الدلالة الرمزية والصورة الشعرية في نصوص صالح علي

السيد مأمون الشبلي | ناقد وكاتب

أزورهم وسواد الليل يشفع لي … وأنثني وبياض الصبح يغري بي

البيت هو أمير شعر المتنبي كما زعم معظم نقاد وروّاد الشعر والأدب العربي ، وأرى قوله :

فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي .. والبر أوسع والدنيا لمن غلبا

وقوله :

على قدر أهل العزم تأتي العزائم ….. وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها … وتصغر في عين العظيم العظائم

يجاريان البيت إن لم يفوقاه، وعلى كل حال هو مجرد رأي ولكل رأيه واعتباراته ومقاييسه ، على أن البيت مذهل وتناوله كثير ممن شرح شعر المتنبي والرواة ، وهو من قصيدة بائية مطلعها :

مَنِ الجآذر في زِيّ الأعاريب … حُمْرَ الحِلَى والمطايا والجلابيب

وفي كتب الأدب أن المعتمد بن عباد قال ما أخذه على المتنبي في البيت : الليل لا يُطابق إلا بالنهار ، لا يُطابَق بالصبح ، فالصبح جزء النهار .

وهذا الرأي وأشباهه ورد كثيراً في شعر المتنبي وغيره من كبار شعراء العربية ووُضعت مؤلفات في هذا الباب ، مما يُؤخَذ على الشعراء فيما قالوه ، ومن التناص والسرقات والاتكاء ، وهذا لا يضير ، في النهاية هذا إغناء للمكتبة الأدبية والفكر، وليس فيه – إن كان بدليل – ما ينقص من مكانة شاعر أيا كان اسمه ولعمري إن هذا الباب من أجمل أبواب الأدب ، ففيه معرفة الأصل والسابق وفطنة الشاعر في عدم ترك أثر وراءه يدل على ما جاء به ، وقد تحدث ردود ومعارك في الدفاع أو إثبات الإغارة والسرقة ، وهذا أيضاً مما يغني الفكر .

وكان أن اعترض الأستاذ مصطفى العاني العراقي على ما أوردتُه في منشوري السابق وقولي :

غدا الدهر لي خصماً وفي مُحَكَّماً …….. فكيف بخصم ضالع وهو الحَكَم

وهو البيت الذي أغار عليه المتنبي في قوله :

يا أعدل الناس إلا في معاملتي …….. فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

ولربما قصد أبو فراس بقوله للمتنبي: لقد مسخت قول دعبل ، أن هذا حد ما علمه من ورود للمعنى فيما حَفِظ أبو فراس أو سَمِع ، قال دعبل :

ولست أرجو انتصافاً منك ما ذرفت ….. عيني دموعاً وأنت الخصم والحكم

فقال : يا رجل لمجرد تكرار المتنبي لكلمتي الخصم والحكم اتهمته بالإغارة ماهذا ، مامن إغارة ولا سرقة ولا تأثر ولا توارد خواطر أبدا أبدا ، ثم أردف :

تركيب الكلمتين في بيت الرومي يختلف عنه في بيت المتنبي بينما يتطابقان في بيتيه ودعبل وذلك ليس بشيئ ولا سرقة في رأيي المتواضع ، وأكمل : لم تركّز على عدم إكمالي للموضوع لطوله وتعبه ، ثم قال : أما بيت دعبل فهو تأثر خفيف .

انتهى قول الأستاذ مصطفى هنا ، ولا أخفيكم أن التعليق الأول وما تبعه لفت انتباهي إلى أمور عدّة ، منها أن لا أسمي ” التشابه ” بين بيتين أيَّ مسمى عرفه قراء الشعر ونقاده ، وأن لا أقول في المتنبي إلا مَدحا ، وأني عرفت شيئاً جديداً اسمه لاشيئ ، لا شيئ هو مايمكن أن أقوله عند ورود تشابه في شعر للمتنبي مع من سَبَقه ، وهذا تأثر واضح برؤية المتنبي المتجسدة في قوله :

وضاقت الأرضُ حتى كان هاربهم …. إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا

لقد عرف المتنبي قبلاً شيئاً اسمه لا شيئ ، إي نعم .

والنقطة الأخرى التي وقفتُ عندها هي قوله : لم تركّز على عدم إكمالي للموضوع لطوله وتعبه ، قد عرفت أن المنشور طويل ، لكن تعبه ، أكان قصد الأستاذ العاني أنه مُتعِب ، أم هو فعلا تعبان ، أي ركيك ، كما نعبّر عن شيئ ركيك في لهجتنا ، يقول الشاعر :

الحالة تعبانة يا ليلى خطبة ما فيش ، وهنا أسأله مستنصحاً ، وإني أحترم رأي الأستاذ العاني وتقويمه أياً كان ، فمن الرائع أن تجد من يصوب لك من أهل الاختصاص ، ومن يُشهد لهم بالنصح دون مجاملة .

ما علينا ، كنتُ قد ابتدأت ببيت للمتنبي من بائية جميلة قرأتها مراراً وتكراراً في بائية للشاعر الشاب صالح علي ، وصالح – وهنا أذكر رأياً غير مُلزم – شاعر لو صقل موهبته وشذّبها لكان كمحمود سامي البارودي في عصره ، ولقلنا : هذا والله من إذا سمعتَه قلتَ : الله

حسناً ، انظروا قوله : ريح الأحبَّة لا تخفى نسائمها …. إن كنت تجهلُ سل عنها المحبِّينا

في تناص خفي والآية ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : ” إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفنّدون ” سورة يوسف الآية 94

وتناص آخر جاء به صالح يقول :

أما الخدود ترى عيني ملاحتَها …. أثواب يوسف في أجفانِ يَعْقُوْبِ

وكان في بائية المتنبي :

كَأنّ كُلّ سُؤالٍ في مَسَامِعِهِ … قَميصُ يوسُفَ في أجفانِ يَعقوبِ

على أن التناص في بيت المتنبي أجمل ولعل هذا من الأسباب التي دعتني أن أقول في البداية : لو صقل وشذّب موهبته ، ثم نكمل قراءة بائية العلي إلى أن نصل إلى أبيات تستحق الوقوف عندها :

ولي عيونٌ كأنَّ الليلَ أَشربها … خمرَ السُّهادِ بكأسٍ منهُ مصبوبِ

تأبّد القلبُ من أقداحه جزعاً ……… وزادني البعدُ تعذيبا بتعذيب

أذاقني النأيُ مرًّا ما تجرّعَهُ …. ذوو الجلادة من مردٍ ومن شيبِ

وبيته الثالث عندي أجمل من بيت المتنبي في البائية :

فما الحداثة من حِلْم بمانعة … قد يوجد الحِلم في الشبّان والشيب

وحتى لا يعترض أحد كما فعل الأستاذ العاني فيقول إني قرنت بين البيتين فقط لورود لفظين متشابهين فإني أطرحمها للنقاش وإبداء الرأي واعرضوهما على من شئتم من أدباء وشعراء ونقاد ، وأستثني نقاداً يقولون بنظرية الانزياح ، فإني والله كرهت أن آخذ برأيهم مُذ أجازوا للشاب السويدان بيته في الطير الأبابيل ، إي نعم .

وعمد العلي في هذه البائية إلى طريقة دَرَست أو كادت بين شعراء اليوم ، إذ وقف على الأطلال وتغزّل ثم دلف إلى موضوعه الرئيسي بحسن تخلّص وسلاسة انتقال ، ولقد كنت قرأت في القصيدة بيت لا أدري كيف أصفه :

وَالْمُشْرِعَاتِ سِهَامِ المُوْتِ فِيْ نَظَرٍ ….. أشْهَى إلِى النَّفْسِ مِنْ دَرسٍ وَتَأدِيْبِ

أما لِمَ لَمْ أدرِ كيف أصفه فلقوله : في نظر .. وكنت أرى قوله : ” في نظر ” خطأ ، ولو قال : من حدق لكان بيتاً يُعدُّ بكثير مما في شعر اليوم ، لا لشيئ إلا لقوله : أشهى إلى النفس من درس وتأديب ، وهذا حال من لا يمل أن يتعلم ويذاكر ، على أن الرماح ليست كالسيوف تُسلُّ من أغمادها ، إنما هي مُشرعة .

ومما أخذتُه عليه في القصيدة قوله :

ولا يسيرون في خيرٍ ومكرمةٍ …. لكن على الشّرِّ شُدَّادُ العراقيبِ

فكان قوله ” على الشر ” هنا أقرب إلى العامّي المحكي منه إلى الفصيح وكان الصواب أن يقول : إلى الشر ، تأسّيا بقول قريط :

قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم …. طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا

وفي دالية جميلة من شعره مطلعها : خليليَّ هل يخفي الهوى من يكابدُ … وهل تُذهبُ الآهاتُ ما هو واجدُ

تقرأ فيها بيتاً جميل الصورة يقول فيه :

كانَّ حبوب القمح قبل حصادها …. شهودُ صلاة ركعٌ وسواجدُ

ولا أدري لِمَ استعاض عن السنابل بالحبوب ، على أن الدلالة الرمزية في البيت والصورة جميلة ، جميلة والتقاطة بديعة .

وللعلي بيتان جميلان يقول فيهما :

لها حديثٌ يُهيمُ الروحَ مسمعهُ … أشهى من الشهد عند العارف الفطن

لو كان ماءً لماتت حين تفقدهُ ……. نفسُ العطاش على ما فيه من شجن

وهما عندي كقول كثير على اختلاف في التشبيه :

لو يسمعون كما سمعت حديثها … خروا لعزة راكعين سجودا

وأرى أن قول العلي أجمل .

من جهة أخرى ، طلب الأستاذ جميل العبد الله أن أذكر له شيئاً مما لا أتعرض له من الشعر ، وهذا باب لا يسلم من ولجه ، فإنّا نرى جل من يكتب هذه الأيام لا يقبل نقداً بل يسفهه ، بل ربما يعرض عنك أو يدلف متصفحك ليضع تعليقاً مضحكاً هنا أو مستفزاً هناك ، ولعلكم ترون هذا أو تعايشونه أو ربما قرأتم شيئاً كهذا وسمعتموه ، وإني إذ وعدت الأستاذ جميل وبما أني في سياق الحديث عن شاعر واعد سأضرب له

مثلاً من شعره ، يقول صالح علي :

هذي دفاتر أشعاري ممزّقةٌ …. والدمع خالط ماء الحبر أشجانا

ماء الحبر ، ما أعرفه أن الحبر مادة قائمة بذاتها وليست مزاجا ، وهو عندي كقول أحدهم حاجب العين أو شراب الشاي ، أو كقول الآخر : لا صوت في سمعنا يدعو إلى الفرح إلا اصطدام شراب الشاي في القدح

هل سمعت صوت اصطدام ( شراب الشاي ) يا أستاذ جميل ، هل سمعته ؟ فإذا ما سمعته أو علمتَ له صفة فأخبرني ولا تبخل علي ..

بعض هذه الأبيات كنت أرى لك توقيعاً عليها يا أستاذي ، واحداً من هذه التواقيع أذهلني ، كنتَ كتبتَ فيه : أنت تمتلك نواصي الشعر حقيقة ويبدو أنك عايشته طويلاً حتى أَلِفك .. .. إي نعم

أختم معكم ببيتين لصالح علي ولكم أن تقولوا لي ، ألا تذكركم حروفه بعصر ذهبي مضى خاصة بيته الثاني ؟

كفاك ملامًا واترك اللوم عاذلي ……….. فليس لمن ذاق الغرام ذنوبُ

إذا حشرجت نفس المحبِّ من الهوى … تداعى لها بين الضلوع وجيبُ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى