قراءة في ديوان ” رفة شبح في الظهيرة ” لمؤمن سمير

د. أسماء عطا جاد الله | مصر

“غموض الرمز وإيحاء الدلالة …إشاراتٌ تتكلم وصوتٌ يصمت”

الغموض هو أحد  الخصائص المميزة للتجربة الشعرية منذ القِدَم  واليوم يعد سمة من سمات النص الحديث ولكن دون تضليل للمتلقي، فالباحثة ترى أن الغموض في قصيدة النثر فرض نفسه على المعنى بسبب المعطيات الجديدة التي تناولها الشاعر الحديث  في نصه فهو لم يحمل علي عاتقه مهمة التحول والتغير فقط وإنما  أصبح المتلقي  في ذمته لا بد أن يشركه في ذلك التغيير والتحول قسرياً لأن الناقد لو انفرد بأدواته التقليدية المستخدمة في النقد التقليدي  لجعل من هذه السمة تضليلا ً ومللاً  ينفر منه المتلقي ولكن لو استجاب الناقد إلي الأدوات الجديدة  في عملية النقد التي تجعل من المتلقي شريكاً كاملاً في إنتاج المعنى ستَظهر السمات الجمالية  للنص  وتتحول هذه السمة إلى خاصية تتسم بها القصيدة  … لذا يجئ هذا الديوان ليجسد هذه السمة الجمالية  ملصقاً بالنص بعض الشفرات التي  يستطيع  الناقد الفذ والمتلقي الواعي أن  يفككها باستمتاع واندهاش مذهل لأن مقصد الشاعر الجديد أصبح متعدداً داخل الواقع فبعد أن غيَّر ذائقته التي تربعت على  العرش أعماراً طويلة لم يعد يركن إلي الخضوع والاستسلام مرة  أخرى، فأصبحت مسئولية الشاعر: “تشكيل عوالم وسياقات التفاعل مع المتلقي وخلق خيوط وعناصر التواصل  الحداثي معه لأن النص الشعري لا يشتغل ولا يُتَلقي ويُدرَك  إلا ضمن  سياق فني ودلالي خاص يؤدي دوره بفعالية في عملية انكشاف دلالات  وأبعاد  التراكيب  والصور داخل النسق العام  للنص . وعملية التشكيل  الحداثى للغة والإيقاع والصورة والرمز ليست عملية فوضوية  واعتباطية لا تخضع لأي شرط واعتبار،أو أن الشاعر يملك فيها الحرية المطلقة ، وإنما تخضع في اشتغالها  لمجموعة من الشروط الفنية العامة،لابد من مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار ضمن  حالة جدية بين الشاعر والنص  والمتلقي  المفترض “(1) فأصبح  في إمكانه  تغيير الواقع  بكل الوسائل والتقنيات لذا يتخذ الشاعر هنا من الشبح بطلاً للنص . وتعني دلالة الأشباح  عادةً الظلام والخوف والتخييل  في ذهن الرائي لعدد من المخاوف التي سوف تلحق به  لذا عندما يرى الشخص الأشباح لا يستطيع  حيالها  إلا أن يصيبه نوعٌ من الهلع الذي يصحبه نوع من الصمت التام  الذي يرى  فيه الشخص بُعْداً أو نجاةً من الضرر الذي يصيبه  لذا يظل يراقب حركتها، وأفعالها وهو صامت وفي أشد حالات الانتباه مما يتيح لها أن تسيطر علي المكان بفعل قوتها المحيطة باعتبارها قوة خارقة لا يستطيع أحد من البشر مقاومتها لذا تمارس حركتها بإشارات مختلفة تجعل الإنسان يستقبلها في نوع من الخوف دون جدال فبالتالي يظهر صوت الأشباح ويختفي صوت الإنسان…هذا ما جسَّده مؤمن سمير في نصه حيث أنه أعطى الشبح  القدرة علي الفعل والتصرف باعتبار أن الشخص هو الشبح ولكن ذات الشاعرهنا تتشظى وتنقسم إلي ذاتين : ذات الشبح  الذي يمثل السيطرة  بفعل حركة الوعي الداخلي،وقسم يمثل الإنسان الذي يتمثل الواقع الخارجي الذي أدركه الشاعر من خلال  تقمصه  لهذا الدور وكذلك إدراكه لمدى ضعف وقسوة هذا الواقع.

 وترى الباحثة أن من الخصائص الفنية التي تصنع تميزاً وفرادةً لهذا الديوان وتصعد به درجةً فوق تجارب جيله من شعراء قصيدة النثر المصرية مايلي:التشكيل البصري : حيث تُراوح الكتابة في الديوان بين السطر الطويل والقصير والقصير جداً الذي يحتوي على كلمة واحدة ثم تظهر مرة أخرى الجمل الطويلة التي تنتظم أكثر من سطر وهكذا يجسد الشاعرمن خلال هذه المراوحة الحركة البصرية المناسبة لطبيعة الشبح المتقلبة والمفاجئة ليجسد أوقات ظهوره بقوة مرة ومرة بضعف وهكذا حسب (حال) ظهوره أو اختفائه. الانفتاح على فن التمثيل : فالشاعر طول الوقت يحاول إيهام قارئه أنه يتحدث عن ومع شخصيات وأشياء، ليست هو.. ومن خلالها يقوم بإسقاط معاناته هو عليها وتحميلها مهمة القول والفعل  بدلاً منه لذا يعتمدعلي التمثيل ليستمد منه التقنيات اللازمة لبنائه وهي التقمص ولعب الأدوار والحركة والظهور والاختفاء التي يقوم بها هذا الشبح .التشكيل بالصورة  : يمثل هذا الديوان صورةً ممتدةً لتكملة المشهد النفسي المستمر ولم يكتف بالإطار الزمني للنص الذي يقف عند زمن واحد وإنما يتحرك عبر أزمنة غير محددة ” فلم يعد طموح الشاعر أن يتفنن فيخلق الصور الجزئية المدهشة التي كان يمكن فصلها عن القصيدة لتذوقها بمعزل عنها بل أصبحت مهمته هي خلق صورة كلية تنمو باطراد لتغرقنا بالنور فجأة عند اكتمالها وكأن هذا الاكتمال أشبه بإغلاق الدائرة الكهربية  التي اكتملت كل عناصرها ولم يتبق سوى الضغط على الزر، لذلك أصبحت اللغة التقريرية التي تصيب القارئ بالعجب هي المعول الأساسي للغة القصيدة الجديدة وهكذا أصبح على الشاعر أن يستشرف شعرية جديدة ، خارجة على البلاغة التقليدية، وليست خارجة منها، إن هذه الشعرية تنتج بشكل معاكس لنماذجها التي سبقتها إذ لم تعد مهمة الشاعر هي إضفاء الشعرية على العالم. بل أصبحت مهمته هي اكتشاف الشعرية فيه “(2) .الحوار: ويكشف هنا عن الشخصية وعن أطروحاتها الفكرية من خلال المونولوج الذي يتجه نحو الذات لأنها هي التي تحكمه لتقدم دواخلها وتكشف عما عانته ، فالمونولوج يعمل على إدخال القارئ مباشرة في الحياة الداخلية للوصول إلى أعماقها وفك شفراتها . مسرح البانتومايم : يمثل ديوان مؤمن سمير نصاً جامعاً للعديد من الفنون كالتمثيل والسينما والمسرح الذي يعوِّل على أحد تقنياته في هذا الديوان بصفة خاصة وهي “الحوار الممسرح عبر تقنية البانتومايم ” ويقول ستانسلافسكي : ” في المسرحيات الحوارية يستعمل الممثل جسده ويعبر عن انفعالاته الداخلية، لكي يصاحب الحوار توصيل المعنى، والحركات في مسرح البانتومايم هي الحياة والحياة هي الحركة ومصدر هذه الحركات هوالجسد “(3) . ترويض اللغة : حاول الشاعر ترويض اللغة لتكون قادرة على نقل الصورة الجديدة وتجسيدها من خلال المفارقة والتضاد والتناقض الظاهري لدفع المبدع إلى الانفلات من دائرة المباشرة والسطحية ،  والدخول به في رحاب مغامرة لغوية تزخر بالجمال ، من خلال التشكيلات المتباينة لنقل تجربته المرتبطة بالتناقض الذي يملأ العالم ، وتظهر المفارقة في الثنائية الميقاتية بذكر مفردتيْ “نهاراً ” و”مساء” كعناوين يندرج تحتها الهذيان بتراكم الخيالات والصور، رابطاً أشكال المساء مع قوى النهار، وأشكال التخيل بالأنشطة التي تتم في العقل اليقظ ، موصلاً المحتوى المظلم بأشكال النور المختلفة… الرؤية من الخلف : ليكشف عن موقع الراوي من خلال مجاورته لعالم الشخصية الحكائية وتمكنه من الاطلاع على الأحداث عبر الجدران التي تسترهم .

وسنحاول التدليل على ما ارتأيناه صانعاً لتمايزات الديوان وكاشفاً عنها من خلال عملية القراءة .

رفة شَبَح في الظهيرة:

إن العنوان يدخلنا معه منذ البداية في مفارقة عارمة  بين المكان والزمان فثمة تلازم بين الاثنين لأنهما محور الحياة  فلا زمان بلا مكان والعكس.

الرفة بمعني مباشر هي الحركة  والشبح هو الظل المظلم الذي لا يرى فكلما تحرك يشير إلي  ظلام وسواد أكثر،ثم نأتي لتحديد وقت الظهيرة كوقت لظهوره فالظهيرة توحي بالنور والوضوح  فتكون الدلالة العامة للعنوان إذن تتمثل في حالة من العزلة والانفراد الذاتي عن المجتمع  الذي هو في أوج حركته وضوئه المزعج للذات لتختفي أو تتخذ من الوحدة جانباً إيجابياً لها  متخذة من هذا الشبح بطلاً تسند إليه كل الأفعال القادمة عن العالم الآخر الذي يصنعه بواسطة هذا الشبح  الذي يتناص الشاعر معه داخلياً. ورؤية الشاعر هنا لم تكتفِ بالدلالة اللفظية  لتعمق رؤيته  بل يمكن القول بإنها اعتمدت على اللوحة السريالية التي توجد على لوحة الغلاف لتجسد حالة من الظلام والعتمة والأشكال المجهولة المصادر التي  تطول  رقابها عنان السماء بالإضافة إلى التعريجات التي تحدد هذه اللوحة لتجسد حالة المعانة الداخلية والإعوجاج الخارجي الذي يمارس قمعه علي تلك الذات  فلا تعرف لها خطاً مستقيماً داخل هذا الواقع  الأليم لذا تأتي اللوحة المرسومة محددة  في إطار ضيق داخل الصورة وكأنها تجسيدٌ للفراغ الخارجي الذي يحاصر الذات في بؤرة ضيقة  داخل فضائه الفسيح المتمثل في اللوحة الواسعة التي تحيط بهذا المربع أو هذا التحديد  ثم يحيط هذا المربع المتعرج  لوحة أخري يلعب فيها اللون الأبيض  والسماوي (المائي)  دوراً هاماً في رحابة الكون المختلق من قِبَل الذات حيث عالم البراءة والفطرة  الأولى ، عالم النماء الذي ترويه المياه وتعمره وتطهره من أسره وأوثانه التي يعتنقها داخل العالم الخارجي المزعج  المحيط بالذات خارجياً .فالعنوان يحمل من بدايته الحركة والمقاومة والتقلب  .

ثم  نأتي إلي  قلب الديوان  فنجد ما يشبه الحكم  أو إيمان الشاعر بالأفكار التي تؤازر الذات داخل هذا العالم  وهو يدل علي تشعب الإحساس الإنساني ووحدته داخل هذا الكون الذي يعيش  فيه الشاعر وحيداً  في معاناته  بل إنها حالة نفسية جماعية لذا تعد سمة من سمات قصيدة الحداثة وقصيدة النثر بصفة خاصة وأعني بها قدرة الشعراء علي خلق  كون جديد من خلال الثورات والانتفاضات التي  تفور أو تتكون  وتتفاعل داخلياً حتي تخرج غازات نووية (جمالية) تفجر الأخضر واليابس .

فالذات في شعر مؤمن سمير هي ذات منقسمة، هي الأنا والآخر، السارد والمروي  والمروي له .هي ذات  تتأمل واقعها المنكسر التي تحاول ترميمه من خلال عرضه علي نفسها أولاً لتصويبه ثم عرضه علي العالم لإقراره، ومن هنا تتشظى إلي ثلاثة أقسام: ذات ساردة ، ومروي لها ، وذات العالم ، لتترك مساحة من البوح والحرية لانطلاقها . ثم إن حالة الاعتزال تمثل الملهم الوحيد الذي يعطي الذات التعبير في حرية  لأن الإنسان لا يصل إلي  وعي ذاته إلا في حالة من الانفراد .

“ليس النهار سوى إبطالٍ لنورنا نحن” 

يُصدِّر الشاعر نصه بعتبة تناسب صلب الديوان الذي نسجه الشاعر إلي النهاية ” فالعتبات تمثل تأسيساً بكراً لأصالة كيان لغوي قائم بذاته كما تمثل محل ابتداء السرد  ولحظة انبثاقه وتشكله بالإضافة إلى أن( أندريه  ديل لانجو) يري أنه من الأنسب اعتبار الفواتح  النصية  مناطق استراتيجيه يتم منها العبور إلي مداخل النص التخيلية “( 4) فتعمل علي نمو الشبح  ولكن في وقت وزمن معين غير معتاد ومألوف في العادي وهو ما يحمل مفارقة زمنية  ونفسية بين النور المتمثل في النهار، والظلام المتمثل في الليل عالم نمو الشبح  فكل منهما يعمل في طريق معاكسلا يلتقيان ، فالنهار في عتبة النص يمثل إبطال  لظلام الليل  الذي  يمثل  نمواً  وخصوصية وحركة  توازي حركة  النهار في ضوئه ثم تحديد المدة الزمنية التي تمت كتابة النصوص خلالها:(في ديسمبر الممتد من1999 وحتى 2001 ) يدل على المعاناة النفسية  في هذا التوقيت الذي يوحي به هذا الشهر واختيار ديسمبر ليكون البؤرة  الأساسية التي تشعل نيران الكتابة عند الشاعر ليجسد هذا الشهر الرعب والفزع  والعزلة والظلام من خلال الدلالات الملاصقة له علي مدار السنوات الثلاث  بما يعادل الأشهر الثلاثة ،فالكتابة عند سمير تأخذ رحلة مخاض زمني ينشطر داخله الشاعر إلي أزمنة  متعددة : زمن  تتجسد من خلاله الكتابة ،وزمن الأحداث وصراعها ، والزمن الداخلي المتعلق  بالفترة التاريخية التي تجري فيها ، والزمن التخيلي والذاتي . 

وعند الولوج إلي نصوص الديوان نرى أنه ينقسم إلي أربعة أقسام،القسم الأول يمثل إيقاعاً بصرياً بالحرف اللاتيني(1) تحته عنوان القسم/ الجملة الشعرية :(يحيكُ الظلالَ وأرتديها )القسم الثاني (11) وتحته العنوان/الجملة الشعرية : (أجوسُ في صدقي المؤجل ،بابتهاجٍ حقيقي )القسم الثالث (111) وتحته العنوان / الجملةالشعرية:(صباحُ القسوةِ يا رجل المطر) والقسم الأخير(1V) وتحته العنوان :(كأنني ) .

تمثل جملة (يحيكُ الظِلالَ وأرتديها ) كمثال للعنونة في النصوص ، نوعاً من التجانس الكوني والتداعي للأشياء بأن تأتي متتالية في تكوين غير متآلف لتمثل انحرافاً لغوياً يجعل القارئ يندمج مع الجملة فثمة فارق بين الحياكة والظلال فعندما يجعل الشاعر الظلال ثوباً يحاك فإنهُ يصور حالة من الإحاطة والشمول لهذه الظلال  بالذات الشاعرة  وهو ما تعمقه دلالة الارتداء التي توحي بالتلاصق ثم  يتخذ من فعل الحياكة فعلاً استمرارياً ليبين مدي سعادة الذات داخل هذه الظلال لذا تستمر في هذا الفعل : الحياكة.

“أعطني حفرة /في قلبكَ …/…/لأطفو ..”. (الديوان ص  (11

يعتمد  النص هنا على  سمة من سمات  فن المسرح  وهي فن المونولوج وهو الحوار القائم  بين الذات ونفسها ليمثل حالة من انكسار وتشظي الذات الذي استلبها الواقع  الخارجي  فأصبحت  بين كفيه تحدث نفسها متخذة من  نفسها الذات المنكسرة مرة والمنتصرة مرة أخرى،ففعل العطاء هنا  يتناسب معه أشياء مادية ولكن ثمة فارق بين الحفرة  والعطاء ،فالعطاء يكون  عادةً شيئاً مفرحاً أما الحفرة فهي سقوط في الحزن .أما دلالة الحوار المنكسر(الحفرة) فإنها تهاجر بالمفردة من  قاموسها  لتكسبها دلالة أخرى  وتجعل من الحفرة دلالة إيجابية على حالة التحول التي تريدها الذات وخاصة أن  هذه  الحفرة  في القلب ، فثمة إشكالية في هذه الحفرة وهي التي تجعل  لهاعدة أماكن  فالمكان الأول القلب لتعمق حالة التوازن الداخلي  للذات، ثم تأخذ دلالة  الحفرة  مركزاً تنطلق منه، ثم يعقب ذلك بدلالة (لأطفو) فهنا الحفرة تأخذ حيزاً من الوقت من أجل  التشكل  وكأنها بدايات تحاول من خلالها الإنعتاق والخلاص والخروج . كما أن الذات هنا  تتناجى داخلياً  بأمانيها  التي  تريدها وهو ظهور الشبح  في  الواقع  الخارجي علناً ودون مواربة وتمويه .

“صيفٌ …….. /قد لا ينحت الموسيقي، /المُنَدَّاةُ من عند لهاثي  … /لكنه  لن يقنِصَ مكتنِزاً /يومئُ /في رعب  الأسلاف ……. ( الديوان ص 12)             

معركة مؤمن سمير مع الأسلاف  لم تنته  فهي المحرك نحو المعركة  المستقبلية  فهو  يستمد منهم القوة التي ينخر بها  في لب المستقبل كي يكشف أقنعة جديدة لعالم جديد عن طريق هذا الفصل فالصيف هنا هو المحور الزمني  الذي يؤنسنه الشاعر فيجعل له قوة الفعل فهو ابتداءً  لا ينحت ولكن الشاعر رسمه شعرياً هكذا ودلالة النحت تدل علي المعاناة الشديدة  للذات  في عملية  الكشف  ومدى تجذر المخاطر المحيطة بها . كما يعرض الشاعر نصه هنا من خلال  الصورة الوصفية  لهذا الصيف  مما يحرك بنية الدلالة عن طريق التكثيف .

” لا أريد شيئاً كثيراً / لا عدة أشباحٍ / ألحق بهم بلعتَيْ النور/ ولا أن يمنحني الرجل المتجهم مراياهُ لنصفِ عمرٍ..، الغيمة التي  تستخف بالمراكب / وخيالي الذي لن أشوفه / يجوس سماء الجيران /ونيرانهم /…./ما أريده  شئ  أبسط  من ذلك ../ألا تزاحموني في الصورة …/البليغة  ،/كأنها قسوتك …”( الديوان ص14)

النص يستدعي سمة من سمات قصيدة النثر وهي التداعي الدلالي الذي يبرزه الشاعرمن خلال سرد الموقف ليجسد حالة الصراع الذاتي بين الانفراد والعزلة التي تحقق الرغبة والتمكن إنه، برفضه الظاهري للتواصل ، إنما يضمر شكواه وألمه من فشله في تحقيق الاندماج ومن سوء التفاهم الدائم ، من خلال شكه في نوايا الآخرين إزائه ، فالشاعر يصهر الوجع عن طريق التفاصيل المباشرة التي تدهش القارئ ببساطتها العجيبة التي تكتنز المعني داخلها من خلال ملمح السخرية الذي  نلمحه عبر توصيفات عادية تبدو محايدة في نسيج السياق نفسه.

” لم يَحُل/ دون أن تصنع له فطيرةً من سخونة دمائها /أو تزينها بحلمَتَيْها/أنها بلا سقف ولا طائر…/…ولا أن تهب جسدها كل مطر/ لبسمة عريضةٍ /..لظلٍ/في حانة ” (الديوان           ص13  )

هذا النص يعتمد في بنائه علي اللوحة من خلال المونتاج والكولاجات البصرية لتشكيل الفضاء الورقي بالألفاظ التي تُكِّون اللوحة من خلال ربط الأشياء ببعضها ليخترق النص عين القارئ وأذنه في الوقت ذاته وينتقل من المنظوم المرئي إلى الدلالات الإيحائية البصرية فهو يشكل المجاز البصري بحيادية وموضوعية في الآن ذاته ،كما أنه يعتمد على البناء الفانتازي  والمجاز البصري الذي  تنقله العين ببساطة من خلال عملية البسمة التي تشترط شروطاً لكي تحل  وهي صناعة الفطيرة  وتزيينها…إن الصور يربطها عامل شعوري  واحد هو الإحساس  بالأزمة وتكون الصور خاضعة  لنفسية الشاعر فيفككها ليكوِّن منها صورة كلية .

” بالرغم من أنني أحسه يبالغ حقاً/ قُدَّام حوائطِهِ والمدفأةِ/لم أحرمه متعته الصغيرة :أن أحيكَ الظلالَ/كلما فات الخشبيون”( الديوان ص15)

إن اصطحاب الشارع اليومي، ومراقبة الأجساد والأفكار والرغبات، من نوافذ المُشَغِّل السردي، حيث يتناوب الوعي الملاصق،والوعي المفارق،هاجسٌ من نوع  غريب،شعور بالانسحاب من نافذة المراقبة، ومقاومة الأشباح المتطفلة التي تراوض المشغل أو تقتحمه بغضب وجنون .عمل المشغل اليومي هو نتاج القصص” فناتج العمل  الآلي مادي ،أما ناتج  العمل السردي رمزي إلا أن الاثنين معا يولدان  شعورا ً بالاغتراب وهذا ما يدفع الذات الساردة والعاملة إلي تجريب وسائل إشباع أكثر فعالية  لتحقيق إرادتيهما عبر العمل والخطاب “( 5).

كما أن النص هنا يرصد حالة من  التلصص والمراقبة من قِبَل الآخر الذي يشك فيه  ولا يظهر أمامه  وإنما يراقبه من الخلف ليشاهد نمو الأدوار مما يجعل الذات تشعر بالقلق والشك في كل ما حولها فهي تلجأ إلي العزلة والانفراد للوصول إلى  اليقين  ويعتمد الشاعر هنا علي مقومات فن التمثيل في عرض الذات للأدوار التي يقوم بها الشبح ويراقبها الآخرون بالعين من وراء ثقوب النافذة …وعندما نعود إلى دلالة (النافذة) نري أنها استشراف للمستقبل أو كوة الذات التي تطل منها علي المستقبل  لذا تتقن الأدوار المؤداه للوصول إلي الرغبة المنشودة ،وهذا ما تعمقه دلالة (الخشبيون) التي  تجسد انعدام مشاعر مَن هو خلف النافذة  يتلصص فقط  ليراقب لحظة الحقيقة  مما يعمق فكرة الصمت  وتحريك الشبح الذي يقوم بالحركة والصوت .

” كانت رائعة جداً وعاقلة/عندما أخفت رسم السِكِّين تحت الوسادة ” ( الديوان ص18) أو         ” تتمناه بشدة/ ذاكَ المنقوشَ عليهِ/بعدد سنين العمر”( الديوان ص 21) أو” هو قاتلٌ لا جدال في ذلك / لكنه سيندمُ ، كزورقهِ وأوراقهِ/ لأنه لم يستمع إلىَّ” (الديوان ص 23)

في هذه النصوص يتجه الشاعر إلي مجال إشاري يختطف الحال ويمحو المعنى المباشر ويقفز على المألوف والمنطقي والمنمق ليبرع في الربط بين الأشياء اللامتجاورة ويجدد البحث والمعرفة  ليدمر ثبات المعنى  مما يفتح أفق الرؤية أمام عين المتلقي لتكتب العين تاريخ الجسد عبر لعبة تبادل الأدوار بينهم(الجسد والعين) وذلك لإدراك الوجود الحقيقي لهذه الذات .            

” تُحِسُّ بكلِ هذا الضوءِ/عندما تلمحُ الضحكةَ الخضراءَ/تحتَ سجادتِها .. /لكنَّ الطائرَ المُتيبِّسَ/يشي الآن بالرعشةِ / والعيونُ غادرت نحو /جِلْدِكَ ،/على شَمَّاعةِ القنصِ …” (الديوان ص 19) الأفعال  هنا تعمل على التجاذب بين الزمن الآتي الذي لا يزال عالماً غير فعلي  والزمن الذي  تعيشه  الذات  المتكلمة  وهو زمن فعلي ، لتتفاعل معاً وتنصهر في أتون التفاصيل.

” مجرد تَسَمُّعي  صوت الرعد وهو يحاصر  الكابوس  ….قد يثير  بلداً من  الريبة/إذا تم استدعاء  الذي انتحرَ، لمجرد  رغبة ملحة في شَمِّ ورود النور ./قريبي ساذجٌ  بجد / ويليق  علي  طيوره  وأنهاره  ، وروحهُ  تشبه  زحمة  قبره  كل مساء  …/سأضحك  أيضاً علي النافذة  /خبأت تاريخها  خلف الصدأ  وانتظرت  أن ينبت  لظلها  شجرة …” ( الديوان ص 33)

 يجسد النص البوح الشعري الذي يصل إلى درجة الهذيان  وانفجار الوعي والكبت الطويل وامتداده المكاني والزماني  مما يجعله لا يعتمد علي الفوتغرافيا كما يقول محمد مستجاب كآلة للتصوير بل لخلق زمن جديد يتناسب مع  زمن البطل المختلق من قِبَلِهِ فتقوم الفوتغرافيا بعمل مزاوجة بين الزمن واللقطة لتمزج الزمن الحالي بكل آلياته المختلقة من قِبَل البطل ، فالنص يمثل صورة كلية تنمو من خلال المشاهد الجزئية لتصل إلي حالة من النمو لكمال المشهد ويربطها عامل شعوري واحد هو الإحساس بالأزمة وتكون الصور خاضعة  لنفسية  الشاعر فيفككها ليكون منها صورة كلية ، كما ألمحنا وأثبتنا في مواضع سابقة .

” تقابلهم  في السيارات ، رؤسهم محلوقة  ، والتراب  يسقط  من  نظراتهم ./ دقائق  وينامون  على أكتاف  بعضهم/ لكنَّ  العيون  تظل  مثل  بندول الساعة./ يرتعدون من الشرطة العسكرية …” ( الديوان ص31)

    الشاعر هنا مشغول بالهم الاجتماعي من خلال إتاحة الفرصة للكاميرا بأن تنتقي اللقطات المتنوعة لتدركها عين المتلقي  بصرياً وتتأملها داخلياً من خلال تجسيده للفقر الذي يعمل علي سلب الحرية والنفي الذي ينجح الشاعر في سرده بطريقة إنسيابية  لتحدث الدهشة للمتلقي من خلال تسلسل الأحداث لتكتمل في النهاية الرؤيا المطلوب تصويرها وتوصيلها .

” في ليالٍ مثلَ هذهِ ، أنا أكشف الأمور / أرمي عليها من لُهاثي وعَظْمي ، فيتقشر الزمن وتعود مجلوةً / أنا العَرَّافُ الشريف ، لا أخفي شيئاً عن أحد ” ( الديوان ص 3334 )

” عندما أكدتُ له أنها مغلوبةٌ من عندِ وحشِ الجزيرةِ/ غافلتُنِي / وغمزتُ ” ( الديوان ص 45)

” بعد أسبوعٍ / واعدتُ خطواتي القتيلةِ كلها/لأنساها تحتَ إبطكِ ” ( الديوان ص 49)

” في كل مرة /لا نسرق إلا المروج /والحيطان الخوافة/من عصا الراعي /أو من لهاثه للرب  في كل مرة …ثم : ” الأصوات تسيل من أذني /أشمِّرُ ذراعي /وألمُّهم  في صناديقَ…”        ( الديوان ص58)

” شمعةُ ظِلِّي تحوطُ الخوفَ/ وتغفو عندكِ/ إنها الأخيرةُ/ في الطائر الأخرس “( الديوان ص59) “هما خيارانِ/ أن أفوتَ في العينِ/ فأهوِي في دفءِ القسوةِ /أو أن أعودَ أدراجي مبكراً/ قبل التورطِ . “( الديوان ص62)

تلعب الأسطورة دورا حيوياً في النص لتمثل رمزاً يعمل علي انبثاق المعاني  والصور من خلال الإلماعات ، والتي نقدمها مع سابقتها كإشارات غير وافية ، لتمايزات الكتابة : ودمج العجائبي مع التفاصيل وسبكهما في سبيكة واحدة ،لتخليق نص لا نتوءات بين أجزاءه وخلاياه .. فتجمع الكتابة بين مالا يُظَنُّ  أنه يصح فيه الجمع وتخلق منطقها من المصدرين معاً : الأسطورة والتفاصيل ، رغم إمكانية اقتناص الشعر من أيهما ، وهو السائد في هذا الجيل … (6)

“صدرها  مزيف…ملئٌ  بالقطن  والشاش والأحزان…/وهو يقف  علي  الكرسي. المسافة  بين  النافذتين/ترسم للباعة  الجائلين والتراب، أن يتعانقوا  مع رغبة  تطلع  رويداً  رويداً”  ثم : “ضَمَنت  طيورها  أن  يحبها وتحبه ، ويقبلها خلسة لحظة أن  يفوتَ  النورُ كسهمٍ  في  الممر ./يوم الأربعاء  يأتي  مع قلبهِ ../الخميس تتجمع  أخواتها البنات بأولادهن ليقنصن الدعاءَ ويتركن الشكاوى  المريرة  تسمم  باقي  الأيام./إنه الآن يُعَريِّها… يخمش بأظافره  الذكريات واللؤلؤة الرابضة في  كيسها …”( الديوان ص42)

 النص هنا يعتمد علي سرد السيناريو وبناء المشهد فالشاعر يعتمد علي اللقطات المتتالية  التي تمثل مفردات اللغة النصية من خلال تآلفها لتكوين مشاهد متنوعة معتمداً علي تحريك الكاميرا التي لم يتكئ الشاعر فيها علي الرؤية الذاتية وإنما علي اختيار اللقطات والتركيز علي المشاهد لتحدث التأثير والتبئير الذي يريد الشاعر توصيله. ويلعب الإيقاع البصري القائم علي التكرار في كلمة (رويداً) دوراً هاماً في التأكيد علي الهدوء والسكينة. كما تلعب الصورة الصوتية الحركية دوراً حيوياً في جذب المتلقي ناحية الفعل (يخمش)الذي أتى بصيغة المضارع ليجسد الصورة أمام العين .

” بعد ليلة  أَيْروسيةٍ  أُلقيتُ برأسي من نافذة الدورالأخير./المتواطئون في المرآة أشاروا عليَّ /وابلغوا الجدران/لتكبر./ ثم أعادوني لبرودتي،على وعد بأن أتركهم/ يرعون آخرينَ /يحتاجونهم أكثر مني…بعد سنةٍ ألقيت بشهقتي في الحفرة / ثم بكيت بحرقةٍ وقلت لستُ أنا /وإنما الأشباح الطيبون،قرروا الأمر قديماً …( الديوان ص35)

تلعب الصورة الدرامية دوراً حيوياً في تجسد الحوار القائم بين (الأنا والآخر ) ليفجر حالة القمع  فيسمح للآخر بالمشاركة  ، فأسلوب الحوار في هذا النص  قائم علي وجود صوتين مختلفين هو صوت (الأنا-الآخر ) حيث أدىالحوار إلي التفاعل بينهما مما اضطر الشاعر أن يفسح المجال له / لهُما بأن يعبر/ يعبرا، وهذه خصيصة أسلوبية لدى شعراء الحداثة وشعراء قصيدة النثر وهي إفساح المجال للشخوص الموجودة داخل النص فتنطق وتتكلم وتعبر عن مكنونها. كما أن هذا النص يعتمد علي سرد تشظي الحكاية وفيه ينتقل الشاعر من لقطة إلى أخرى ليحدث اندهاشاً ومفاجأة للقارئ .

“يا حبيبي /يا صائد الدهشة/ وراشقها  أمامي ./لا تحطم  الصندوق  الرائي ،لا تفزع  /ولا تحاصر صوت شبحك/ الذي ينده منذ البارحة ./ هي  روحي/ التي أخفيتها  فيه/لما نمتَ  /على/ساعة  /البهجة…”

“لا تصدقوا /غناء  الراقصة/ ( أعض /قلوبكم/ لأني أعبد  جسدي/وأصلي /للأزل )/إنها  فقط  تشفُّ../ وتختبئ من الصقيع،/ في/ الروح  /الأقدم … ” ( الديوان ص53-54  )

يتمثل هذا النص بنية المناجاة فتلعب ظاهرة تشظي الحكاية وكذلك الهذيان والتقطيع دوراً كبيراً في حركة  لعب الأدوار وحذف باقي الجملة والاكتفاء بكلمة واحدة في السطر وترك مساحة للسطر التالي ليتم الكلام مما يحدث تشتيت دلالي وبصري للمتلقي ليقف على الخطاب يلم  شتاته ويجمع  صوره داخلياً ببصيرته وبصره ،فالنص ينطلق من عاطفة غامضة يدعمها الشاعر بالإيقاعات المستمرة من خلال الاتكاء على الفعل المضارع الذي يجسد استمرار لعب الأدوار والدلالات المتحركة التي تحاول أن تكشف هذا الغموض من خلال حركات الشبح المتوترة وإقامة العلاقات المختلفة والمتبادلة بين الألفاظ والصور فتبدأ من ديسمبر متحسسة للزمن المستمر لتخلق زمناً آخر من خلال تنامي واضطراد الأحداث .

نص ” الطقوس” :

النص هنا يمثل  المشهد  المستمر والمتكرر الذي يشكل  الهم  الذي لا ينصرف عن الشاعر حتي أثناء الغياب بالنوم :“تخنقين الدهشة  باستمتاعٍ ./يدي يا يدي  …/ أمرُّ  بروح  نفاذة بين  ساقيها /فأحرم  نفسي من جزيرة وعواصف / تملأ مخداتي /لأعوامٍ  قادمة./ أنحرف عامداً…/على الأقل ،لأبتعد عن الوَهَج /فأجدها تلهث/الطعنة المسكينة – في نفس النَفَق /العام الماضي أيضاً كانت هنا /وبنفس الطقوس./هما  خياران/أن أفوت في العين / فأهوي في دفء القسوة /أو أن أعود أدراجي مبكراً /قبل  التورط  ./ على الأقل/أنا الآن أحرك أقدامي  بهمة /لأسبقها …./الذكرى : / حِملان  من الغبار/ تبرعنا  بهما  للخريف /الفقير../أربع أحضان  /تعفنوا  …/وملئوا  الطريق /علي  شكل  سحابة…./لا أسمعني  وأنتِ بردانةٌ ……./………/ النملُ/فيكَ وفيَّ………./………. . ( الديوان ص61-62-63)

النقاط هي السكوت و”السكوت هنا يستحيل  حضوراً  إنسانياً كثيفاً . إذ يعني  الإنصات  لصوت الداخل ، صوت الوعي والأعماق. وهو  نفسه ما كان هامشياً  للمتون السابقة، وهذا السكوت  سيغدو وسيلة  الذات في مواجهة محيطها  المكتظ بالكلام ،وبخاصة الكلام الشعري الذي لا يفصح عن شئ  سوي الادعاء والتضخم  الذاتييْن  الذَيْن  ينطويان علي فراغ ،وتريد الذات الشاعرة  أن تنصت  للعالم وأشيائه وتكف عن إطلاق  الأحكام حوله،ولكن  تبقى الإشكالية الوجودية  أننا لا نستطيع أن نصف حركة وعينا وذهولنا  وسكوتنا إلا بالكلام ،هذا  الوسيط الفاسد،  لذا تلجأ هذه الذات إلي استخدام  تقنية  النقاط  المتراصة في الخطاب  الشعري تعبيرا ًعن هذا السكوت “(7).

النص يتكون من عدة مشاهد و يمثل عنصر الوصف أحد الأساليب الفاعلة لتشكيل البنية النصية من خلال عملية السرد وتمكن الشاعرمن استخدامه دون إفراط …إنها إشارات تصف حالة الشاعر بدقة(تخنقي – تلهث- تتعفن) “فوجود الأشياء لا يمحي الظل  بل يتكاثر ويتغير ويتكوثر كما أن الوجود يظل مشاعاً وغامضاً في مجازات الظل، فلا يمكن أن يوجد بصورة محددة ،ولا  يمكن أن  يتلاشي  بصورة مطلقة،”ويقول ابن عربي (بالظلالات عمرتالأماكن) فمجاز الظلال  يحول الأحلام إلي واقع فعلي طافرا باتجاه المستحيل كما يحول الواقع الفعلي إلي  إمكان واقعي ضمن ممكنات واقعية  أخري  كثيرة “(8).

ونكمل مع نفس النص حيث تتألف القصيدة من مقاطع، تحيلنا إلى فترات زمنيه متباينة من خلال رصد الذات لمايحدث معها:” التي تخاف منذ زمن بعيد/ ضللتم عن قصد./إنها تكرههم جميعاً:/مرآتها التي  تنهشها باستمتاع /روحها التي تفر من قدام الرعشة/الغامض الذي يحوم فوق البحيرة ……../……..ابتهَلَت للقَدَر/افعل طيباً يا أخي الطيب /واجعلني  من عواصف/العام  الفائت …/شلني في علبتك الدافئة…../ البريق …/لما زاد  البريق… /أعطينا  ظهورنا/وشلنا في علبةٍ ../ضباباً /كأنهُ /عَظْمُنا/…” .

” النومُ : منحوتٌ عليه / (سوف تشوف فيك الصحاري…)/النومُ  : قريب ديسمبر…/ الضيق /الضيق “( الديوان ص63-64 ).

القسم الأخير(كأنني ) :

يحقق هذا الجزء أو هذه القصيدة الواحدة المتوالية المقاطع ، اتساقاً تاماً من خلال المشاهد المتعددة التي تتسلسل  للنهاية فتأخذ عقل المتلقي دائماً ناحية المنحى الدلالي الذي يصل إلى قاع الذات فيحقق انسجاماً  داخلياً له عمق  في النفس الإنسانية قد يكون في حالات كهذه ، أفضل مما يحققه الوزن في بعض القصائد المُوَقَّعَة من ضجة سمعية تشير ولا تؤثر. فبالإضافة  إلى أن الانسجام داخل هذا النص لا يحدث للعقل فقط بل يسحب العين معه  ليجمتع عَالمَان، عالم الكتابة بالألفاظ  ودلالته علي الصفحة ، وحركية هذه الدلالات في الواقع  الخارجي ، مما يحدث مفارقة عينية لهذه العوالم في لحظة واحدة ،كذلك فإن العنوان الداخلي ( فصل) يوحي بالارتباط  والتسلسل وأن الحلقات تكمل بعضها وتخرج من معين  واحد … إنه البيت الذي خرجت منه أشباحه وظلاله  لتشتبك مع العالم.

فصل 

“الضباب الذي صدمني في الصباح الأول /هارباً في علبة/تحاذي الأسلاف وتتشهي../لم أمقته/ ولا حفرتُ/ في مسامه  المتناثرة ../فقط حاولت أن أتفادي معاول الحفارين/الذين  اخترقوا ذاكرة الطريق/ وتمنيت  أن تكوني علي بعد ركلةٍ/ليس أكثر/فأصافح الأشباح /الطيبين/بعيني /الدافئة …”( الديوان ص67)المشهد الأول يحتفي بمفردات الشتاء ،الضباب ، ليوحي بمدى الخوف والتستر ، والعتمة التي تخبئ خلفها الحقائق أو تكون حائلاً وحجاباً بين الشاعر والواقع .

فصل 

” بانتظام /وعلى مدى السنوات كلها…/يبص يميناً ويساراً /ويبول علي قاعدة التمثال /شبيه ظلكِ../تماماً حيث  مات بطلقةٍ مُحْكَمَةٍ /ثم  يُحْكِمُ  شَالَهُ / ويفتح  قلبه …” ( الديوان ص68) يتسلسل المشهد في تنامي مستمر معتمداً علي الصورة الحركية التي تعطي حيوية للنص من خلال  اليمين واليسار وغيرها من الحركات .

فصل

” الشجرة  جمعت الشرايين /وخاطت الحريق  في ذيله /كي  لا يحزن  ثانية  أو يغوص  …/وكلما  تقابلا /لاحظت كلام الساحرات /وأخذتهُ في شهقتها /ليقولوا /” تركت ظلها ورحلت ”   …../وكلما ينط الشتاء /يغمض ردائه تحته…/ليقولوا  / ” كان خفيفاً زمنئذٍ فساب نظرة  /وحفرتينِ ”  …”( الديوان ص72-73) يأتي الفعل (ينط) ليحقق دلالة المفاجأة والصدمة التي يحدثها النص باعتبار أن فعل القفز يمثل حالة من التقلب الجوي المصاحب للشتاء،لذا يستعد الشاعر لفترة من الراحة كي ينمو داخلياً وسط هدوء العالم الداخلي البعيد عن صخب العالم الخارجي . بالإضافة إلي أن النص يتمثل إيقاع تكرار مفردة (الحفرة ) ليعود إلى ما ابتدأ معه أول النصوص مرة أخرى في دائرية توحي باستمرار حالة الوحدة والتيه الذي تعانيه الذات .

الهوامش:

(*)”رفة شبح في الظهيرة” شعر، مؤمن سمير،الهيئة المصرية العامة للكتاب 2013

(1)عبدالله شريف، في شعرية قصيدة النثر،ط الأولى2003 اتحاد كتاب المغرب ص7

 (2) تحولات النظرة وبلاغة الانفصال،عبدالعزيز موافي. الهيئة المصرية العامة للكتاب ط2005  ص 21

(3) قيس عمر محمد،البنية الحوارية في النص المسرحي .ناهد الرمضاني نموذجاً ط 1دارغيداء عمان ص78

(4)أحمدالعزي صغير، مصطلحات ومفاهيم في الأدب والنقد. رؤى وأبعاد، دارالكتب صنعاء ط 2013  ص142

(5) محمد خضيرة، السرد والكتاب.استعمالات المشغل السردي.مايو2010ص132

(6) د.محمد عزت .الدراسة الملحقة بالديوان ص 88

(7)مجلة “الثقافة الجديدة” المصرية، عدد خاص بعنوان (في نقدالكتابة الراهنة) أغسطس 2005 العددguة بعنوان ص بعنوان “العدد رقم 181،من دراسة بعنوان (قراءة نقدية في نماذج من الشعر الراهن)بقلم/أشرف عطية ص87

(8) د.أيمن تعيلب، شعرية الظل ومقاومة النسق الثقافي،مقاربات معرفية تخيلية لقصيدة النثر العربية .دارالعلم والإيمان.القاهرة . ط1عام2010 ص 350

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى