رسائل إلى ” آيلا “

فتحي إسماعيل | شاعر وروائي مصري

عزيزتي آيلا…

ما أشبه كينونتك داخلي بتلك الأيام التي تترنح، ما بين روضة العطاء والمحبة، وحزن الطبيعة.

تلك الأيام التي تشبه سراجي الخابي، فتغبٍش المرايا في وجهي

شاء قدر الله أن يضاف إلى جدراني، جدار الحظر والمرض.

فلا أملك غير منطقي ومنطوقي (وما أنطق عن هوى)

فالذي (كان قاب قوسين أو أدنى)

وأراه الله ما خشعت له الجوارح.. لن ينزله الله مكانة أدنى.

ستظل روحي تحلق حولك وإن بهت ضيها..

تعلمين جيدًا أن موتي على ذراعيك بداية ونهاية لا يفصلهما غير مسافات الوجع..

و تعلمين أن حرصي عليك أكبر من محبتي لك..

وأمنياتي لك تغلب أمنياتي لي..

كوني بخير، واطمئني الى اختيارات الله..

***

أيلا..

ذات فجر أشعلتُ عقلي قبل الشمس

فاستغنيت عن تفاصيل الأشعة

واختزلت ظلال الجدران

في امرأة توازي تاريخ الشجر والأنهار.

هي زهرة تدلّت من حديقة…

وأنا… محض روحٍ علقت.

حفَرَت على مسامي خارطة للكون.

هي ساري ليل…

وأنا قمر… ضوؤه مرهون

بشمس لا تلتزم بالمواعيد الرسمية للشروق

سماءُ هي، تستحثني على التحليق…

ثم تختبئ في المدارات البعيدة.

لذا لا يفجعني هذا الكم الهائل

من تفاصيل أخباركم.. صراعاتكم

على الأرض والحرب والحب..

دموعكم.. أحقادكم.. ثوراتكم.

هزائمكم وانتصاراتكم… شهقة وزفير.

بينما كوني وظلها .. بنكهة الخلود العصي

***

 

عزيزتي آيلا..

صباح الخير رغم الوباء..

وصباح الخير رغم انفلات حبات العقد الذي كان يزين ما بين ترقوتيك..

حتما هذا الوباء سينتهي،

مع من؟

ضد من؟

لا أدري، لكن ما أدريه حقًا أنني لم أنته منك بعد، ولن أنتهي غير أن تنهيني يداك، بطريقة أكثر فاعلية من تفشي وباء التخلي في بدني الذي أسلمه انتظارك.

كوني أنت بخير، ليكون العالم كذلك.

آه من هذا الزمان الذي أهدى الصبابة للعاجزين،

وأعجز المحبة أن تخلق عالما لا يُنهيه، فيروس صغير..

كوني بخير، واطمئني على المشتاقين، فللمحبة قلوب تحميها.

***

 

عزيزتي آيلّا..

كم كانت الوحدة رفيقًا حُلوًا، دافئًا.. وأنيسًا.

وكانت لي دون العالمين جليسًا..

أنا وظلي.. وسيجارة.

أنا وقلمي.. وكتاب.

أنا وعيناي ترمقان الجدران، وقيثارة تعزف..

كم كانت وحدتي كنز، وهبته إليك منذ عرفتك.

فصرتِ أنت الحلوة الدافئة.. الأنيسة..

وصرتِ أنت ظلي و سيجارتي وقلمي وكتابي وعيناي وقيثارتي،..

ف اعلمي يا عزيزتي، أني دونك… كدخان سيجارة تاهت في العدم. وأني دونك، نغمة مكتومة الصوت،

فدعيني اختلي بوحدتي مرة أخيرة، قبل أن يبتلعني الحنين.

***

 

عزيزتي آيلاّ..

اكتب إليك وأنا تحت دثار المحاولة..

وماذا بوسعي غيرها…

الشبكة سلحفاة، والنبض كذلك..

وعبثية الوقت الذي يفضي إلى الفراغ، والهذي الذي لا يجذب غير المحظورين عن الحياة،

هل كانت ثمة حياة هنا؟

أم هي أشياء تراكمت من وأد أحلام الذين لم ينجوا من إجهاض الرحم، فولدوا يتناوبون الصبر كحبّوب المهدّئات كي يستقوون على الحياة.

لا شيء ثابت هناك غيرك.. ولا شيء يتحقق إلا عبرك..

ولا أمل هناك غير أن ينظر الله إلي روحي مرة أخيرة ربما يراها بنظرة مغايرة..

ربما يراها تستحق الحياة.

***

 

عزيزتي آيلا..

أفضل أيام حياتي.. هي كل الأيام التي نزعت عني رداء الأنا وتماهيت فيك، فبتّ غيري، وكنتِ غيرك..

وأفضل يوم تمنيته هو يوم حدث بالفعل حين التقينك،

لكنه الإنسان الطامع أبدًا في ميلاد متجدد، ومتعة لا تزول، ولقاء لا ينفد

هذا العالم كما تعلمين قاسٍ، وأكثره قسوة على المدركين بهتانه، الطامعين في مغادرته، المتابعين لرعونته.

لسنا أطفالا تلهينا اللعبة الجديدة، ولسنا كبارًا.. ننظر للماضي بحسرة أو بابتسامة العِظة، لسنا أغرارا ولسنا ساذجين..

وهذا العالم الذي استباح براءة الأطفال منذ نيف وأربعين عامًا، ما زال يستبيح كل ألق في عين، ويحرق كل جناح يغويه التحليق..

ولسنا جيادًا تتصارع علينا الحلبات،

ما نحن، وماذا ننتظر، ولماذا جئنا وكيف سنرحل؟

لا يهم..

كل ما يهمني الآن أنني جئت، وعرفتك.. وأنتظر أن أنهمر على تضاريسك كسيل.. لم يتسنّ لأرض قبلك..

بها أحيا وعليها أموت..

ديمومة بقائي، لم تعد تعني غير انتظارات هطولك

***

 

عزيزتي أيلّا..

حين أصفك للملائكة، أخبرها بأنك نبوءة غواية لم يلدها رحم أنثى عابرة وإنما روح نشزت فعاشت تعاني الهبات والمنع، فلا قبلها الإنسان ولا قبلت بالملائكة. ولا استطاع الشيطان أن ينافس تفاحتها، فخنس.

وحين أصفك للمقبلين على الانتحار، وقاطعي الطريق، ومجرمي الحروب، أضع في قلوبهم رحمات، تغسلهم بالندى والدموع.

وحين أصفك للتيه والطرقات، أحفّزها على هداية الذين ضلّوا، وأقتل الرهبة في أقدام المشّائين..

وحين تنفردين بي، أصيرُ روحًا لا تثقلها الآثام، وقلبًا يجيد الاتّساع حتى لمن أوسعوه بالطعنات،

وحين أقول لك: أنني أجيدك.. فلا يعني أبدًا أنني سأكتفي منك ولو بك. فمثلك سرمدي البهاء، وإن تعلل بالغروب.

***

 

شيئان أقربهما بوجل.. وكثير من خجل..

الكتابة وآيلّا..

شيئان مُستقر روحي إليهما..

الموت… وآيلا..

شيئان.. أدمعا عيني.. وأنبتا جناحيّ..

أمي وآيلّا..

شيئان لا أريحهما معي..

عقلي وآيلّا…

ترى كم خلجة في نبضي لم تنضوِ تحت راية آيلّا..

وكم من مسام جلدي.. لم يتشربا بهمسها..

وكم سأظل مصلوبا على جبينها..

أمنعها تراني، وأمنعني أراها كما يليق برجل عادي وامرأة عادية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى