أريد أن أكون نجمة

محمد عبد المنعم زهران | أديب مصري

في طريقي إلى المدرسة، مررت –كعادتي-  بكوثر، رأيتها تقف في شرفتها وتلوح بيدها، فتوقفت بانتظارها، وأنا أحاول باستماتة ألا أفكر في أي شيء؛ لأن التفكير يدفعني إلى الخيال، والخيال يؤلمني!

   ولكن الخيال كان قد بدأ يلعب مرة أخرى، ولم أنجح في السيطرة عليه. حاولت مقاومته بالتفكير في شيء مريح، وهو اعتقادي بأن ما  حدث في الأسبوع الماضي، ربما كان بتأثير الأفلام السينمائية التى أراها لأني أحبها. وكررت لنفسي “كان فيلمًا رأيته، وأريد أن أنساه الآن”!! 

    وجدت كوثر تندفع جرياً نحوي وهي تحمل حقيبتها، ساعدتها في وضع الحقيبة على ظهرها وسرنا معاً. كنت أريد أن أحكي لها، لأنها مثلي “برج العذراء” وستفهمني. نحن متشابهتان في أمور كثيرة لأننا ننتمي لنفس البرج، ولكنني كنت أشعر بأنها تختلف قليلاً، ولم أستطع معرفة هذا القليل بعد. عند بوابة المدرسة ظهر أخي “عمر” الذي يكبرني بعام مندفعًا من خلفنا، دائمًا يتأخر ويضطر للركض.

يجب أن أضع حدًا للتفكير الذي يؤرقني، لن يحدث هذا إلا الأربعاء والخميس القادمين، حين تذهب أمي لقضاء اليومين مع جدتي لأنها مريضة، بدأ الأمر عندما ذهبت لجدتي في الأربعاء والخميس الماضيين، وكان عليّ أن أنتظر. 

   إذا كان الأمر يتعلق بالأفلام السينمائية، فيمكنني أن أصبح كاتبة أفلام حين أكبر، إذا لم يكن ما حدث حقيقي فأنا أتخيل. تبدأ كتابة الأفلام بالتأكيد من الخيال. كنت أفكر في هذا بينما أجلس في الفصل ولا أنصت إلى المعلم أمامي، وعندما سألني ارتبكت وقلت إنني لم أفهم، ورأيت كوثر تنظر لي باندهاش! في طريق العودة كنت صامتة، وكوثر تتكلم. سألتني كوثر وقلت لها إنني أفكر في شيء مهم. 

   في بطء شديد جاء الأربعاء، ذهبت إلى المدرسة ومر اليوم بطيئًا جدًا، لم أجلس في الفصل لأنني أفرغت ما في بطني عدة مرات طوال اليوم دون أن يعرفوا. عندما عدت كانت أمي تستعد للذهاب إلى جدتي، وقد أعدت طعامًا يكفي ليومين، شرحت لي كل ما تريدني أن أقوم بعمله طوال اليومين، وكنت صامتة.

لماذا لا تتكلمين؟ هل فهمت كل شيء؟

قلت لها “نعم”, فاقتربت مني وتحسست بيدها جبهتي وعنقي ويدي وسألتني بقلق

هل أنت مريضة؟! وجهك أصفر وجسمك بارد!

قلت لها إنني بخير، فقالت إنها ستتصل بي لتطمئن. عندما خرَجَتْ دخلتُ إلى غرفتي ونظرت إلى المرآة.. رأيت وجهي أصفر فعلاً! عيناي مرهقتان، لأنني لم أنم تقريبًا منذ الأربعاء والخميس الماضيين. أو ربما كنت أنام وأفكر أثناء نومي.

   جاء أبي وسأل عن أمي، وأعددت الغداء وأكلنا وسألني عن المدرسة والمذاكرة ودخل لينام، وأنا تركت طبق عمر لأنه سيتأخر، ودخلت إلى المطبخ لأغسل أطباق الغداء وأنا أفكر. 

   في المساء خرج أبي، وجاءت “كوثر” لنذاكر معًا واستطعت أن أطرد التفكير، ذاكرنا جيدًا وقضينا بقية الوقت في حل الألغاز. وشعرت بأنني على ما يرام. إذ كنت قد توقفت عن التفكير طوال الوقت الذي قضيته مع كوثر. كنت لا أريدها أن تذهب، وعرضت عليها أن تنام معي، ولكنها اعتذرت. وقالت ربما في الأسبوع القادم. وعندما خرَجَتْ وأغلقتُ ورآها الباب ارتعش جسدي فجأة. 

   في العاشرة مساءً عاد أبي، وسألني بغضب، وقلت إن عمر قد نام وإنني كنت أنتظره! جلس أمام التلفاز فدخلت لأنام ورأيته يراقبني حتى أغلقتُ الباب. بكيت قليلاً لأنه كان حادًا على غير عادته. توقفت عن البكاء وقررت أن أنسى كل شيء وألا أفكر وألا أهتم وأن أنام فقط. 

   دون رغبة مني انتبهت في الثانية عشر تقريبًا، لأنني لم أنم تقريبًا. دون رغبة مني أيضًا سمعت صوت باب الشقة ينفتح، وصوت أقدام أبي وصوت أقدام أخرى وهمس. تمامًا كما حدث في الأربعاء والخميس الماضيين. ولعب الخيال كما لعب معي طوال الأيام السابقة، ولكنها كانت اللحظة المناسبة لأتأكد أنه خيال فقط. وبرغبة هائلة لم أستطع مقاومتها، ودون شعور بالخطأ، خرجت ومشيت باتجاه حجرة أبي وأمي، وبارتجاف وأنفاس متلاحقة نظرت من ثقب الباب!

   لا أتذكر كيف عدت إلى غرفتي، وجلست أمام النافذة المفتوحة، هناك معاول تضرب رأسي من الداخل، تضربها بقوة، وكنت أشعر بنبض عروقي في رأسي. بدأ هذا في اللحظة التي نظرت فيها من ثقب الباب، كنت أبكي دون صوت. 

   الأشياء البشعة كانت تتحرك أمام عيني دون رغبة مني، أبي وزميلته في العمل. صديقة ماما. كنت أشهق وأنا أزيح بيدي الأشياء البشعة حتي لا تبقى أمام عيني، ولكنها كانت تبقى، وكانت تعاندني ويكون لها صوت! في السماء كان القمر نصف كرة بيضاء، بجواره نجمة.

   استيقظت لأنني كنت قد نمت دون رغبة، يبدو أنني نمت وقتًا قصيرًا لأن السماء كانت ما تزال سوداء، عدت أنظر إليها مرة أخرى. كان القمر قد ابتعد، ولكن النجمة ظلت في مكانها. لم أكن أبكي. تعلقت عيناي بالنجمة، كانت تلمع ببريق جميل، حولها هالة بألوان أخرى جميلة وهادئة. 

 نمت بعمق وعندما استيقظت على صوت كوثر بالخارج، تأكدت أنني تأخرت فارتديت ملابسي بسرعة وخرجت. عندما رأتني كوثر قالت إن وجهي أزرق! 

في المساء جلست أنتظر أبي وفكرت أن أقول له كل شيء، ربما سأبكي وأصرخ وأقول إن عليه أن يتوقف عن هذا، ورتبت كل ما أريد قوله. بالتأكيد لن أقول لماما أبدًا!  كنت أشاهد التلفاز عندما انفتح الباب ودخل، واندهش لأن وجهي أزرق، قال كلامًا كثيرًا عن ضرورة أن آكل، وعن الغداء والعشاء فأومأت برأسي. لم أقو على الكلام أو النظر إليه، كان هناك شيء يقف بيننا لم أفهمه، شيء خامد وساكن وشعرت أن الهواء بيني وبينه لم يكن موجودًا فاختنقت فجأة ودخلت غرفتي لأنام.

   في تمام الثانية عشرة جلست أمام النافذة، ونظرت إلى السماء، كان القمر بعيدًا والنجمة وحيدة تلمع، رأيتها تبتسم وتتأرجح في السماء. كانت النجمة تدفعني للنوم بعمق، فنمت بعمق.

   استيقظت مبكرًا، ومررت بباب أبي بينما أخرج، كنت أعرف أنها ستخرج بعدي مباشرة، وكنت أعرف أنها انتظرت طويلاً بالأمس لأنني تأخرت في النوم. لم يكن خيالاً! 

   ببساطة خرجتُ سعيدة لأن أمي ستعود أخيرًا، سأجدها حين أعود من المدرسة، ثم شعرت بالحزن والضيق ولكن كوثر فاجأتني وقالت إن وجهي بنفسجي! وفي الفصل أجبرتني المعلمة على العودة إلى البيت لأنها قالت بقلق إن لوجهي لون غريب!! ولم تقل ما هو!

   في البيت قالت أمي لأبي “وجهها كان أصفر أول أمس” وقال أبي ” وجهها لم يكن أصفر أبدًا! كان أزرق لأنها لا تأكل”. لم أكن أرى أبي لأن هذا الشيء ظل بيني وبينه، وشعرت بأنهما ينظران إلى برعب لأن وجهي بنفسجي.

   في العاشرة مساء أكلت في سريري، وماما بجواري، أكلت كثيرًا لأن الطبيب قال إنني لابد أن آكل، رغم أنني كنت آكل. فتحت أمي النافذة لأنني أحببت أن أريها النجمة، ولكنها كانت تنظر إلى القمر! وحين أطفأت المصباح لم يكن وجهي بنفسجيًا، كان بنفسجيًا وأبيض لأن النجمة كانت تضيء وجهي.

   في الصباح لم أذهب إلى المدرسة، ولم تأت كوثر لتذاكر معي لأنها كانت تعتقد أيضًا أنني مريضة، بالليل قررت أن أذهب إليها ولم تمانع أمي لأنني قلت لها شيئًا مهمًا عن الدروس، بالطبع كنت أريد أن أعرف الدروس التي فاتتني، ولكنني أيضًا كنت أريد أن أخرج فقط.

   لا أريد تكرار قولي إنني لم أنم فعلاً، وأنني فتحت النافذة ونظرت إلى النجم الذي يلمع لأتمكن من النوم. أعتدت على ذلك!!

   في الصباح لم أكن أريد الذهاب للمدرسة ولكن أمي أيقظتني لأن كوثر تنتظرني، وقالت أمي بذعر إن لون وجهي يشبه لون الورد، تأملتني مرة أخرى وقالت إنني بخير وإن الدماء تسري في وجهي مرة أخرى. خرجت ومشيت صامتة مع كوثر وكانت تتكلم ولا أنصت. 

   في الليل كانت دوائر كثيرة تتشابك برأسي، وكنت أنهض وأجلس وأنهض وأتمدد ولا أنام. وعندما تأملت النجمة استطعت أن أنام أخيرًا.

    في الحلم رأيت أبي يقول بصوت جميل “إننا نحب ونساعد ونفعل الخير من أجل أن نمارس الأشياء البشعة! ورأيت كوثر تقترب بوجهها مني كثيرًا.. وجهها حزين. رأيت عمر يلعب معي الكوتشينة ويغش، ويبكي لأنه لم يفز ويشتكي لماما. 

قالوا إنها حمى وإن وجهي مزيج من الأزرق والبنفسجي والأصفر والوردي والأبيض، وإنني كنت أهذي وأقول “أريد أن أكون نجمة”.

 في الأيام التالية توقفت عن الكلام، لأنني لم أجد أحدًا يفهمني، أو ربما -كما يقولون- لأن كلامي نفسه لم يكن مفهومًا. وبدت لي الحركة صعبة جدًا فبقيت ساكنة في فراشي. 

في المساء فتحت أمي النافذة لأتمكن من النوم، وكانت تتكلم، لم أكن أسمعها. كما لم أسمع شيئًا بعد ذلك.

   في يوم لا أتذكره دخل أخي عمر بعد أن اختفت النجمة بقليل وطلع الصبح، مال عليّ وقبلني وخرج بسرعة، كان يبكي.

   في وقت لا أتذكره رأيت أبي يقف أمامي ويقول “لن أفعلها مرة أخرى”.. قال إنه سمعني وأنا أتكلم في نومي، كان يبكي فابتسمت له، لأنني رأيت الشيء الذي بيني وبينه قد ذهب، وقلت له إنني فقط أريد أن أكون نجمة. لكن صوتي لم يخرج. وشعرت به يحضنني!

   في يوم جميل أحببته، اختفت الرؤية أمام عيني، كنت أرى فقط بياضًا مبهرًا تتخلله ألوان أخرى لامعة وجميلة، رأيت وجهي أبيض أيضًا. آآآآه.. أشعر الآن بأنني خفيفة جدًا.. لهذا بدأت أتحرك بهدوء.. بيتي يبتعد كثيرًا.. أتذكر أنني رأيت أمي تبكي وتناديني، أبي أيضًا كان يبكي وعمر وأصدقاء وأقارب! لم أكن أفهم لماذا؟ 

   بعد أيام رأيت أمي تنظر من نافذة حجرتي، بعد قليل ظهر أبي بجوارها ثم عمر، كنت أريد أن أقول لهم: “أنا الآن نجمة! نجمة صغيرة وجديدة تلمع في السماء.. انظروا” ولكنهم أغلقوا النافذة واختفوا! أعرف أنهم لن يتمكنوا من رؤيتي أبدًا، ورغم هذا كنت سعيدة لأنني أستطيع أن أراهم من أعلى، كما أرى كل شيء، أراه بصورة جميلة جدًا، ولكن دون تفاصيل، لأن التفاصيل تؤذي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى