نماذج من الشعر العراقي الحديث 1975-1986، إعداد وتقديم: زاهر الجيزاني، دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1986) أونتاج شعراء من الثمانيني والذي تلاه (شعر 92، المشهد الجديد في الشعر العراقيّ. وهو من منشورات دار الأمد)، فلم تخضع الأسماء للتقسيم الجيلي أيضا، وكان من الممكن أن يكون نتاج الصديق الشاعر فضل خلف جبر في هذا الكتاب، لكنه كان يومها في صنعاء، والتواصل معه، أيام البريد العادي، يحتاج إلى وقت يتجاوز المدّة المحدّدة، ولا أعرف سبب عدم وجود أسماء شعرية أخرى من السبعينيات كخزعل الماجدي، وأديب كمال الدين، وكمال سبتي ومن جيلنا: كعبد الحميد الصائح وكان في السعودية، ومحمد مظلوم، وكان في دمشق، وباسم المرعبي، وكان يقيم في بيروت، وحميد قاسم وعبد الزهرة زكي، ووسام هاشم، وسعد جاسم، ومنذر عبدالحر، وعلي رحماني، ومن الشاعرات أمل الجبوري، وريم قيس كبه، ولهيب عبدالخالق، ودنيا ميخائيل، وكان الجميع في بغداد، وأظنّ أنّ الخطّة التي وضعت للكتاب جعلت الناشر يؤجّل نتاج أصحاب هذه التجارب لأجزاء أخرى لم تصدر!
وللأسف، فإنّ الكتاب الأنيق، طباعة، وإخراجا، وكان غلافه من تصميم الشاعر زهير أبو شايب، لم يوزّع بشكل جيّد، إلا على نطاق ضيّق، ولم يُقرأ نقديّا، ولم أقرأ عنه خبرا عند صدوره في عام1994م، ولم يرد ذكره، ربّما كونه صدر ضمن “منشورات البزّاز” وكان مغضوبا عليه في بغداد، مثلما كان مغضوبا على أسماء أخرى كعدنان الصائغ، والشلاه، والجيزاني، وصلاح.
واليوم، وأنا أجيل النظر في مكتبتي، وقع بصري على الكتاب، بعد مرور أكثر من ربع قرن على صدوره تبقى له مكانة متميّزة في نفسي، وجاء صدوره في سنوات كانت طباعة نتاجنا الشعري حلما بعيد المنال في ضوء الأوضاع التي كنا نعيشها من “قلّة الزاد ووحشة الطريق”، وفي أمسّ الحاجة إلى كلّ يعزّز ثقتنا بنتاجنا، خصوصا أنّ النصوص، يومئذ، تراكمت على النصوص، وكان أوّل كتاب صدر خارج العراق ضمّ نصوصا لنا في وقت كانت الطباعة شحيحة!
فنفضتُ الغبار عن النسخة الوحيدة من الكتاب، وكم تمنّيت لو أخذ المشروع نصيبه من الاهتمام، وواصل الصدور، فقد كنّا سنجد بين أيدينا أكثر من مدوّنة شعريّة توثّق نتاج تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الثقافة العراقيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى