الشغف بالحياة (1)

د. محمد سعيد | أستاذ الصحة النفسية المشارك، كلية التربية، جامعة دمنهور

أولاً- مقدمة- الشغف بالحياة- إطلالة عامة: 

ربما تشعر بفقدان الشغف وفقدان الدافعية إذا اعترتك حالة البلادة النفسية، وعادة ما تؤثر هذه الحالة على سلوكك وعلى قدرتك على أداء أو إكمال أنشطة الحياة اليومية. وعلى ذلك فالعرض الأساسي للبلادة النفسي “نقص الدافعية لفعل، إكمال، أو إنجاز شيء، ويقترن ذلك في الغالب بانخفاض جوهري دال في مستويات الطاقة النفسية مع فقدان التحمس، والشعور بأن الحياة باهتة لا يوجد فيها ما يغري على الاجتهاد. 

وتأسيسًا على ذلك قد يجد من يعاني من حالة البلادة النفسية ذاته في وضع وجودي تتناقص فيه الانفعالات والمشاعر والدافعية والرغبة في الفعل أو الأداء، مع الفتور والتراخي والتكاسل وعدم الاهتمام بالأنشطة التي كانت تجلب السعادة والسرور للشخص قبل ذلك. 

وربما تجعل حالة البلادة الشخص يعبر عن انعدام شغفه وفقدان فضوله السابق بعديد من جوانب الحياة، مثل اللامبالاة وعدم الاكتراث عند مقابلة أناس جدد أو تجريب أشياء جديدة، فضلاً عن عدم الاهتمام بالأنشطة أو التعامل مع المشكلات والمتاعب الشخصية. 

وعادة ما تتبدى على ملامح وجه من تعتريه حالة البلادة النفسية التسطح والخدر الانفعالي وعدم التجاوب الانفعالي مع أي تغير، مع نقص في المجهود والتخطيط والاستجابة الانفعالية، مع إيثار العزلة والابتعاد عن فعاليات الحياة الاجتماعية. 

ومع استمرار سيطرة حالة البلادة النفسية بالمعنى السابق على الشخص تتأثر قدرته على تكوين علاقات بين شخصية مع الآخرين، ويسوء أداؤه السلوكي العام في المدرسة أو العمل. 

وتختلف البلادة النفسية بالمعنى المشار إليه عن الاكتئاب، على الرغم من أنها قد تكون عرضًا جوهريًا من أعراضه؛ ذلك لأن الاكتئاب قد يسبب الشعور باليأس والعجز hopelessness and guilt  والميول الانتحارية وتعاطي المخدرات والخمور كوسيلة هروبية. 

وإذا كان الشغف بالحياة عاملاً مركزيًا في التغلب على حالة البلادة النفسية بالمعنى المشار، فإنه يعد في نفس الوقت وقودًا ومحددًا أساسيًا من محددات الإبداع والفعل الإبداعي في الحياة. 

ويتطلب الإبداع كما يعبر عنها في تحليله النهائي بالمنتج الإبداعي Creative Outcome  امتلاك “المُبدع” كشخصية توجهًا عقليًا معينًا في الحياة قوامه حالة الشغف بالحياة والإقبال عليها والمرونة المعرفية واتساع الأفق والانفتاح العقلي وتعددية الرؤية وتكاملية أنماط التفكير، إذ أن الإبداع دالة في صيغته الإجمالية للتفاعل بين عوامل داخلية تتعلق بطبيعة الشخص وخصائصه وموقفه ورؤاه وتصوراته لذات وللحياة وعوام خارجية تتعلق بما يصح تسميته البيئة المحفزة والداعمة. 

ويصعب في واقع الأمر التفكير في الظاهرة الإبداعية بالتوقف عند ما يصر عليه أنصار المنحى السيكومتري في الوصف والتحليل بالتوجه نحو تحديد الأوزان النسبية لإسهامات كل عامل مع هذه العوامل في منتجها النهائي؛ إذ يبقى المجهول في الوصف والتحليل والتفسير بالرغم من كل ما تم التوصل إليه أكثر من المعلوم؛ الأمر الذي يجعل الظاهرة الإبداعية مشروعًا مفتوحًا على الدوام لمزيد من المقاربة وربما التأويل الدينامي لسبر بنيتها وسياقها ومنتجها. 

ورأت باربرا فريدريكسون Barbara Fredrickson (2003) في سياق نظريتها عن “التوسيع ـ البناء broaden-and-build theory” أنّ امتلاء البنية النفسية للشخص بالانفعالات الإيجابية يفضي إلى ثراء رصيد ما سمته التفاعلية بين التفكير ـ الفعل thought-action repertoire  بما يتضمنه ذلك الرصيد من توجه نحو مقاربة الوجود بتفاصيله ووقائعه وأحداثه ومهامه وأنشطته بذهنية مفعمة باليقظة والوعي بالحال والبصيرة بالمُعْطي والممكن والتدثر بفلسفة الإمكان والتحليق بتفكير استباقي قائم على التدبر وتصوير الاحتمالات وترجيح ما هو أقرب للتحقق والاندفاع باتجاه تحقيقه بمغايرة للسائد والمألوف. 

وأيدت نتائج عديد من الدراسات البحثية فرضية “أن الانفعالات الإيجابية تزيد من احتمالات الإبداع”، فقط خلصت نتائج دراسة (Nadler, et al, 2010) إلى أن المشاركين الذي استثيرت في تكوينهم النفسي انفعالات إيجابية عبر الاستماع إلى موسيقى مبهجة وفيديوهات كوميدية تميز تفكيرهم بالجدة واستطاعوا حل المشكلات والمهام المقدمة لهم بطرائق غير مألوفة وبمعامل زمن أقل وبمستوى مرتفع من الدقة.

الأمر الذي يمكن معه التنويه إلى حتمية تأسيس بيئة تعلم إيجابية إذا ما أريد تحفيز الإبداع في البناء النفسي للمتعلمين بمصاحباته التي تتمثل في التدفق التلقائي للأفكار والتوجه نحو التجديد والانفتاح على الخبرة.  

والشغف Passion In Life وحب الاستطلاع والتطلع للجديد حالة دافعية سارة pleasant motivational state تتضمن ميل الإنسان للسعى لكل ما هو جديد وغير مألوف، والاندفاع باتجاه الخبرات المعرفية والتحديات غير الاعتيادية، ويختلف الشغف والفضول وحب الاستطلاع عن الانفعالات الإيجابية الأخرى لتميزه بالرغبة القوية والمثابرة في التعامل مع الأنشطة والمهام والخبرات التي تحظى باهتمام الإنسان. 

وعلى الرغم من أن الشغف والاستمتاع أو الابتهاج حالات دافعية إيجابية، إلا أن الشغف والانفعالات الإيجابية قد لا يقترنان في بعض المواقف؛ ذلك لأن الشغف والفضول وحب الاستطلاع قد يدفعان الشخص باتجاه المثابرة في السعي نحو الأنشطة والخبرات الجديدة والمعقدة وغير الاعتيادية والتي يحيطها الغموض والخطورة، وبالرغم من ذلك فإن الإثابات أو المكافآت المتعلقة بحالة الشغف والفضول وحب الاستطلاع تأتي من عمليات تجميع المعلومات والخبرات المعقدة ودمجها معًا في تكوينات جديدة أكثر من ارتباطها بالوجدان الموجب المرتبط بها.

ويعد الشعف بالحياة بالمعنى المشار إليه أحد ملامح الشخصية المفعمة بالحياة Life-fullness Personality، فلشغف بالحياة والإقبال عليها والترحيب بها أحد الملامح الجوهرية للشخصية المتمتعة بالصحة النفسية، ويعد الشغف بالحياة في جزء منه دالة لوجود أهداف رئيسية لدي الإنسان محددة وواضحة المعالم تترجم دلالات الحياة ومعناها وغاياتها النهائية لديه، الأمر الذي يجعله أقرب إلى شخصية المثابر الإيجابي.

وغالبًا ما تدرس الشخصية المفعمة بالحياة في أدبيات علم النفس الإيجابي باستخدام تعبير “الازدهار النفسي Psychological Flourish” وهي حالة يؤمن الإنسان بموجبها أن الحياة تجربة للمتعة والابتهاج وفقًا ما يعرف بمدخل السعادة المرتكز على الفضائل الأخلاقية الدافعة للإنسان بأن يكون له بصمة نفسية إيجابية في الحياة (محمد شوقي الزين، 2013 : 101؛ (Layard & Clark, 2015) .

والمحدد الرئيسي لامتلاء حياة الإنسان بالحيوية واليقظة والإثمار الإيجابي بغض النظر عن ظروف الحياة ومتاعبها ونكباتها وفقًا لنظرية فيكتور فرانكل للشخصية يتمثل في امتلاء حياة الإنسان بالمعنى والقيمة، الأمر الذي يمثل بالنسبة له عامل تحصين نفسي وتقوية جهاز المناعة النفسية ضد مؤشرات الموت النفسي ومخاصمة الحياة (Frankl, 1973) .

وتعد المرونة النفسية الملمح الأساسي للشخصية المفعمة بالحياة، ورأى (Wilson, 2010)  أن المرونة النفسية تتمثل في تقبل الشخص للحياة بحلوها ومرها، والتركيز على كل ما هو ممكن القيام به وتبنى فلسفة ما الذي استطيع أن أقوم به؟ في مقابل التخلي عن فلسفة ما الذي لا استطيع القيام به؟ مع المثابرة والاجتهاد في صناعة حياة شخصية هادفة وذات معنى، مع الاندفاع باتجاه الترحيب بالحياة والإقبال عليها بغض النظر عن محنها وظروفها العصيبة بدلاً من الإدبار عنها والاستياء منها (Hayes, Strosahl & Wilson, 2012).

شكل (1) ملامح الشخصية المفعمة بالحياة.

من جانب آخر يعد الشغف بالحياة والإقبال عليها والترحيب بها وامتلاء البنية النفسية للإنسان بالفضول وحب الاستطلاع والترحيب بالجديد والانفتاح على الخبرة أحد الخصائص الأساسية لتخليق حالة التدفق في الحياة وتكوين الشخصية ذاتية الإثابة على نحو ما تصور ميهاي تشكزنتماهي. 

يعد اندماج الإنسان بكامل منظومات شخصيته في الحياة بعفوية وتلقائية وتركيز وتقبل وترحيب واستمتاع جوهر الحياة الإنسانية الإيجابية، فعن طريق الاندماج التلقائي الذاتي والإرادي في الحياة تنشط همة الإنسان ودافعيته، ويصبح لوجوده معنى وقيمة، ويعرب من خلال اندماجه عن ذاته بكامل قدراتها وإمكانياتها، ويحقق الارتقاء الشخصي، عكس التراخي والتكاسل وفتور الهمة الذي هو تمييع لخصوصية الإنسان وذاتيته وتضيع لكل مظاهره تميزه وجدارته.

ومن أهم النظريات النفسية التي قدمت وصفًا وتحليلاً وتفسيرًا لماهية الاندماج الإيجابي في الحياة نظرية التدفق flow Theory والتي ترجع البدايات الأولى لدراساتها إلى سنة 1975 من قبل عالم النفس المجري الأصل الأمريكي الجنسية ميهالي سكزنتيمهالي Csikszentmihalyi  والذي وصف حالة التدفق بأنها خبرة وجودية ترتبط بما يعرف بالاندماج التام في أنشطة مثيبة بذاتها (autotelic activities أنشطة يتم الإقبال عليها بتلقائية وبدافعية داخلية مع الاستمتاع والبهجة أثناء أدائها دون انتظار أي إشباعات أو إثابات من خارج النشاط ذاته” بتركيز تام وذوبان الفعل والوعي، وشعور بالسيطرة والضبط، وفقدان الشعور بالذات، وتغير في الإحساس بالوقت، واستدامة البهجة والسعادة” (Csikszentmihalyi, 1990).

وركز ميهالي سكزنتميهالي في نظريته وبحوثه عن التدفق على ما يعرف بإطار الإدراك الذاتي للتدفق أو ما يشار إليه اصطلاحًا بتعبير ظاهرياتية التدفق phenomenology of flow، ـ فلسفة الظواهر phenomenology لإدموند هوسيرل ـ وأفاد سكزنتميهالي وزملاؤه أنه على الرغم من أنّ “القدرة على الخبرة بالتدفق تبدو تقريبًا عامة، يُوجد فروقًا فردية كثيرة بين الناس فيما يتعلق بكل من تكرار التدفق ونوعيته (Nakamura & Csikszentmihalyi, 2000: 93) ولوصف وتفسير هذه الفروق قدم سكزنتميهالي مفهوم “الشخصية الأتولوتيكية autotelic personality ويترجم هذا التعبير عادة إلى “الشخصية ذاتية الإثابة” وهي الشخصية التي تندفع في الإبحار في الحياة بالتعامل مع الخبرات والمواقف والأنشطة والمهام بتلقائية واستغراق واستمتاع ونسيان للذات وللزمن ببهجة وسعادة تمثل كل الإثابة التي ينتظرونها ودون توقع نواتج أو فائدة شخصية أخرى تعود عليهم، كما يستخدم هذا التعبير لوصف الشخص الذي يقوم بالاندماج في الأنشطة والمهام من أجل الأنشطة والمهام في حد ذاتها أكثر من التوجه لتحقيق هدف خارجي تالي (Csikszentmihalyi, 1997, p. 117)” .

ورأى سكزنتميهالي بعد ذلك أن نمط الشخصية ذاتية الإثابة يتميز بما سماه “ما وراء المهارات، أو الكفاءات التي تكمن الشخص من الدخول في حالة التدفق والبقاء فيها، ومن هذه الكفاءات: الشغف والفضول حب الاستطلاع والاهتمام في الحياة curiosity and interest in life، المثابرة الإصرار والتصميم والدأب  persistence، وانخفاض التمركز حول الذات low self- centeredness ت (Nakamura & Csikszentmihalyi, 2000: 93) . 

وتعمل مثل هذه الخصائص على تسهيل تخليق مستويات مرتفعة من الدافعية وتعزيزها والإبقاء عليها وتعبئة مصادر الشخص وعتاده النفسي للترحيب بالحياة والشغف بخبراتها وأنشطتها ومهامها والتي يعبر عنها في عملية التفاعل الدينامي بينه وبين البيئة.
وتوصف الشخصية الأتولوتيكية “ذاتية الإثابة” على المستوى الإجرائي بأنها حالة توجه عام نحو تفضيل قضاء الوقت في خبرة تدفق تتميز بتفضيل ذاتي للمواقف ذات المهام مرتفعة مستوى التحدي والتي تتطلب مستويات مرتفعة من المهارة، مع محاولة تناولها إجرائيًا باستخدام مقاييس سمات الشخصية التي تعكس توجه الشخص تلقائيًا وبصورة إرادية نحو التركيز التام والاستغراق المطلق فيما يقوم به من أعمال أو ما يؤديه من مهام وأنشطة، فضلاً عن تبنى ما يعرف بالتوجه نحو الإنجاز achievement orientation (Nakamura & Csikszentmihalyi, 2000) .

وركزت الدراسات البحثية الحديثة على سمات الشخصية التي تتوسط الارتباطات بين الملامح الموضوعية للمواقف وخبرة التدفق الناتجة (Moller, Meier, & Wall, 2010; Delle Fave, 2014) ، فقد خلصت دراسة إلى وجود علاقة ارتباطية مرتفعة ودالة إحصائيًا بين توجه الدافعية الداخلية  intrinsic motivation orientation (IMO)، وارتفاع مستوى استمتاع لاعبو الشطرنج بالمباريات عالية التحدي (Abuhamdeh & Csikszentmihalyi, 2009)، وفي نفس السياق توصلت نتائج (Eisenberger et al., 2005; Engeser & Rheinberg, 2008) دراسة إلى وجود علاقة ارتباطية موجبة ودالة إحصائيًا بين ارتفاع مستوى التدفق والدافعية للإنجاز achievement motivation، بينما كشفت نتائج دراسة (Keller & Blomann, 2008) عن وجود علاقة ارتباطية موجبة ودالة إحصائيًا بين ارتفاع مستوى حالة التدفق ومركز الضبط الداخلي internal locus of control، والتوجه نحو الفعل (Keller & Blomann, 2008)، فعالية الذات self-efficacy Bassi, Steca, Delle Fave, & Caprara, 2007)، والتفاؤل وتقدير الذات والانبساطية optimism, self-esteem, and extraversion (Schmidt, Shernoff, & Csikszentmihalyi, 2007).
ويجدر الإشارة إلى هذه الخصائص والسمات الشخصية ترقي وتزيد من خبرة التدفق إما عن طريق تسهيل الاندماج في المهمة القائمة (التوجه نحو الفعل action orientation)، أو عن طريق جعل الشخص أكثر حساسية ووعيًا بالتوازن بين التحدي/المهارة (دافعية الإنجاز، مركز الضبط الداخلي). 

ثانيًا- قوة الفضول وحب الاستطلاع والشغف بالحياة- رؤية تود كاشدان: 

ما الذي تريده من الحياة؟ ربما تتمثل الإجابة الأكثر تلقائيًا والأكثر ترددًا على لسان الغالبية العظمى من الناس “نريد أن نكون سعداء”، وخلصت دراسة مسحة أجريت سنة 2007 على أكثر من (10.000) شخص من (48) دولة ونشرت في مجلة رؤى في العلوم النفسية إلى أن تقديرهم للسعادة كان مقدمًا على: النجاح، الذكاء، المعرفة، النضج، الحكمة، العلاقات، الثروة، ومعنى الحياة. وما هو محل اتفاق أن السعادة أمرًا جيدًا، ومع ذلك ووفقًا لخبراتي البحثية وتجربتي الشخصية في الحياة، لاحظت أنه عندما نركز كل انتباهنا وكل جهدنا فيما نعتقد أنه سيفضي بنا إلى السعادة، كلما ابتعدنا يقينًا عن مسارها. 

ونشر كل من آلان كرويجر ودانييل كانيمان وزملاؤهما ورقة علمية عنوانها “هل نتمتع بمزيد من المرح بعد”؟ في محالة للإجابة عن سؤال أكثر عموميًا مفاده: هل أدى التقدم الاجتماعي، والرخاء الاقتصادي والتقدم التكنولوجي خلال الخمسين سنة الماضية إلى تغيير جودة حياتنا؟ هل سمحت لنا هذه الفرص الجديدة بقضاء مزيدًا من الوقت في فعل ما نهتم به، وبالتالي زيادة رضانا ومعنى الحياة؟ 

والإجابة بالنسبة لمعظما “لا”. فغالبية الأمريكيين على سبيل المثال يقضون أقل من (20%) من وقتهم في الاندماج فيما يمكن وضعه تحت مسمة الأنشطة الممتعة والهادفة مثل: التحدث مع صديق مقرب أو التفاعل مع الأحباب، أو اللعب، أو ممارسة الأنشطة الروحية، أو الهوايات الإبداعية، وبدلاً من ذلك فإن معظم الوقت والجهد ينفق في إما أنشطة عمل غير مرضية أو مهام يومية مملة لا توفر أي بهجة أو مرح أو متعة. 

الأمر الذي يرتب بحثًا وسعيًا عن مسارات أخرى لتحقيق السعادة عبر ما يعرف بعناصر الاندهاش والمفاجأة وهي لا تتأتي إلا عبر الفضول وحب الاستطلاع والشغف بالحياة والانفتاح على خبراتها؛ وبالتالي فإن أحد مفاتيح أبواب السعادة فيما أرى تنمية وممارسة الحس الفطري بالفضول وحب الاستطلاع والانفتاح والشغف بالحياة؛ ذلك لأن الفضول والشغف وحب الاستطلاع حالة من الاهتمام النشط والأصيل بالرغبة في المعرفة والتعلم الأمر الذي يفتح نوافذ مشرعة كثيرة جدًا لفرص كثيرة لخبرة الاستكشاف، البهجة، والاستمتاع والشعور رنين الإيجابية في الحياة. 

وما يجدر الإشارة إليه أن الفضول والشغف وحب الاستطلاع والانفتاح على وقائع الحياة وأحداثها وخبراتها بوعي وبصيرة أمر يمكن تنميته ورعايته وتحسينه فيما يمكن التعبير عنه بإيجابية “قوة الفضول والشغف” في تحويل أنشطة الحياة إلى خبرات مبهج. 

ثالثا – تود كاشدان ورؤية أولية عن الشعف في الحياة: 

ما الذي تريده من الحياة؟ ربما تتمثل الإجابة الأكثر تلقائيًا والأكثر ترددًا على لسان الغالبية العظمى من الناس “نريد أن نكون سعداء”، وخلصت دراسة مسحة أجريت سنة 2007 على أكثر من (10.000) شخص من (48) دولة ونشرت في مجلة رؤى في العلوم النفسية إلى أن تقديرهم للسعادة كان مقدمًا على: النجاح، الذكاء، المعرفة، النضج، الحكمة، العلاقات، الثروة، ومعنى الحياة. وما هو محل اتفاق أن السعادة أمرًا جيدًا، ومع ذلك ووفقًا لخبراتي البحثية وتجربتي الشخصية في الحياة، لاحظت أنه عندما نركز كل انتباهنا وكل جهدنا فيما نعتقد أنه سيفضي بنا إلى السعادة، كلما ابتعدنا يقينًا عن مسارها. 

ونشر كل من آلان كرويجر ودانييل كانيمان وزملاؤهما ورقة علمية عنوانها “هل نتمتع بمزيد من المرح بعد”؟ في محالة للإجابة عن سؤال أكثر عموميًا مفاده: هل أدى التقدم الاجتماعي، والرخاء الاقتصادي والتقدم التكنولوجي خلال الخمسين سنة الماضية إلى تغيير جودة حياتنا؟ هل سمحت لنا هذه الفرص الجديدة بقضاء مزيدًا من الوقت في فعل ما نهتم به، وبالتالي زيادة رضانا ومعنى الحياة؟ .

والإجابة بالنسبة لمعظما “لا”. فغالبية الأمريكيين على سبيل المثال يقضون أقل من (20%) من وقتهم في الاندماج فيما يمكن وضعه تحت مسمة الأنشطة الممتعة والهادفة مثل: التحدث مع صديق مقرب أو التفاعل مع الأحباب، أو اللعب، أو ممارسة الأنشطة الروحية، أو الهوايات الإبداعية، وبدلاً من ذلك فإن معظم الوقت والجهد ينفق في إما أنشطة عمل غير مرضية أو مهام يومية مملة لا توفر أي بهجة أو مرح أو متعة. 

الأمر الذي يرتب بحثًا وسعيًا عن مسارات أخرى لتحقيق السعادة عبر ما يعرف بعناصر الاندهاش والمفاجأة وهي لا تتأتي إلا عبر الفضول وحب الاستطلاع والشغف بالحياة والانفتاح على خبراتها؛ وبالتالي فإن أحد مفاتيح أبواب السعادة فيما أرى تنمية وممارسة الحس الفطري بالفضول وحب الاستطلاع والانفتاح والشغف بالحياة؛ ذلك لأن الفضول والشغف وحب الاستطلاع حالة من الاهتمام النشط والأصيل بالرغبة في المعرفة والتعلم الأمر الذي يفتح نوافذ مشرعة كثيرة جدًا لفرص كثيرة لخبرة الاستكشاف، البهجة، والاستمتاع والشعور رنين الإيجابية في الحياة. 

وما يجدر الإشارة إليه أن الفضول والشغف وحب الاستطلاع والانفتاح على وقائع الحياة وأحداثها وخبراتها بوعي وبصيرة أمر يمكن تنميته ورعايته وتحسينه فيما يمكن التعبير عنه بإيجابية “قوة الفضول والشغف” في تحويل أنشطة الحياة إلى خبرات مبهجة.  

رابعا- خمس فوائد للعقل المستفسر “الباحث” (الشغوف الموجه بحب الاستطلاع):

الشغف والفضول في تحليله النهائي ذلك الانتباه والتركيز في الملاحظة على متابعة الأشياء التي يهتم بها الإنسان، فضلاً عن كونه خاصية تتعلق بإدراك وتقدير المتعة والبهجة في كل الخبرات الجديدة التي تحيط بنا، والبحث عن الجديد والمعنى في كل خبرات الحياة ووقائعها. 

وعندما يتملكنا الشعف وحب الاستطلاع والفضول والإقبال على الحياة نرى الأشياء بطرائق مختلقة واستخدام قوامنا للملاحظة والتركيز والاهتمام بكل ما يحيط بنا بوعي وبصيرة وتعددية رؤية وانفتاح على كل جديد، والتماس بصورة مباشرة مع ما يحدث في اللحظة الراهنة، والتوقف عند مضامينها ودلالاتها وما يمكن توقعه فيها. 

وبالشغب وحب الاستطلاع والفضول والانفتاح على الحياة نشعر بأننا مازلنا على قيد الحياة مندمجون فيها وقادرون على استثمار كل فرص الارتقاء وعمل علاقات وارتباطات والبصيرة بغايات الحياة ومعناها ومغزاها الحقيقي، وفيما يلي خمس طرائق يعزز بها الشغف والفضول وحب الاستطلاع والانفتاح على الحياة الهناء وجودة الحياة تتمثل فيما يلي: 

– الصحة Health: 

نشر في سنة 1996 دراسة في مجلة علم النفس والشيخوخة دراسة تكونت عينتها من 10.000 شخص تتراوح أعمارهم بين 6- 86 سنة تم ملاحظاتهم لمدة خمس سنوات، ووجد الباحثون أن من قرروا أن لديهم مستوى مرتفع من الشغف بالحياة في بداية الدراسة أكثر اندماجًا في الحياة وأكثر اتصالاً مباشرًا بخبرات الحياة بعد أخذ تأثيرات مرور الزمن وما إذا كانوا يدخنون أم لا؟ وما إذا كانوا مصابون بالسرطان أو أمراض قلب أم لا؟. 

ويجدر الإشارة إلى أن إمكانية تناقص الشغف بالحياة علامة أولية للأمراض النيورولوجية “العصبية”، وتدهور الصحة. وبغض النظر عن ذلك من العلامات الواعدة التي تعزز إمكانية التغلب على نقص بالحياة بالرغم من مخاطر مثل هذه الأمراض بل وربما تحيل ذلك النقص في الشغف إلى إقبال وترجيب بالحياة وتوقف التدهور الطبيعي في الصحة الجسمانية المصاب للتقدم في العمر ما أورده  د. لاري دوسي Larry Dossey في كتابه ” قوة الهواجس The Power of Premonitions” من أنّ النساء اللواتي يندمجن بانتظام في ممارسة ألعاب الألغاز وحل الألغاز وتجريب خبرات حياتية جديدة تخرجهم من روتين الحياة المألوف وإيقاعها الاعتيادي يحتفظن بقدراتهن العقلية إلى أواخر الحياة. وباختصار فإن الممارسات الحياتية غير التقليدية لما هو غير اعتيادي وغير متوقع والحرص عليها بانتظام تحافظ على صحة الدماغ وتنشط عملياته ووظائفه. 

ونشر في سنة 2005 في مجلة “علم نفس الصحة Health Psychology” تقريرًا بنتائج دراستين استمرتا سنتين أجريتا على أكثر من (1.000) مريضًا ووجد أن ذوي المستويات المرتفعة من الشغف والفضول وحب الاستطلاع curiosity كانوا يقل لديهم بصورة جوهرية دالة احتمالات الإصابة بضغط الدم والسكر، وعلى الرغم من أن مثل هذا الارتباط لا يعني علاقة سببية، إلا أن هذا الارتباط يدل على أن حب الاستطلاع والفضول والإقبال على الحياة بشغف واستمرارية في الاتصال له ارتباطات إيجابية بالصحة، ويتطلب مزيدًا من الدراسات في المستقبل.

– الذكاء Intelligence: 

 أظهرت نتائج عديد من الدراسات أن “الفضول وحب الاستطلاع والإقبال على الحياة بشغف واستدام الاتصال بوقائها وأحداثها وخبراتها بتفاعل استفساري معها” يرتبط بالذكاء ويحافظ على الوهج العقلي للشخص ، فقد نشر في سنة 2002 دراسة في مجلة “الشخصية وعلم النفس الاجتماعي Journal of Personality and Social Psychology ” توصل الباحثون إلى أن “عامل السعي للجديد أو البحث عن كل ما هو جيد من خلال سلوك استكشاف البيئة novelty-seeking” كمؤشر للشغف بالحياة لدى أطفال صغار في سنة الثالثة ارتبط بارتفاع معامل الذكاء لديهم في مع نهاية مرحلة الطفولة مقارنة بأقرانهم ذوي المستويات المنخفضة من سلوك السعي للجديد عن طريق الاستكشاف، وقام الباحثون في هذه الدراسة بقياس درجة سلوك السعي أو البحث عن الجديد novelty-seeking behavior لدى (1.195) يبلغون من العمر 3 سنوات ثم قيست قدرتهم المعرفي في سن الحادية عشر، وكما كان متوقعًا وجد أن الأطفال الذين كان مستوى شغفهم بالحياة وحبهم للاستطلاع وسعيهم للبحث عن الجديد والتجديد كان معامل ذكاؤهم أكثر ب (12) نقطة مقارنة بأقرانهم الذين كان مستوى شغفهم بالحياة منخفضًا وهم في سن الثالثة، فضلاً عن أن قدراتهم التحصيلية والقرائية كانت أفضل. 

وأظهرت نتائج دراسات أخرى أن ارتفاع مستويات “الشغف والفضول وحب الاستطلاع” لدى الراشدين ارتبط بارتفاع في مستوى القدرة التحليلية analytic ability، ومهارات حل المشكلة problem-solving skills ، والذكاء العام overall intelligence. وهي نتائج تثبت أن تعهد حب الاستطلاع والفضول والشغف بالحياة بالرعاية والتنمية في حياتنا اليومية أمرًا يمكن أن يصلنا بنا إلى الارتقاء والكفاءة الحياتية العامة.   

العلاقات الاجتماعية Social Relationships: 

يمكن للإنسان تكوين علاقات مرضية وإيجابية والحفاظ عليها مع الآخرين من خلال الانفتاح على الآخرين وإبداء الاهتمام الأصيل الحقيقي بهم وإظهار التقبل والتواد الطبيعي معم. 

ويجدر الإشارة إلى أن من الأسباب الأولى لدفع المتزوجين إلى السعي للإرشاد أو العلاج هو حالة الملل والضجر التي تنتابهم بصورة عامة في سياق الحياة الزوجية، ويرتبط بهذه الحالة بصفة عامة مشاعر الاستياء والضيق والامتعاض وربما العدائية الكامنة، وانكسار دائرة التواصل الإنساني الحميم، ونقص دال في الاهتمام والرعاية أثناء الوقت الذي يقضيه الزوجين معًا. 

إلا أن ما هو مبشر في هذا الصدد أن ذوي المستوى المرتفع من الفضول وحب الاستطلاع والتجديد والشغف بالحياة يقررون أنهم يعيشون علاقات مرضية وإيجابية في الحياة بصفة عامة في إطار الزواج والحياة الزواجية بصفة خاصة. وعادة ما يميل الأزواج السعداء إلى وصف شركائهم بأنهم مهتمون ومتجاوبون ومقدمون للرعاية والاحتواء. 

وما يفسر هذه النتائج أن ذوي المستويات المرتفع من الشغف بالحياة كما يعبر عنه بالفضول الإيجابي وحب الاستطلاع والرغبة في التجديد والاكتشاف والإقبال على الحياة يميلون إلى التصرف بطرائق تسمح بتنمية العلاقات مع الآخرين والارتقاء بهم بيسر وسهولة وإيجابية. 

فقد كشفت نتائج دارسة لتود كاشدان إلى أن قضاء الشخص لخمس دقائق فقط في مزاملة أو مرافقة شخص من الجنس الآخر ويدور الحوار حول أحكام منهما على شخصية الآخر بشغف وإقبال وترحيب يؤدي إلى السعادة وزيادة احتمالات العلاقة الإيجابية بينهما، وتم مقابلة أصدقائهم المقربين وآبائهم لتأكيد مثل هذه الصفات ووجد بالعفل أنهم يتمتعون بشغف وفضول حب استطلاع وإقبال على الحياة وفقًا لوصف زملائهم وآبائهم لهم، وعلى ذلك فإن الشغف بالحياة والفضول بها وحب الاستطلاع والاكتشاف والتجديد فيها يرتبط بيسر تكوين علاقات اجتماعية إيجابية، وعلى ذلك يوصف ذوي المستويات المرتفعة من الشغف والفضول وحب الاستطلاع بعديد من السمات الإيجابية منها: التحمس وارتفاع مستوى الطاقة والفاعلية في الحياة، إجادة التحدث بطلاقة، الاهتمام بما يؤدونه من أفعال أو مهام، إبداء نطاق واسع مع الاهتمامات في الحياة، الثقة، روح المرح والدعابة، وأقل تعبيرًا عن عدم الأمن النفسي، وأقل خوفًا وتعيبًا وقلقًا مقارنة بذوي المستويات المنخفضة من الشغف.   

ويميل ذوو المستويات المرتفعة من الشغف والفضول وحب الاستطلاع والإقبال على الحياة بروح المغامرة والاستكشاف والسعي للتجديد إلى طرح عديد من الأسئلة الاستفسارية والاهتمام بالتعلم عن الشركاء والزملاء وينون بوعي وتخطيط المحافظة على تفاعلاتهم مع الآخرين ومع وقائع وخبرات الحياة بروح من المرح والرغبة في التعلم، الأمر الذي يعزز من قدراتهم على تكوين علاقات جيدة مع الآخرين بصفة خاصة وفي الحياة إجمالاً.

– السعادة Happiness: 

نشرت منظمة “معهد جالوب” مؤخرًا تقريرًا بنتائج دراسية أجريت على أكثر من (130,000) شخصًا من (130) دولة، بهدف تحديد أقوى عاملين لهما تأثير مدى استمتاع الشخص بحياته في يوم ما وهذين العاملين هما:

– الأول: أن يكون قادرين على الاعتماد على شخص آخر طلبًا للمساعدة أو عند الحاجة.

– الثاني: تعلم شيئًا ما أمس.   

وما تم تأكيده في هذا التقرير أن “تطوير الشخص لعلاقات إيجابية مع الآخرين، وارتقاؤه كشخص مكونين أساسيين من مكونات الحياة السعيدة”، وتعزز هذه النتائج عبر سمة “الشغف بالحياة كما يعبر عنه بالفضول وحب الاستطلاع والإقبال على الحياة والترحيب بها والرغبة في الاستكشاف والترحيب التجديد”. 

وفي الواقع فإن ما يمكن الاستفادة منه من مجال علم النفس في هذا الصدد ما يلي:

(1) ريادة مارتين بيتر إلياس سيلجمان Martin Seligman وكريستوفر بيترسون Chris Peterson في دليلهما لمكامن القوة والفضائل الإنسانية الأساسية basic human strengths وما أشير فيه إلى أن ميل الشخص إلى قراءة الأعمال الفلسفية القديمة، والنصوص الدينية المقدسة، والأدب المعاصر، ثم اكتشاف الحياة بوعي وتدبر وتحديد سياقها العام وأنماط وأساليب الحياة المتنوعة فيها، ثم أخيرًا التعرض للأفكار العلمية أو الاختبارات العلمية المنضبطة أمرًا يعكس الشغف بالحياة والفضول فيها والأقبال عليها ويعد أحد مكامن القوة الأصيلة الحقيقية في الشخصية ويمثل عتادًا نفسيًا للسعادة، وعلى ذلك ضمن مارتين بيتر إلياس سيلجمان وكريستوفر بيترسون دليل مكامن القوة والفضائل (24) بصمة أو مكمن قوة يتمكن للإنسان أن يكتسبها حالة إقرار بيئات تنشئة اجتماعية وتعليمية وخبراتية في الحياة ذات طابع إيجابي، ووجد أن “الفضول وحب الاستطلاع والإقبال على الحياة والترحيب بانفتاح كدالة نهائية للشغف” من أقوى خمسة مكامن أو بصمات قوة ترتبط بالإنجاز والسعادة في الحياة.

(2) وفيما يكشف عن العلاقات المهمة الأخرى بين “الفضول وحب الاستطلاع كتعبير عن الشغف بالحياة” والسعادة أفاد د. دانيل جليبرت Daniel Gilbert, PhD أستاذ علم  النفس بجامعة هارفاد في كتابة “التعثر في السعادة Stumbling on Happiness” أنه “بينما نعلم ما يمكن أن يجعلنا سعداء في المستقبل، يندر أن نعلم بالفعل أن البهجة والاستمتاع والسعادة ليست دالة فقط لمجرد ذلك العلم بل هي دالة في التحليل النهائي لذلك الجهد المخطط الذي يمكننا من التعثر فيها، فهي لا تأتي بذاتها، إنها حالة دالة للإبحار الإيجابي في الحياة بشغف وفضول وحب استطلاع وإقبال على التجديد والترحيب والانفتاح على الخبرات الجديدة، بهذا وبهذا فقط إن صح القول تزداد احتمالات مواجهة أنشطة مدهشة ومشبعة ومرضية لحالة ذلك الشغف”. 

(3) المعنى Meaning: 

إذا ما أردنا أن نجد الحياة المفهمة بالمعنى والجديرة بأنّ تُعاش، وأن نعرف رسالتنا فيها، اعلم أن “الفرص” التي تتاح أمامنا في كل ما يحيط بنا تدعونا إلى التدبر والتفاكر والإبحار في الحياة بذهنية “الشغف”، “الجاذبية والسحر والولع fascination”.  ويعد  الفضول وحب الاستطلاع والانشغال الإيجابي بالحياة والانفتاح على وقائعها وخبراته بشغف نقطة البداية في لمصادر عظيمة لمعنى الحياة والرضا بها: إنها الاهتمامات، والهوايات، وصور الشغف المتنوعة. 

فشغف الإنسان بشيء ما يشعل وهج الفضول ودافعية الاستكشاف إلى أقصى حد ممكن ولكما زاد الفضول وحب الاستطلاع والاندفاع باتجاه الاستكشاف الإيجابي للحياة محددًا أساسيًا من اكتساب مقومات التمكن من تحقيق “الهناء في الحياة” كما يعرب عنه “بالشعور بحسن الحال × الأداء القائم على الإتقان”، وكلما زاد التوجه الإنسان نحو ملاحظة ما حوله والتدبر فيه والتعلم منه وعنه كلما تشبعت حياته بالمعنى وكلما زاد هذا التشعب مع مرور الزمن. 

والحياة إجمالاً: بشر، كتب، رياضة، مهارات، وعلاقات حوارية، وتكوينات طبيعية، أفكار، رؤى، تصورات، وكلما زاد شغف الإنسان بها بحيوية وإقبال وتلقائية كلما استثمر في اكتشافها وفهما، وبطبيعة الحال كلما أصبحًا أكثر وعيًا بمعنى الحياة ودوره فيها. 

خامسا- استمع إلى صوت الفضول والشغف بالحياة داخلك: 

 الطرائق الأكثر فاعلية في تقدير قوة “الشعف والفضول وحب الاستطلاع أن تمارس مقتضياتها على نحو دائم في سياق خبرات حياتك اليومية”، فمن خلال القيام بهذا الأمر تسطيع تحويل مهام الحياة الروتينية إلى مهام مفعمة بالبهجة الأمر الذي يجد طاقته وحيويتك للحياة.

الأمر الآخر أن تتحلي بروح الملاحظة القائمة على التدبر والتأملي في كل مواقف التفاعل التي تحتويك وأن تندمج فيها بتقبل وعي وحضور ذهني مما يمكن أن يزيد من احتمالات التدفق فيها ويعطي لشغفك وحب استطلاعك وفضولك مزيدًا من الفرص للازدهار.  

وفيما يلي أربع استراتيجيات يمكن من خلال تحقيق هذا الهدف:

– تكوين المعرفة وبنائها Build knowledge: 

المعرفة هي أعيننا المفتوحة على الحياة ونجسر بها الفجوات فيما يتعلق بما لا نعرفه عن الحياة. فعندما يذهب عالم الأحياء البحرية للغطس ويكون قادرًا على تسمية أسماك معينة من خلال الحجم واللون والملمس وشكل العيون والزعانف، يصبح على دراية تامة بالسمات غير العادية التي لا تتحقق لنا نحن كأشخاص عاجيين. 

والطفل القادر على تسمية (45) ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية هو بطبيعة الحال أكثر اهتمامًا بتعرف الولايات الخمس المتبقية واستكشافها، كما أن الشخص الذي تعلم العزف على البيانو يكون أكثر انفتاح وقابلية للاستماع إلى الألحان العالمية الكبرى، وعليه إذا أردت أن تشحذ شغفك بالحياة عليك أن تجمع المعرفة وأن تبينها وتندفع باتجاه تحصيلها في ضوء محكات الوفرة والاتساع والاتقان والعمق والمرونة.

الازدهار مع عدم اليقين Thrive on uncertainty:  

نادرًا ما يرحب الإنسان بالقلق والتوتر، ومع ذلك تظهر الدراسات أن “الانفعالات المختلطة mixed emotions” غالبًا ما تفضي إلى أكثر الخبرات الإيجابية شدة واستدامة. كما أن من يندمجون في الأنشطة الجديدة والغامضة هم أكثر سعادة خاصة وأن هذا الاندماج الإيجابي يزيد من يقينهم بمعنى الحياة مقارنة بمن يعولون على المعتاد والمألوف والمتقين والمتأكد منه، ويعبر عن هذه الخاصية بما يعرف اصطلاحًا بالمبادرة باتخاذ روح المخاطرة المحسوبة والانفتاح على المجهول والجديد. 

ويتصور غالبة الناس أن “اليقين” أو “ما هو محل تأكد” هو ما يجعلنا أكثر سعادة من “اللايقين” أو “عدم التأكد”، وما عليك إلا أن تتخيل أنك ذاهب لمباراة كرة قديم تعرف بموجبها فريقك معرفة تامة وتعرف الفريق المنافس معرفة تامة وتعلم ربما يقينًا بمسار المباراة وأحداثها وأن فريقك سيفوز بكل تأكيد، قد يقول غالبية الناس أن هذا الأمر يجعلهم سعداء وواقع الأمر أن الحال على غير ذلك فمعرفة النواتج مسبقًا يطفئ وهج الشغف ويزيد من احتمالات الملل ومع تتالي هذا الأمر قد يصل بالشخص إلى الفتور والتكاسل. 

في المقابل فإن الغموض والتشكك يزيد من حالة الترقب والإقبال والمتعة والتوقع والإثارة كمحددات للاستمتاع واللهفة. 

من جانب آخر فإن تذكير ذاتك باللذات والمسرات المرتبطة بحالة الاندهاش في خلال التفكير الاسترجاعي لآخر خمسة أحداث ماضية في حياتك بدأت فيها بعدم التأكد واكتفهما الغموض فيما يتعلق بالنواتج التي كانت متوقعة فكر في أول أحداث رياضية حضرتها، في أول لقاءاتك مع محبوبك، أول مقابلات شخصية وظيفية في حياتك، …الخ. ستجد أن الدهشة كان قوامها عدم التوقع قوامها الغموض المتعلق بالنواج وستجد أن دور الدهشة أساسي في خبرة البهجة والاستمتاع. 

إعادة ربط الذات باللعب القائم على المرح Reconnect with play: 

يمكن التعامل مع كل مهام الحياة بنفس روح اللعب وبهجته ومرحه والدعابة play and playfulness، فالإبحار في الحياة حال التعامل مع أنشطتها ومهما بروح المرح بهجة اللعب أمرًا أساسيًا لتعزيز الاهتمام وتنمية الشغب والفضول وحب الاستطلاع والشغف العام بالحياة.

اكتشف غير مألوف في المألوف Find the unfamiliar in the familiar: 

تتمثل إحدى الطرق التي تجعلك أكثر فضلاً وشغفًا بالحياة تمتع بما يعرف بروح التحايل عمدًا على التوقعات والعلامات والافتراضات حول الأنشطة والأحداث المألوفة والتي تبدو اعتيادية؛ ذلك لأنه من السهل علينا الحكم مسبقًا على نشاط ما لأننا نعتقد أننا رأيناه من قبل أو نتجنب نشاطًا ما تمامًا لأننا نتوقع أنه ممل أو غير سار، وبموجب هذا التوجه نضيق بصورة تامة من رحابة وفضاء الحياة أمامنا.

ويتمثل الهدف من الكشف عن غير المألوف فيما يبدو مألوفًا ومعتادًا لنا أن نتخلص من الأحكام المسبقة وأن نعيد الانتباه والتركيز مرات عديدة فيما تتبدى عليه الأشياء دون أن نسقط عليها الصورة التي ينبغي أن تكون عليها. 

وفي دراسة حديثة سأل الباحثون الناس لفعل شيئًا ما لا يحبونه وتركيز انتباههم على ثلاث ملامح جديدة فقط أثناء فعلهم لهذا، فوجد أن هذا الأمر غير من الطريقة التي كانوا يرون بها هذا العمل قبل ذلك بل وغير من شعورهم تجاه ما قاموا به من نشاط.  

وعندما تم مقابلة المشاركين في هذه الدراسة بعد أسبوع، طلب منهم البحث عن الجديد وغير المألوف في مهام حياتهم اليومية أثناء تعاملهم مع المهام التي يحبون ويفضلون عملها دون أن يتم دفهم على ذلك، فوجد أن هذا التدريب فتح أمامهم نوافذ فرص عديد وعزز لديهم ما يعرف بالرعبة المنفتحة في الحياة الأمر الذي مكنهم ما رؤية كثيرًا من الجوانب التي كانت غير معروفة بالنسبة لهم. 

ويمكن أن تطبق نفس التجربة على أي نشاط في حياتك، فكر فقط في الاهتمام التي لا تحظى إلا بقدر منخفض من شغفك من واقع أنشطة يومك الحياتي العادي، وابحث فيها عن أكثر ثلاثة أشياء جديدة أو غير متوقعة فيها. 

ومع المهام الجديد عليك قد لا تتمكن من سؤال نفسك إذا ما كان عليك أن تجد شيئًا ما مثيرًا للدهشة كشخص مقدمة للمرة الأولى على هذا النشاط، وعليك أن تضع في اعتبارك أنه حتى في المواقف المتكررة عليك أننا نميل إلى النظر إلى ظاهر الحدث، إلا أن الأمر يتطلب ما هو أكثر من ذلك وهو التعلق بالجديد والتجديد في كل مرة تحدث فيها هذه المواقف بما يستوجبه ذلك من تغيير زاوية النظر والانفتاح على التفاصيل الصغيرة. 

سادسا- جرعة يومية من الاستكشاف A Daily Dose of Discovery

تفيد نتائج عديد من الدراسات أنّ “الخبرة بالجديد experiencing novelty” عاملاً مهمًا في كل من الصحة والسعادة، واعلم أن فرص الجديد والتجديد تتناثر في كل ما يحيط بك، لكن الأمر المحتم هو اكتشافها واستثمارها، ويتعلق الأمر بضرورة تنمية ما يعرف ب “عضلة حب الاستطلاع والفضول والشغف” من خلال التدريب المنتظم والمكثف لها، وفيما يلي بعض الطرائق البسيطة التي تزيدها قوة واتساعًا وعمقًا:

– عندما تستيقظ When waking: 

أنعش عينيك وجدد إطلالاتهما، وقرر اختيار بعض الأشياء المثيرة والجديدة في بيتك، وشريك، أو عائلتك التي كنت تتعامي عنها أو تتجاهلها من قبل.

– عندما تتحدث When talking: 

اجتهد في أن تبقى منفحتًا ومرحبًا بكل ما يقال بشفافية ووضوح بدون افتراضات مسبقة وبدون تنميط، وبدون إسقاط أحكام، وبابتعاد عن رد الفعل الفوري المباشر غير القائم على التدبر، واحرص على الاستفسار وطرح الأسئلة السابرة بود وشعف وفضول وأحسن الإنصات يحسن إليك في التجاوب.

– عندما تقود When driving: 

بدلاً من أن تؤسس سلوك في القيادة في منطقة المفروض وصوابية توجهك أنت فقط، عليك أن تضع في اعتبارك توقع أفعال الآخرين حولك وما يمكن أن يكون محتملاً الخطوة التالية، هنا عليك أن تظل في حالة من اليقظة والوعي بما يمكن أن يأتي أو يلوح في الأفق.

عندما تعمل When working:  

انظر إلى الفرص المتاحة لتحديها واغتنامها واستثمارها وتطبيقها على نفسك بطرائق تزيد من اهتمامك ومتعتك وصولاً إلى إحداث نواتج رائعة. واسأل نفسك: ما المثير هنا؟ كيف يمكن أن أجعل هذا الموقف أكثر مرحة وأكثر متعة؟

عندما تمارس أو تتدرب When exercising:  

بدلاً من أن تقودك انفعالاتك، ضع احرص على شحذ انتباهك وتركيز على استثمارك حواسك في كل حركة وفي كل ما تلقيه عليك نوافذ الحس المختلفة من مناظر وأصوات وروائح في مداها العام والمتسع. 

سابعا- أيقظ شيرلوك الكامن في بنيك النفسية الداخلية Awaken Your Inner Sherlock: 

يمكن أن يتلاشى فضولنا وشغفنا الفطري بالحياة بسهولة بسبب الملل والتعلق البغيض بروتين الحياة اليومية الاعتيادية المألوفة على الدوام بالروتين اليومي، ويبدأ هذا الفضول والشعف في الحياة عند توجهنا لإيقاظنا دافعية اهتمامنا بالحياة وتغيير طريقتنا للانتباه والتركيز فيما حولنا حتى في المواقف التي مررنا بها ألف مرة من قبل، وفيما يلي بعض النصائح لتنمية انتباهنا وتركيزنا وزيادة فضولنا وشغفنا بالحياة:

– مارس لعبة العشرين سؤال Play 20 questions: 

إلى أي مدى تتواجد في مواقف وتمر بخبرات ولا تطرح فيها أو عنها أي سؤال فيما يتعلق بموقفك منها؟ إذا كان الأمر كذلك ما عيلك إلى أن تجعل من اكتشاف شيئًا جديدًا فيما يتعلق بكل ما يمر بك وفي كل من تتعامل معهم. وحاول في كل موقف تجمعك فيه الظروف مع الآخرين أن تحدد عددًا من الأسئلة الحيوية والمحببة التي يمكن بموجبها استثارة نقاش ودي ومفتوح مع الآخرين عن حياتهم واهتماماتهم ووظائفهم وأسرهم بدون تطفل أو اقتحام لما ليس الحق في الولوج فيه.

– مارس ما يعرف بعقل المبتدئ Practice beginner’s mind: 

اقضى يومك بالنظر النشط في حياتك بعيون مفتوحة ومنتبه لنفسك كأنك لا تعرف ولم تقابل نفسك من قبل وبنفس الذهنية التي تنظر وتتطلع بها لشخص آخر لا تعرفه من قبل، ومارس على هذا الأمر على نطاق واسع أيضًا خارج حدود ذاتك كأنك ذاهب إلى رحلة سياحية إلى مكان ما في دولة مجهولة هنا عليك أن تجمع خرائط وأن تضع قائمة بما يمكن أن يجذبك كزائر جيد، ويمكنك أن تأخذ رحلة افتراضية تقربك من واقع المكان الذي أنت على وشك زيارته في الواقع، ثم اذهب إلى الرحلة مباشرة وزر الشوارع بكاميرا في يديك والتقط الصورة الجميلة واستمتع برحلتك. ا

اكتشف شغفك أو ما أنت شغوف به Explore your passions:  

كن فضولاً ومحبًا للإبحار في استطلاع ذاتك أولاً: ما قيمك ودوافعك؟ ما الذي يجعلك لك لزومًا في الحياة؟ هل الأنشطة التي تتعامل معها على نحو يومي يجعلك تشعر بالرغبة فيها والاندماج فيها؟ ما الأنشطة التي ترغب في التفاعل معها والاندماج فيها ولم تقم بها من قبل؟ ما تلك الأنشطة بوضوح؟ وتوجه نحو القيام بها، واجتهد لاكتشاف كل ما هو محل تقدير وقيمة وشغف في حياتك وأبحر في الحياة بمقولة “ثابر واجتهد في اتباع رؤيتك بجرأة واقتدار”.

– كون أصدقاء جدد Make new friends: 

يمكن أن يساعدك تكوين أصدقاء جُدد في اكتشاف عديد من الجوانب التي لا تعرفها من قبل عن ذاتك وعن من نحب، وعبر تود كاشدان Todd Kashdan في كتابه “الفضول؟ اكتشف المكون المفقود في الحياة المنجزة Curious? Discover the Missing Ingredient to a Fulfilling Life ” سنة 2009 عبر طرحه لخبرة حياتيه بينه وبين زوجه في تفاعلها من صديقات جدد لها، فقد أخبرتهن قصصًا عنه لم يسمعها عن ذاته من قبل، وعليه أضحى قادرًا على رؤية جزءً من ذاتها لم يكن يراه من قبل.

– جرب شيئًا مشكوكا فيه Try something iffy:  

هل تكره البروكولي “القرنبيط” broccoli منذ أن كان عمرك 11 سنة؟ نرجوك أن تعيد الكرة ثانية وتجرب تناوله صحيح ستسترجع في هذه المرة ذكرياتك وربما تؤسس عليها توقعاتك، ومع ذلك نقول لك فقط جرب وعليك أن تنحي توقعاتك هذه جانبًا، واجعل هدفك ببساطة مجرد ارتياد التجربة وحاول أن تتبين ثلاثة أشياء جديدة ومثيرة في هذه التجربة.

– كوِّن أو بلور أفكارًا جديدة Catalyze new thoughts

نشط دماغك على الدوام باستدامة البحث عن الأفكار والرؤى الجديدة، استمع وشاهد محاضرات على الانترنت ومنصات الشبكات العلمية الإلكترونية، اجمع الصحف واقرأ في موضوع لم تكن تهتم فيه من قبل، واختر كتابًا وحاول التفاعل معه، واستمع إلى محطات الإذاعة، واقرأ السير الذاتية، واكتشف كل ما هو جديد ومفيد فقط على شبكات ومنصات التواصل الاجتماعي.   

– كن منصتًا جيداً Become a better listener:  

أشارت سونيا ليوبومرسكي Sonja Lyubomirsky أستاذة علم النفس بجامعة كاليفورنيا في كتابها “كيفية السعادة The How of Happiness” إلى أنه في المرة القادمة التي ستتحاور فيها مع شخص ما عليك إلا أن تجعل هدفك هو التعلم الكثير عن هذا الشخص رؤاه تصوراته فكره، وبدلاً من تكوين انطباعات مسبقة عنه أو مقاطعته دون فهم عليك أن تعطيه فرصته ووقته الكامل في إبداء ذاته والإعراب عنها بوضوح، مع تحفيزه وتشجيعه على استدامة الإعراب والإفصاح عن الذات بأريحية عبر توجيه أسئلة قصيرة سابرة ودافعة له بالاستمرار مثل ثم ماذا بعد؟ وماذا تعتقد؟ واعتبر أن كل حوار أو محادثة مع الآخرين هي فرصة ذهبية للتعلم وتقييم رؤاك أنت وتصوراتك لا تقييم الآخرين وإسقاط أحكام عليهم. 

سابعا- تعريف موجر بتود كاشدان Todd Kashdan: 

اختصاصي علم الكلينيكي وأستاذ علم النفس بجامعة جورج ماسون، ومن رواد دراسة متغير “الشغف والفضول وحب الاستطلاع” ومن أهم كتبه في هذا المجال “فضولي؟ اكتشف المكون المفقود في الحياة المنجزة؟ Curious? Discover the Missing Ingredient to a Fulfilling Life”  والذي نشر سنة 2009 عن دار نشر هابركولينز. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى