جمال عبد الناصر.. ولادة المخلِّص وموته

د. أحمد نسيم برقاوي | أكاديمي فلسطيني

حين انتصرت ثورة 23 تموز 1952 ولد المخلّص ـ جمال عبد الناصر- ولأول مرة منذ أزيد من ألف عام ونصف ألف عام عاشت جماهير العرب حال حضور المخلص.
كان هذا الطالع من صعيد مصر، ذو الأصل القروي ومن بني مر، المتنقل مع والده الموظف الصغير في مؤسسة البريد، حالماً ببزة عسكرية ونجوم على الأكتاف وكان له ما أراد.
البكباشي عبد الناصر يقود تنظيم الضباط الأحرار، وما هي إلا بضعة شهور بعد الثورة، حتى يصير زعيم مصر الأوحد ورئيسها المحبوب. الذي ورث دولة مصرية فاسدة منهزمة.

عبد الناصر صار قائداً للضباط الأحرار، قبل أن يصبح في عيون الملايين قائد الأمة، لماذا هذا الاسم؟ لتجمع ثلة من الضباط مختلفي الإيديولوجيات والمواهب؟
إن الضباط الأحرار لا تعني سوى أنهم حاملو لواء حرية مصر. حرية مصر من قيدين، قيد التبعية لانكلترا، وقيد الملكية الفاسدة الراضية بالانكليزية، والتي هُزم جيشها في حرب 1948.
عبد الناصر زعيم الضباط الأحرار رجل مغامر ،صادق نزيه، ذكي مثقف حالم، خبيث ،وفوق هذا وذاك منتم إلى روح الشعب المصري. إذ لأول مرة منذ حكم المماليك، مروراً بحكم محمد علي باشا وعائلته، يحكم مصر مصري من صعيد مصر ومن الشعب المصري.
لماذا تعلق معظم الشعب المصري بعبد الناصر؟
أدخل عبد الناصر الفلاحين إلى التاريخ، ادخل القرويين الفقراء إلى عالم الوعي الذاتي بأهميتهم، حطم هيمنة باشوات مصر الإقطاعيين، وحدَّ من العائلات الباشاوية المدنية. وغير الطبيعة الطبقية للنخبة العسكرية كلياً، هذا التغير الذي بدأ بعد حركة عرابي باشا، خاطبهم مباشرة باللغة الشعبية دون ترفع، أظهر كرامة المصريين عبر ظهور كرامته أمام الغرب.
لماذا تعلق به الناس عربياً؟مصر الدور والدولة الأكبر والثقافة والحضور حملت عبد الناصر لتبني الفكرة القومية العربية التي اعتملت في ذهنيته أيام الفالوجة وحرب فلسطين، مصر الدور كانت دائماً قومية لكن عبد الناصر جعل من ذاته مخلّصاً قومياً عربياً.
الحدث الأبرز في صعود صورة المخلص العربي القوية ، العدوان الثلاثي على مصر وانتصاره النهائي على التبعية للغرب. انتصر عبد الناصر على الاستعمار وقناة السويس التي كانت رمزاً للاستعمار صارت شركة وطنية.
إنه وقد انتصر على الاستعمار في مصر، قرر أن يخوض حرباً إيديولوجية على مستوى الأمة. كانت مفاهيم الإستعمار والصهيونية والإمبريالية والرجعية مفاهيم خطابه السالب لأعدائه هذه المفاهيم التي راح عبد الناصر يكررها دائماًَ بارتباط بنقيضها:الأمة والشعب والحرية والقومية والعروبة والتقدم والإشتراكية والوحدة.
الملايين العربية الخارجة من نتائج الحرب العالمية الثانية والتي تعيش في دول جديدة أفرزها التقسيم الاستعماري لم يخالجها أي شك بقدرة المخلص على تحقيق الوحدة العربية. أما الجرح العربي العميق الذي مثلته نكبة فلسطين، فقد حمل الملايين لوضع ثقتهم بعبد الناصر مخلصاً ومحرراً.
لقد انتصر عبد الناصر في الوعي العربي مخلصاً،مما دفع عسكر سوريا الحاكمين فعلاً في سوريا للوحدة مع مصر بقيادة عبد الناصر بسهولة لا مثيل لها في التاريخ، ليصير المخلص حاكماً فرداً في دولة الوحدة.
لم يكن الوعي الشعبي السوري والمصري والعربي عموماً ،معنياً بمفاهيم الديمقراطية وحرية الفرد وحرية الصحافة والقول والمجتمع المدني ،حتى الشعبان المصري والسوري اللذان خبرا الحياة الديموقراطية لم يكترثا بزوال النظام الديموقراطي فيهما، ذلك أن الوعي بالمخلص الوعي بالخلاص قاد طبيعياً الوعي الشعبي أن يكون المخلص حاكماً فرداً، وأعداؤه يجب أن يسجنوا بل ويقتلوا.
لم تكن أجهزة الأمن عموماً التي أسسها عبد الناصر أجهزة امن تقنية، بل أجهزة أمن مؤمنة إيماناً مطلقاً بصوابية المخلص، والمختلفون معه ليسوا مختلفين معه، بل أعداء الأمة وعملاء للاستعمار والرجعية ولهذا كان قمعها شديداً يصل حد القتل.
يكتسب المخلص لدى جمهور عربي عريض ذي وعي ديني صفة القداسة فالمخلص هنا يستند إلى وعي ديني بالأصل.

إن قال فهو قول فصل، وإن فعل ففعله الصواب، لقد صار معصوماً كعصمة الإمام عند الشيعة، ولهذا فعندما انهزم المخلّص أمام إسرائيل وأعلن عن استقالته خرجت الجماهير بصدق إلى الشوارع تطالب المخلص بالبقاء، لأنها لم تعد تتصور حياتها بلا عبد الناصر المخلص،خيث الهزيمة عثرة أمام طريقه الطويل.
فلقد دفن مفهوم المخلص مفهوم الدكتاتور،ولهذا فإن الدين الشعبي رفع عبد الناصر إلى درجة الملهم .
عبد الناصر الذي سكن الوعي الشعبي العربي، عالم من الوقائع والأساطير والحب والأمل. إنه كما وصفته الأغاني والقصائد التي كانت ترددها الملايين بكل حب مع أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم يصدحون بالأغاني الأجمل «ثوار مع البطل اللي جابو القدر». (ناصر كلنا منحبك).(صرخة أطلقها جمال)، لقد صار الوعي بعبد الناصر وعياً دينياً صرفاً.
لقد سلب هذا البطل التراجيدي،الذي وصفته الأغنية بالبطل الذي من به القدر علينا، عقول الناس وقلوبهم، ولم يكن أعداؤه قادرين على زعزعة هذا الوعي الديني به، حتى هزيمة حزيران لم تفلح في النيل منه كما قلنا.
عبد الناصر المخلّص صار ـ في حياته ـ الناصرية حين مات البطل التراجيدي، والتراجيديا تنتهي دائماً بموت البطل، أخذت الناصرية ملامحها النهائية.
كان موت عبد الناصر في الوعي الشعبي العربي مأساة من أكبر المآسي التي أتباع المخلص، مأساة لا تساويها أية مأساة على ارض الواقع. كيف لا؟ وقد فقد الشعب مخلصه، مات المخلص .
ظل الجيل الذي عاصر عبد الناصر وأحبه على حبه للمخلص ،لكن الجيل الذي عايش عبد الناصر لا يستطيع أن يورث حزنه وشعوره المأساوي إلى الأجيال الأخرى. لا سيما ان جهوداً جبارة بذلت لدفن إرث عبد الناصر، عبد الناصر التجربة صار الناصرية والناصرية ليست أفكار المخلص فحسب، بل تجربته الذاتية وحياته العملية وقيمه الأخلاقية وأقواله وخطاباته.
لم تكن الناصرية تتفوق بالأفكار كالقومية العربية والاشتراكية والوحدة وتحرير فلسطين ومقاومة الاستعمار، فهذه أفكار قد شاعت وأشاعها البعث العربي الاشتراكي، بل كانت تتكئ على القيمة المعنوية لرجل رحل عن السلطة فقيراً وعاش نزيهاً خاض معاركه متحدياً شجاعاً مغامراً ظهر على الناس مهيباً وساحراً.
أعداؤه يواجهونه بأمر واحد وحيد: كان عبد الناصر ديكتاتورياً. لم يفعل هذا المطعن فعله الكبير في الجيل الناصري. لأن الرد كان جاهزاً عبد الناصر وطني قومي حطّم أغلال العبودية، رفع راية العرب عالياً، حرر الطبقة الفلاحية، أسس نهضة مصر الصناعية، قام بدور عالمي، أحبه الشعب، وأحب الشعب،وهو رمز للكرامة.
الناصرية المحدودة الآن، المستمرة بهذا الشكل أو ذاك،لدى جيل على وشك النضوب،وخاصة في مصر وبلاد الشام والعراق ما زالت تستمد قوتها من رمزية المخلص البطل التراجيدي الذي قضى في ساح الكفاح دفاعاً عن المقاومة أيلول 1970، لقد منح الموت المبكر عبد الناصر القدرة على بقاء الناصرية حيث العنصران الحاسمان في تشكيل صورتها الوطنية ـ القومية والنزاهة.
في الناصرية انتقل المخلص بعد مماته إلى البطل الخالد الذي تستمد منه الحركة حسن سلوكها مهما، كان أداؤها السياسي سيئاً .حيث البطل الشجاع القومي الزاهد مثلٌ أعلى تستمد منه الحركة قيمتها الأخلاقية.
وعندي أن القوة الأخلاقية لعبد الناصر هي العامل الأهم لاستمرار الناصرية في قوى الزهد الثوري بعد عبد الناصر تأكيداً للترابط المطلق بين الزهد والثورة، ولأنه أكد هذا الترابط صار جزءاً من ذاكرة التائقين إلى الخلاص.
لكن هناك أمراً مهماً يجب عدم نسيانها ألا وهو:إن استعادة تاريخ عبد الناصر وتجربته أمر محال.ولم تعد دكتاتورية المخلص تغري أحداً.ونقد تجربة الماضي سبيل للتجاوز.

ذلك إن الحقيقة التي لا جدال فيها الآن هي:إن الدولة القمعية بكل أشكالها هي الدمار الحقيقي للحياة والإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى