المسيحيون الفلسطينيون والهوية الوطنية

 نهاد أبو غوش | فلسطين
تتردد بين الفينة والأخرى تحذيرات عن المخاطر التي تحيط بالوجود المسيحي في الشرق، وهي تحذيرات لها ما يبررها بعد ما تعرض له المسيحيون في العراق وسوريا، وسلسلة التفجيرات الدموية للكنائس في مصر والتي سبقها وصاحبها رواج خطاب الفتنة والتكفير، واستمرار النظر إلى المسيحيين كأهل ذمة، ورعايا منقوصي الحقوق، وفشل كل الدول العربية بلا استثناء في بناء دولة المواطَنة القائمة على المساواة التامة بين المواطنين الأحرار في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الدين والعرق والقومية والجنس. نشير إلى أن دولة جارة وقريبة هي تركيا، شهدت خلال العقد الثاني من القرن العشرين فقط، تراجع نسبة المسيحيين فيها من حوالي 30% من إجمالي السكان إلى ما دون الواحد في المئة، وذلك على أثر مذابح الإبادة التي تعرض لها الأرمن والسريان والأشوريون، وحملات التطهير العرقي وتبادل السكان التي شملت اليونانيين سواء البنط على سواحل البحر الأسود، أو الاغريق غرب الأناضول. ماذا بالنسبة لفلسطين، مهد المسيح؟ وهل من خطر يتهدد الوجود المسيحي في بلادنا؟ غالبا ما تتم الإجابة على هذا السؤال باللجوء إلى الإنشاء وحيل البلاغة والكلام العاطفي عن الوحدة الوطنية، والتذكير بعدد من رواد الحركة الوطنية والمثقفين والمبدعين والسياسيين المسيحيين، أو تحميل الاحتلال مسؤولية النزيف المستمر في أعداد ونسبة المسيحيين بين الفلسطينيين الباقين في وطنهم. لكن ذلك لا يكفي لتفسير ولا لتبرير أن نسبة المسيحيين في فلسطين تراجعت من نحو 20 في المئة من إجمالي الفلسطينيين قبل النكبة، إلى ما دون 2% في الأراضي المحتلة عام 1967، في حين تصل نسبة المسيحيين في الأراضي المحتلة عام 1948 إلى نحو 10% من تعداد الفلسطينيين العرب، و2% من إجمالي سكان دولة إسرائيل. يتحمل الاحتلال بلا شك المسؤولية الكبرى عن الظروف المأسوية التي فرضت على جميع أبناء الشعب الفلسطيني بمسيحييه ومسلميه، وهذه الظروف تدفع قطاعات بأسرها للتفكير بالهجرة، ولعل أسبابا ثقافية وديموغرافية تجعل فرصة هجرة المسيحيين وإمكانية اندماجهم في المجتمعات التي يهاجرون إليها أسهل من المسلمين، وللتدليل على ذلك نشير إلى أن الغالبية الساحقة من الجاليات الفلسطينية في أميركا اللاتينية، تشيلي على وجه الخصوص، هم فلسطينيون مسيحيون. إذن التحذيرات والمخاطر جدية وحقيقية، وهي لا ترتبط بداعش والتنظيمات الإرهابية وجرائمها فقط، بل بالثقافة الداعشية وشيوع بيئة طاردة وغير مشجعة، حيث لا زلنا نسمع حتى اليوم من يلقي دروسا في المساجد ويدعو إلى فرض الجزية على المسيحيين متجاهلا المحتلّين والمستوطنين، ونسمع كذلك من يفتي بحرمة تهنئة المسيحيين بأعيادهم، أو يستكثر قيام السلطة بتحصين عدد من مواقع البلديات والمجلس التشريعي للمسيحيين.
خطورة النزيف المسيحي لا تقتصر على مجال الحقوق والواجبات وثقافة التسامح التي نصبو إليها، بل تتعداها إلى المساس بالهوية الوطنية الفلسطينية، فهذه الهوية منذ نشأتها هي هوية تعددية تزدان بكل مكونات المجتمع الفلسطيني وألوانه وأطيافه، وهي نقيض الهوية الأحادية الإقصائية العنصرية التي حملها المشروع الصهيوني، هويتنا الفلسطينية تشبه الثوب الفلسطيني الزاهي المطرّز وعلمنا الرباعي الألوان، ولا تشبه علم داعش ولا “شادور” طالبان. رحم الله الرئيس الراحل ياسر عرفات، حين استفزّه مشروع اسرائيلي- أميركي لاقتطاع حي الأرمن في البلدة القديمة في القدس وضمّه للحي اليهودي، فرد قائلا “أنا ياسر عرفاتيان”، وكان دائما واعيا لأهمية الصورة التعددية للهوية، وحريصا على تمثيلها في المؤسسة الشرعية الفلسطينية بما يشمل الطائفة السامرية واليهود المعادين للصهيونية وخاصة جماعة (ناطوري كارتا) إلى جانب المسلمين والمسيحيين، والقضية تتطلب بالضرورة نقاشا صريحا ومفتوحا وعلى أعلى درجات المسؤولية، لتشخيص المشكلة، وإيجاد الحلول، ووقف النزيف، وحماية الوجود المسيحي التاريخي في فلسطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى