حكايا من القرايا: ” تجربتان في الطبيخ “

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

في إحدى المرات، كتبت عن تجربة لي فاشلة في الطبيخ، وتحديداً في قلْي البندورة، وأكثر تحديداً في إعداد قلاية الشكشوكة… الشكشوكة هي: قلاية بندورة، يضاف إليها بيض مفقوس، وقرن فلفل حرّاق أو (حرّيف) لمن أراد فتح شهيته…

في صباحية يوم جمعة، يوم العطلة الأسبوعية، نهضت باكراً، وانطلقت إلى المطبخ لمفاجأة العائلة في إعداد فطور صباحي لذيذ… طبقه الرئيس ” شكشوكة ” في ذاك الصباح المبارك كانت البندورة في أدنى أسعارها، ولو فتحت سندويشة الفلافل عند بيّاع الساندويشات لوجدتها تنبض حمرة قانية، لكثرة البندورة فيها، علماً بأنه عند غلاء البندورة ستجد لون السندويشة قد تحول إلى الأخضر… لكثرة الخيار فيها… وتراها باهتة بلون اللفت أو زهرية مزينة بالملفوف الأحمر عند غلاء السلعتين…

ما علينا… أحضرت أكبر قلاية في مطبخنا، وبدأت أقطّع البندورة، ويا حدّادي طيحوا الوادي، الزر تلو أخيه… وما أن امتلأت القلاية، وأضحت بحراً أحمر حتى زوّدتها بالزيت، وأتيت بقرون من الفلفل الأخضر، فلفل لعين حرسي في الحرارة… قطّعتها قطعاً، أحسست بالحرارة، وهطلت دموعي، وكأني في مشهد وداع… وكأني أسمعكم تسألون عن الثوم، لم أضع الثوم، تذكروا أن شكشوكتي كانت في يوم جمعة… وأكل الثوم فيه مكروه. ياه! أكثر من تسعين في المئة من العملية نُفّذ، وما بقي إلا القلْيْ، وإضافة الملح، وفقس البيض في لحظة من اللحظات… ولخّ البيض بالبندورة… وبعدها يا قلبي ويش تحب… وكل تا تنعس… والله إشي بفتح النفس خالص…

يا جماعة، هل تدرون ما سأقول؟ والله شيء عجاب… يشبه الكذب… ولّعت الغاز، وحملت قلاية الهنا، ويا للهول! لو تدرون ما حدث… ليتكم لا تدرون… وكأن يد القلاية غير مثبتة بها، والقلاية كأنها تدور حول يدها، وكأن اليد محور، فما أن رفعت قلاية الغفلة، حتى دارت، وأصبح عاليها سافلها، طار ظبان مخّي، وللحظات أردت أن أقاتل أي شيء، أقاتل الغاز المولع، القلاية الخبيثة، جنّاً قلب القلاية… أقاتل نفسي، فشلي، قلّة حيلتي؟ نفخت وأنا أنظر إلى شكشوكتي على بلاط المطبخ، والبندورة أرخت ماءها ليسيل، همهمت، سألت نفسي: وماذا بعد؟ ما العمل؟ أتعترف بالهزيمة يا رجل؟ مرت بذاكرتي عبارة كنت قد قرأتها، وكنت أزيّن بها مواضيع الإنشاء في صغري ” الإنسان لم يخلق للهزيمة… قد يدمر الإنسان ولكنه لا يهزم…” وأنا أخوك يا شمّه! لن أهزم، قررت أن لا أهزم، ولن أرجع بخفي حنين، ولن أخرج من المولد بلا حمص. فكرت… وقدرت… فكرت وأخرجت تفكيري من الصندوق، و نظرت في بلاط مصطبة المطبخ، كان نظيفاً يوجّ وجّاً، رميت القلاية الغادرة وأحضرت أختها، وهجمت هجوم المنتصر أسفى (ألتقط) شكشوكتي عن البلاط، وأنقذ ما استطعت إنقاذه. الله طرح البركة وامتلأت القلاية، زدتها زيتاً وأودعتها نار الغاز… فقست عليها البيض، ومزجته بالمكونات، حتى أصبح أحد عناصرها…

وأكلناها ساخنةً شهيةً حراقةً، أكلناها من مقلاها الرائع، وكان ذاك الطبق من الأطباق التي لا أنساها في حياتي.

قال صديقي: هذا لاشيء. قلت: وما الشيء إذن؟ قال: أتذكر جارنا السعدني، الذي تهجّر بعد النكبة إلى بلدنا، واستقر بعد نكسة سبعة وستين في مخيم في الأردن، قلت: أذكره تماماً، ما به؟ قال: كان رياضياً في شبابه، ولائق الجسد، وتعوّد منذ شبابه أن يضع السدر على طنجرة المقلوبة، ويرفع السدر والطنجرة معاً، ويقلبها وهما على رأسه، وبحركة خفيفة يتناول الطنجرة الفارغة، وينزل السدر المليء عن رأسه… وفي مرة من المرات، ما أجت العتمة عَ قدّ إيد الحرامي، كانت الدار ملآنة بالضيوف، تنتظر المقلوبة والسلطة واللبن… وحمل بطلنا الطنجرة والسدر ورفعهما على رأسه، وللأسف فإن لكل جواد كبوة، وكانت وقعته، أن زحلق السدر عن رأسه، وتدحرجت الطنجرة على الأرض، وسقط الأرز منها على الرجل وكأنه مطر من السماء، وكان حاراً، كأن الرجل غرق في بركان، واللحم تهدّل عن كتفيْه، هنا… وهناك. وسكن بعض القرنبيط  والباذنجان على رقبته وكتفيه، ولم يكن حل إلا بسفي الطبخة، ولمّها وتقديمها للضيوف الذين أكلوا وشكروا… ويا دار ما دخلك شر…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى