التمكين الحقيقي: دنيا و دين

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

ذكرنا أن الدنيا ريما تصرف لأهلها ولغير أهلها، أما الدين فلا يصرف إلا لأهله؛ ولذا كان لزاما أن يٌجعل التمكين الحقيقي لأهل التوحيد كما نزل وكما أمر به (قولا وفعلا).. ولكن التمكين وفقا لمعطيات المنهج السماوي لا يطابق شكلا ولا جوهرا التمكين الذي يتأتى وفقا لإعمال العقل البشري، وإن كان العقل البشري في الأولى هو المتلقي عن الوحي المحقق لما أراد كما وعى وفهم عن الشرع، وإن طرأ ثمة خلل أو حيدة عن قدسية المنهج فهذا لقصور العقل، أو ما طرأ من طارئ الهوى في التغيير أو التحريف أو التبديل .. بمعنى أن القدسية وإن تناولت المنهج فإنها لا تتناول التطبيق، وإن وسم بها الوحي فلا يحق أن ينسب ذلك إلى العقل، وإن عصمت بشرف التنزيل وعصمة المتلقي (الرسول) ، فإن هذا لا يسري تباعا بكامله على من تناول التطبيق من بعده، حيث البشرية تخطئ وتصيب، وتعلم وتجهل، وتتنازع العقول في المتشابه، ويختلط عليها حينا في الفهم والعقل.

أما في الثانية (التمكين وفق اجتهادات العقل) فإن هذا أيضا لا يخلو أن يكون بإذن من الله وأمر، وإن تحقق وفق أسباب الحياة ومعطيات العلم، فإنه إن لم يأذن به الله لن يكون، وهو ما يسمى (الإرادة الكونية) “قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)”[آل عمران].

إن الإنسان مع العقل الأول قد ولد غشيما ليس عنده شيء من أوليات العلم الذي ينفع به نفسه ، أو يهيء الكون له من حوله؛ وقد كان لزاما لبقاء استمراه وحفاظ حياته أن يكون لديه من الإحاطة بأسباب الحياة  ما يحقق له ذلك، ولما لم يكن عنده شيء من هذا العلم الأولي الضروري، فلابد أن يطرح السؤال الطبيعي: من الذي مكن له في هذا الكون حتى يحيا ثم يؤصل أسباب استقراره واستمراه، ثم يعمد إلى هذا الكون فيطوي فيه هذا المسافة الزمنية والمكانية ، ويطوع لنفسه أسباب الحياة والبقاء؟

لا بد أن قوة عليا ألهمته هذا الإلهام وعلمته هذا التعليم، ومنت عليه بحفظ النوع والنفس والمكتسبات حتى صار إلى ما صار إليه الآن يغالب مفردات الكون فيغلبها وتغلبه تارة وتارة “وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)”[النحل].. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)”[المؤمنون].. قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)”[الملك].

هذا الانفعال والتوافق الأولي بين الكون وبين الإنسان الطارئ عليه الذي يوحي بأن ثمة عقل فوقي، أو قوة عليا قد جعلت أو صنعت هذا التناغم على وفق ما يلائم الطبيعة البشرية والكونية معا، مما يهيء للأولى أسباب الاستخلاف الأوّلى التي  يتأتى منها تباعا أسباب التمكين والمترتبة عليها؛ هذا ما ذكره (د. عمرو الشريف): عما سماه الفلاسفة ب (برهان التناغم)، كما قال (فريمان ديسون).. “كلما ازدادت معارفنا التي تظهر التطابق بين دقائق بنية الكون وبين احتياجاتنا، ازداد شعوري بأن هذا الكون قد أعد لا ستقبالنا.. ويعرف المفهوم الذي يرى أن الكون قد ثم بناءه على هيئة تجعله ملائما تماما لنشأة البشر ب “المبدأ البشري The anthropic principle .. ” (1).

ويسمى ذلك البرهان كذلك بالبرهان الغائي للكون عند (توما الإكويني)، و(برهان العناية ) كما عند ابن رشد، كما جاء عند د. سامي عامري ، حيث ذكر ابن رشد أن البرهان يقوم على أصلين: الأول موافقة جميع أجزاء العالم لوجود الإنسان، وأن ما كان مسددا نحو غاية واحدة فهو مصنوع لحكمة ضرورة”. (2).

هذا القوة العلوية التي استطاعت أن تنزل هذا الإنسان إلى الأرض مستقبلا بكون معد أيما إعداد، ثم على حالة من التناغم والتوافق والقدرة على التعايش، وأرض مذللة ، وسماء مظللة ، وهواء وسقاء ونماء وحفاء.. ترى هل صدفة ما لها وجود إلا في خلفيات أذهاننا العقيمة فضلا أن يكون لها القدرة على أن تصنع كل هذا الصنيع البديع .. فأنى يؤفكون؟!!

وإذا كان العقل الإنساني قد انصاع طوعا أو كرها مرخيا زمامه لهذه الكونية الطبيعية الدقيقة وقد حفظت عليه حياته ومعطياته ومكتسباته، وأذعن كذا طائعا أو كارها لمكون هذه الكونية في متعلقات حياته الطبيعية، فما الذي يمنعه وقد حققت له ما حققت، وحفظت له ما لم يكن له القدرة على حفظه إلا بالالتجاء إليها، فلم لا يسلم لهذه القوة العلوية حياته الروحية وهي (الحياة الحقيقية ) كي تحفظها عليه وله كما حفظت غيرها؟ .. ألئن جعلت له في الثانية خيارا وإرادة وفهما، فقد راح يستعلي وينابذ ويراجع ويرد الأمور إلى غير حقها، ويدعي أن يقوم بنفسه على هذه الحياة، وهي في أهميتها له أعظم قدرا من حياته الطبيعية ؟!!

وإذا كان عقل البشر قد تعارف على أن كل صاحب صنعة أدرى بصنعته، وهو أولى من يقوم بحفظها وبقائها، وإذا كان الله صانع الكون والإنسان معا، لم يطرأ علينا حتى الآن منذ عمر الكون والبشرية أن يدعي أحد لهما الخلق أو الشرك في الخلق، فلم يجعل ما سوى الله هو صاحب منهج الحكم عليها .. أليس من الأولى أن يكون المنهج الإلهي هو الذي يقوم على إدارة هذه العلاقة المتشابكة كي يحقق لها نمطية مثلى من الاستمرار والتمكين.

لكن هذه القوة العلوية لم تكن لتجعل للإنسان الجاحد يدا حاكمة أو مطلقة في هذا الكون تفسد فيه كيف تشاء، وهي غيرة كل صاحب صنعة على صنعته ، وكذا هو حتمية الحفظ التي تعهدت بها أن تحفظ هذا الإنسان ولو كانت من خطرات نفسه وشياطينه المهلكة؛ فقدمت من لدنها منهجا سماويا حاكما راشدا هاديا نافعا يحكم هذه العلاقة بينها وبينه، وبين الإنسان ونفسه وجنسه، ثم بين الإنسان والكون.. ثم إنها أوكلت إلى هذه الفئة المؤمنة المستقبلة لهذا المنهج طوعا أن يكون لها سدانته وحمايته وتحقيقه على نفسها وإبلاغه لغيرها من الجاحدين.

وبموجب هذه المنهجية فقد جعل الله القوامة على الأرض والكون والحكم فيه بهذا التمكين الذي استوجبته بما بذلت من حسن الاستقبال وحسن المحافظة والتطبيق، وقد أيد هذه الفئة المؤمنة بنصره وعلمه، ثم حفظها ما بقيت حافظة لهذا المنهج قائمة على أهل الأرض أو الكون بحقه، فإن هي أخلت بما عهد إليها من المحافظة والدعوة لهذا المنهج، اختل من بين أيديها قوام هذا الأمر الذي سمت به وسادت .. ثم ما تلبث أن يوكل أمرها إلى غيرها يستبيح بيضتها حتى ترجع إلى رشدها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى