د. يوسف زيدان: الانقطاع في المعنى، والانقلاب الدلالى خطير على الوعي العام باللغة

فى كلامنا اليومى، صارت كلمة الغرام مرادفة للحب، ليس فى كلامنا العامى فحسب، و إنما أيضا فى الكلام الفصيح أو المتفاصح، فقد صرنا نقول (خطابات غرامية) قاصدين بذلك رسائل المحبين، والمسأئل العشقية نسميها: غراميات، والفيلم الشهير عنوانه: غرام وانتقام، والأغنية الشهيرة تقول: الناس المغرمين، ما يعملوش كده !

وعلى هذا النحو راحت الكلمة تجرى على ألسنتنا، حتى راجت في لغتنا خلال الخمسين سنة الأخيرة بهذا المعنى المحدد، مع أن الغرام أصلا هو العذاب الشديد ! و القرآن الكريم يقول عن جهنم ( إن عذابها كان غراما ).

و الأصل في الكلمة، هو: الغرم. وحسبما يقول علماء اللغة من أمثال ابن منظور والفيروز أبادى ومرتضى الزبيدى، كل فى معجمه: الغرام هو (الدين) والغارم هو الذي عليه دين أو دية، والغريم الذى له الدين و الذى عليه الدين، فكلاهما غريم للآخر! والغرام هو اللازم من العذاب والشر الدائم.

وقد أطلقت الكلمة أول مرة بشكل مجازى، للتعبير عن العشق والهوى والولع، ثم انقلب المجاز أصلا للمعنى، فلم نعن ندرك المعنى الأصلي من الكلمة.

فهذه الكلمة وغيرها من الكلمات، صرنا فجأة نستخدمها فى غير المقصود منها؛ و هذا خلل أراه خطيرا، لأن اللغة التى نتداولها ما لم يكن لها ضابط، فلا ضابط للمعانى ولا الأفكار. وصارت اللغة وسيلة تشتيت، بدلا من أن تكون وسيلة تواصل.

على كل حال ، فأننا نصف فى كلامنا اليومى الشخص الماهر بأنه (شاطر) فدعونا نتوقف عند هذه الكلمة قليلا . . الشاطر في اللغة العربية هو الشخص الذي يأخذ نحوا بعيدا عن الإستقامة و الاستواء، ولذلك قيل له (شاطر) لأنه تباعد عن الاستواء.

وهذا ما يقوله ابن متظور فى لسان العرب، أما الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط، فيقول ما نصه : الشاطر هو من أعيا أهله خبثا .

وبعيدا عن الدلالة المعجمية لكلمة الشاطر، فسوف تجد اللفظة، وقد ظلت تستعمل حتى عصر قريب  بمعنى قاطع الطريق و محترف السرقة و النهب، وهناك مبحث كامل عنوانه: العيارون والشطار في العصر المملوكي والعثماني. حيث كان يوصف بذلك، الخارجون عن القانون.

و فجأة، صار الشاطر يعنى الماهر ! وانقلبت دلالته إلى الضد، مثلما انقلبت دلالات كثيرة اليوم ، فصار (أولاد الناس) يقصد بهم علية القوم، مع أن المقصود بذلك أصلا، جماعة المماليك و المرتزقة الذين لا يعرف لهم أب.

وصارت القهوة تعنى مشروب البن، مع أن معناها الأصلي فى اللغة العربية هو الخمر. و قد سميت الخمر قهوة؛ لأنها تقهى شاربها عن الطعام أى تذهب بشهوته، باعتبارها أن (قها) تعنى انسدت نفسه عن الأكل.

وهناك ما لا حصر له من الأمثلة الدالة على الانقطاع في المعنى، وعلى الإنقلاب الدلالى .وهو الأمر الذي أراه خطيرا على الوعي العام باللغة، وعلى التواصل مع الموروث. . ومع ذلك فلا أحد يهتم به .

وكما أشرنا مرارا، فقد عرف العلامة ابن جنى اللغة فى كتابه (الخصائص) بأنها : أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم.. . فإذا زادت هذه الفوضى الدلالية، انتفت (الأغراض) التى تقوم اللغة بتوصيلها، وصرنا بلا أغراض، و بلا تواصل، و بلا لغة .

وأخذنا من بعد ذلك نتباكى على ضياع لغتنا الجميلة، ونذرف الدمع الغزير على اندثار اللغة التى نحن بها مغرمون ! مع أن: الناس المغرمين ما يعملوش كده.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى