نقوش البن.. قصة قصيرة

صابر رشدي | أديب وقاص مصري

هاهو إشفاق حزين، وحنين غامض إلى تلك اللحظات الغاربة، ربما ضعف إنسانى لا تحتمل إنكاره، يراودك، ويطغى عليك، وأنت تتذكرحماقات صغيرة، حتمها ضيق الأفق ودوى السحر على روح مستسلمة، تحيا الوهن، وتتجاهل المستقبل وما اخبرت به عن مصير النكوص. هاهى تجوب العالم، محلقة تحت سماوات بعيدة، وفوق أراض قصية، كى تنأى عنك، تتوارى عن عينيك، وعن محبتك الغامرة، لكنك تستشعر أنها عائدة إليك، بعد هذا الرحيل، من نقطة بداية جديدة، فهذا قدرك، وقدرها أيضا فى هذا الكون الكبير، بعدما أتيحت لك الفرصة، وقرأت كثيرا نقوش البن التي خلفتها ورائها، إثر ارتشافها قهوتها المرة، في تأن وسمت وقور، كنت تنظرحينها إلى تلك الرسوم والتصاوير المبهمة، محاولا فك شفرتها، تمعن النظر جيدا وتنصت إلى بوح الرموز، تلتقط معانيها المفتوحة على عالم من الرحابة والسعة، جعل يلهب خيالك المتوقد، ويزيده اشتعالا. كنت شغوفا بهذه الهواية الفريدة، واقعا تحت سطوة غوايتها،ومذ علمتك جدتك لأبيك، عاشقة البن، وقارئة حظوظ الناس فى الفناجين، العجوز التى لم تكن تفارقها عندما يستغلق فنجان، أو يوغل فى إبهامه، تجلس إليها، تتهجيان نقوشه وطلاسمه، لاتتركانه قبل ان ينقشع عنه الغمام، ويكشف عماورائه، مضيفا إلى ذلك مهارات اخرى، تنتمى إلى الواقع المعاش، والتحليل النفسى العميق،كشخص فريد يؤمن بالعلم والخرافةمعا، مفتونا بأساطير الماضى وحكايات التاريخ، يراودك االفضول حيال دراما البشر والمحطات الرئيسة فى حياتهم، و تنتابك الشكوك إزاء مزاياك العديدة، واستقراءاتك الناجعة، التى تصدرعنك بهدوء وكلمات موجزة، ولا تستطيع السيطرة على تدفقها فوق لسانك،ووكأنها نبوءات حاسمة، يطلقها كاهن عتيدقادم من عصور غابرة، تطلقها فى حالة من اللاوعى أو في إفاقة ذاهلة.
دعها تذهب إذن، وتطلق لحواسها ماتشاء، للهروب من عالمك الذى لايعرف الفتور، ويموج بعناصر الدهشة، والمواقف المذهلة، تمضي بعيدا، إلى أطراف العالم، ربما وجدت هناك حافة تتلوها الهاوية، إذا تقدمت خطوة واحدة إبتلعها العدم، وانصهرت فى عوالم النسيان، مختفية عن عالمها، وعالمك، كأنها لم تتجسد أمامك، أو تتشكل فى وعيك كأثى خالدة، لها حضور فذ وإطلالة باهرة، ستنساها حينئذ،ووتتلاشى من جميع خلاياك، ربما اختفت أيضا تلك الخلايا التى تختزن داخلها رصيد من التفاصيل الخاصة بها، حتى لاتراها فى أحلام اليقظة، أو المنامات الهادئة، كصدى بديع للماضي ومسراته، ستتساقط الذكريات، ولن يبقى غير مساحة فارغة، لاأثرفيها لصور غائمة، أو لحظات شاردة، سيتساقط كل شئ،وحتى تلك النقطة الفاصلة، لحظة مجيئها آليك، وعندما نظرت إلى عينيك، ورأت فيهما الكثير من المزايا النادرة، وقالت بعدها: خذني إليك، إبتعد بي عن عالمي، فأنا قادمة من حيث كنت تراني فى خيالك،ومن تلك الأماكن التي كنت تذهب إليها، بهذا الشوق، باحثا بين هؤلاء اللواتي كن يتقدمن إليك، ليحجبنك عنى، بأجسادهن، وملامحهن المغوية، كنت تعتصرذاتك، ملتمساالحذر، حتى تستطيع تمييز الفوارق الضئيلة بيننا، صامدا في مواجهة كمائن الخداع والتخييل، وهن يتبخترن أمامك بدلال، ويشكلن حواجز كثيفة من الجمال الخارق لاجتذابك، والتأثير على حواسك المستنفرة، كى تغيب عنك صورتى وملامحى.

كنت أبحث عنك منذ أزمنة بعيدة، أراك في لحظات غيبوبتي، وسيم الروح، بهيا ،جميلا، تكسوك غلالة من الحدة والنعومة معا، متأرجحا بين إبداء القسوة والحب الكتيم.
كانت تعرفك إذن، وتعرف أنك تشعربها، وتراها، وتستجيب لندائتها، متظاهرا بأنك لاتعلم أن هناك من يراقبك، ويتابع عمق مشاعرك وأنت تبدي قدرا هائلا من العزة والتصرفات النبيلة، ماضيا بخطوات راسخة ومحسوبة جيدا، تجعلها فى نهاية الامر، أسيرة بك ومتيمة،
كانت تستشعر أريحيتك تجاهها، تجاه خصالها الفاتنة، تعرف المدى الذى أستغرقه حنينها إليك، وهى تختلس منك نظرات أمنة، حتى أسقطها العشق اللحوح كثمرة ناضجة، تحدثك بين الحين والاخر بخجل مفعم بسعادة العثور عليك، بينما أنت مأخوذ، لا تفكر فيما عداها، متوحدا بلحظاتك الآنية ،عدميا تجاه كل ما هوخارج عن هذه اللحظات، الحاضر صار رحيبا، متسعا لأحلامك، لاشيء فى الأفق يبدو مستحيلا، كل الأشياء صارت قريبة وممكنة، حتى جاءت اللحظة، عندما سيطرت عليها فكرة الرحيل بطريقة صادمة، وبصلابة رأى لاتعرف الانثناء أو الحاجة إلى أسباب قاتلة، وقلت لها بهدوء: وكما تشائين، هذا قرارك،وولكنك تتجاهلين قسما،ووعهدا، وشروط قاسية،ولم تكن بي رغبة لإقرارها، لكني تقبلتها أمام توسلاتك، ورغباتك غير المعلنة فى الاستحواذ والسيطرة. وجعلت تقص عليها كثيرا من حكايات الماضى، ولكن ملامحها ترجمت عنادا تاما ،ثم حيادا غبيا، رغم اقتناعها بفداحة النكوص، اليأس لم ينفد إليك. قلت أخيرا بنبرة حانية: لن تحتملي الفراق طويلا، سيقهرك الحنين، ستعودين حزينة، وتدخلين فى رحلة أخرى سيتم طى الماضى من أجلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى