حكايا من القرايا.. ” الفرّان “

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

كان في معظم القرى فرن يخبز الناس فيه، فرن يعمل على الحطب والنتش، وكانت نساء البلدة تأخذ كل منهن (لكن، لجن) عجينها الخامر، وترويج الطحين إلى الفرّان ليخبز لها، وتكون المرأة موضع توبيخ الفران، وتهديده بعدم خبز عجينها إن كان عويصاً، لأن ذلك يعيق العمل… عملية الخبيز جعلت الفرن مكاناً ملائماً لاجتماع نساء القرية، ففيه يتحدثن، وفيه تداول الأخبار، ومناقشة الأحداث في البلدة… وربما تمت فيه صفقات خطبة، أو تباشير عرس.
الفران مشغول بِوَزّ الحطب، في بيت النار، وفي رقّ قطع العجين، وتلويحها بين يديه حتى إذا أصبحت رقيقة مستديرة وضعها على خشبة طويلة، ورمى بها في بيت النار، لتنضج… ولا يفوته في كل قطعة أن ينعف قليلاً من الطحين عليها، والطحين الزائد يأخذه الطحان من خلال خزق في دكّة الرقّ، تحته كيس… ولا يبقي في نهاية الخبيز للزبونة أي طحين في ترويجها.
وبينما كان الفرّان نائماً ذات ليلة في الفرن، إذ استيقظ على صوت غريب مفزع، استمع بخوف وترقب، زاد الصوت في الفرن، وكأنه صوت تصفيق في احتفال، فزع الفران، ووقف فجأة وهو يصيح، ومن هول صدمة الوقفة المفاجئة، وقع إبريق شاي بارد عن البريموس، وتكسرت عدة كاسات شاي، وانتعفت علبة (التتن الهيشي) الدخان على الأرض… وزاد الصوت في فضاء الفرن… أصبح جلبةً… صوت احتفالات الجن أو العفاريت، يسمعها الفران بكل وضوح، وصوته هو يطلب النجدة من النائمين.
التمّ الناس في الفرن، جاؤوا لمد يد العون والمساعدة لصائح الليل، جاؤوا على عجل نصف نيام، وطلب الفران منهم الإنصات… انتظروا قليلاً فكان صوت التصفيق، والمكان حالك الظلام، إلا ما أضاءته قدّاحة الكاز، التي يشعل بها الفران سجائره… انصدم المجتمعون بسماع الصوت، وتحيّروا، ومال قسم كبير منهم إلى نظرية احتفال الجن أو العفاريت في الفرن… وعاد قسم منهم إلى البيوت لإحضار (الكهارب) اللمبات الجافة لكي ينثروا الضياء في فضاء الفرن، ويستكشفوا ما يجري في المكان… كانوا خائفين، والفران يرتعد… وفجأة كان ما لم يكن في الحسبان… عنزة سمراء طويلة الأذنين… هزت رأسها بسرعة وقوة، فتلاقت أذناها أثناء هز الرأس، فأصدرتا صوت تصفيق… ضحك الحضور على مصدر الصوت، وضحكوا من رعب الفران… وانطلقت النكات والخراريف المشابهة للحدث، وضحكت العنزة السمراء معهم، فحركت رأسها بقوة وسرعة… وصفقت لهم.
في الصباح، قرر الفران مغادرة الفرن، وإنهاء عمله فيه، ولم تُجْدِ كل المحاولات لثنيه عن قراره، غادر الفرن لأن الحزين سيصبح خريفية في البلدة، ومجالاً للتندر… وقد أصبح… وكانت العنزة السمراء سر الحكاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى