أهمية العنوان في الإبداع وقضايا نقدية أخرى

نبيل عودة | ناقد فلسطيني

Nabiloudeh@gmail.com
تفسر الفلسفة الإبداع بأنه نشاط هادف يهدف إلى الوصول لشيء جديد، وليس تكرارا لما سبق وإن وصل إليه الإنسان سابقا.
ويهدف الإبداع إلى استيعاب الثروة الثقافية للمجتمع وعدم العودة إلى ما سبق وإن طرح إلا للمقارنة بين ما كان وما هو قائم اليوم.
الإبداع هو نقيض للتكرار ونقيض للتمسك برؤية لا تتفاعل مع حركة الواقع الاجتماعي والفكري والثقافي المتجددين باستمرار.
والفكر الإبداعي يرتبط فكريا وفلسفيا بفلسفة “علم الجمال” التي تثير في نفس الإنسان مشاعر الحب النزيه والسرور وعشق الحرية والدفاع عن كل ما جميل ومتطور وإنساني .

والآن إلى التفاصيل:

قرأت قبل أكثر من سنة دراسة نقدية بكتاب انيق جدا، تناول كاتبها موضوع “العنوان”. الدراسة لم تضف شيئا للقارئ-لأسباب عدة، أهمها:
أولا: العنوان هو نتاج النص وليس النص هو نتاج العنوان. وهذا الأمر لم يلفت نظر الناقد، وبرأيي غياب ذلك يبرز أن الدراسة لم ترق لأي مفهوم ثقافي أو تنويري او جمالي، مهما حمل صاحبها من القاب وشهادات.

ثانيا: الناقد يعيد تدوير (تناول) نصوصا سبق وان عالجها نقديا قبل نصف قرن، دون أن يجتهد لاضافة نصوص جديدة وأرقى فنيا، وبالتأكيد عناوينها أقرب لجوهر المضمون.
هنا لا بد من التأكيد أن صياغة العنوان هو تعبير عن قدرة صاحب العمل الإبداعي للربط بين سرده وفهمه أن العنوان يشكل الوعاء الهام لكل العملية الإبداعية والجمالية للنص، وفي كل صياغة لأي موضوع آخر غير المادة الثقافية أيضا.

ثالثا: لم أجد علاقة بين فكرة الكتاب عن العنوان، وهي فكرة نقدية هامة بحد ذاتها وبين النصوص التي اختارها والتي يتخلف بعضها عن الإبداع القصصي الذي تطور في نصف القرن الماضي والذي يشد جمهور القراء لمتابعة الجديد الجميل والراقي.

مثلا الحديث عن موت إنسان بحادث طرق يمكن أن يحدث في مليون مكان بكرتنا الأرضية. لذا الادعاء النقدي أن حادث طرق في حيفا هو تعبير عن أهمية حيفا بالعنوان، وكأن العنوان هو تعبير قصصي هام عن الزمان والمكان للحدث وبدونه تفقد القصة مضمونها، هو استنتاج شكلي بعيد عن فهم جوهر العنوان وعلاقته بالسرد القصصي في حالتنا. ربما أقرب للخبر الصحفي.

رابعا: نقل فكر نقدي من ادب أكثر تطورا في جميع مجالاته ومحاولة تطبيقه على أدبنا هي خطوة هامة، لكن باختيار نصوص قصصية أكثر حداثة في تركيبتها الإبداعية وفي قدرة الكاتب على فهم أهمية العنوان في سرده الثقافي، وليس تدوير قصص قديمة سبق وأن عالجها نفس الناقد بمحور آخر.
والأهم أن يكون للناقد اطلاع واسع على مراحل التطور في قصتنا المحلية، ومعرفة الأسماء البارزة في قصتنا القصيرة، وهذا لم أجده مع الأسف.  الناقد عاد لقصص أرى بها مستوى ما دون المتوسط، وبعضها يفتقد لأهم المركبات القصصية، الدراما في الحدث والدراما في النص. وعناوين لا علاقة جوهرية لها بالنص بشكل يعبر عن مضمون الفكرة القصصية.

الأسوأ أن المؤلف يعيد استعمال نصوص قصصية سبق وان عالجها سابقا في ثمانينات القرن الماضي بأسلوب تقليدي في وقته، أيضا لم اعتبره نقدا جيدا في وقته.
وهي قصص أقل ما يقال عنها أنها فنيا تعبر عن مرحلة تجاوزناها، حتى في زمن كتابة نقده القديم عنها. بعض من اختار أعمالهم طوروا أدواتهم القصصية، من ناحية الصياغة والفكرة وبناء الدراما، لكنه بقي على نصوص سبق وإن عالجها سابقا.
المهم هنا أن عناوينها لا تستحق جهد إصدار كتاب ضخم يعيد التعامل معها بأسلوب مختلف مع انها نصوص عتيقة وضعيفة بمبناها القصصي والفني، وعناوينها تتناقض تماما مع فكرة الكتاب والجهد النقدي لمؤلفه، الذي صاغه بكتاب خاص عن كتابات بعيدة جدا عن فهم جوهر فلسفة الإبداع. وأضيف أن عناوين بعضها لا علاقة له بمضمون القصة نفسها وهو الفكرة النقدية للكتاب.

أوافق مع المؤلف أن العنوان له تعبير وارتباط فكري وبنيوي مع نص العمل. وهذا لم أجده بالنصوص التي عالجها. لا أكتب هذه الملاحظات النقدية إلا لأني أرى بالعنوان، للنص الأدبي أو الفكري أو الفلسفي أو السياسي، عنصرا جوهريا يعبر عن المضمون الذي يطرح.

وأقول أكثر من ذلك، أحيانا، أنا شخصيا، أبحث عن العنوان قبل أن أبدأ بصياغة المادة. بل وأحيانا لدي عنوان يحتاج إلى نص قصصي أو غيره، لأن العنوان هو جوهر الطرح الذي يشغلني ليس أقل من النص نفسه. وهو نتاج الارتباط بالقضايا الثقافية والفكرية والفلسفية لمجتمعنا.

إذن ما هو دور الناقد بصفته أولا مثقفا ومفكرا؟

يقول إدوارد سعيد عن دور المثقف في كتابة “الآلهة التي تفشل دائما”، على المثقف أن يكون واع لكل التعميمات التي تحدث والأفكار التي تطرح من قبل وسائل الإعلام، المرئية، المسموعة والمقروءة، التي لا بد ولها توجهات وايدولوجيات معينة وأفكار ربما تكون هدامة. على المثقف أن يفهم هده الأفكار ويتنبه لها، وأن يتصدى لما يراه منها ضار بالمجتمع وأن يتكلم عنها وينبه لها، وأن يكون البوصلة الحقيقية للمجتمع التي تسهم في إعادة توجيهه نحو الوجهة الصحيحة”.
وهذا يصح أكثر في الإبداع الأدبي. الموضوع ليس صياغة لا تعني في النهاية شيئا ملموسا أو مثقفا أو له مضمون جمالي يؤثر على القارئ، وهو ما تفتقده القصص التي تناولها الناقد في كتابه.

للأسف معظم القصص التي تناولها الناقد المحترم لا تثير أي حس جمالي لدى القارئ. ولا أفهم سببا لعودته لقصص سبق وإن نقدها قبل نصف قرن، ليعيد تدويرها بكتابه الأنيق.
أصلا فن القصة في ثقافتنا ارتقى بشكل كبير ومميز خلال الفجوة الزمنية التي أنتجت بها القصص وعودته لها وكأن ادبنا لم يتقدم أي خطوة جديدة منذ تلك النصوص. فهل كان سعادة الناقد غائبا عن التطور القصصي الإبداعي برمته؟ أو لم يقرأ ما هو جديد وجميل في قصتنا الحديثة؟

وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: هل من هدف غير النقد وراء إصدار الكتاب؟
مثل هذا النقد لا تشفع له الطباعة الأنيقة والورق الصقيل والغلاف الكرتوني الأنيق جدا للكتاب. وأمتنع عن أي إضافة أخرى!!

هناك هوة غير قابلة للتجسير بين التشجيع، بإثارة الوهم بالاكتمال، وبين ادعاء النقد الذي يرتكب فيه الناقد خيانة لثقافته ولجمهور القراء. لم نعد في عصر يسحرنا المؤلف بأناقة كتابه.
هذه كتابة أقل ما يقال عنها آنها تتعامل مع الثقافة من خارج الفكر الثقافي، دون اعتماد العقل والمنطق والقدرة على الربط بين النص والواقع.
لا شك لدي أن للعنوان أهمية عظيمة. لا تقل عن أهمية العمل الإبداعي أو الصياغة لأي موضوع آخر فكري أو سياسي أو علمي.

لكن مهزلة إعادة تدوير نصوص عتيقة بزمن كتابتها وبمستواها الفني الضعيف جدا، لا يبقي من قيمة للكتاب الا بأن يسجل كإنجاز آخر لصاحبه. ولا أرى ان القارئ العربي متعطش لمثل هذه الدراسات التي أهملت جديد الإبداع وعادت لمرحلة بدايات تطور القصة القصيرة في ثقافتنا.

أهمية الكتاب هي بتعريفنا على فكر نقدي جديد يتناول العلاقة بين العنوان والنص. رغم أننا كأدباء نعيش هذه العلاقة،ربما دون أن نفكر فيها، لكن معظمنا لم يفكر أن الغرب أبدع تيارا نقديا بخصوصها، فشكرا لتنويرنا بالموضوع!!

طبعا أعمم لأني لا أريد الدخول لمضمون نصوص الكتاب والقصص التي تناولها، احتراما للناقد والزملاء أصحاب القصص.

رغم ذلك للكتاب أهمية أنه ينبهنا إلى قيمة العنوان في الإبداع الأدبي.

Nabiloudeh@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى