إنها لثورة حاسمة.. لحظة استسلام الطبيعة

 

أميرة عبد العزيز | فنانة تشكيلية مصرية

إن الطبيعة التي خلقها الله هي روح العالم كل ما فيها ينبض بالأسرار الإلهية، وأعظم أسرارها هو الإنسان الذي خُلِقَ كل شئ من أجله، وإذا ما أبحر في داخل أعماق نفسه سيجد فيها الكون كله.

لقد ظل الفنان المصري القديم مرتبطاً بالطبيعة يُصور ما يراه في اللحظة الواحدة وفي لمحة واحدة ومن منظور واحد ورؤية خاصة به بإخلاص فني وحرفي للطبيعة، بعناية في التفاصيل ومرونة في الإسلوب وبساطة في التعبير بشكل يبدو لكَ ولأول وهلة بالتلقائية، وبالرغم من ذلك كانَ مُعْجِز في الأداء دقيق في الرسم والتصوير والتقاطعات الجريئة بحيوية ورقة في اللفتات تجعَلُكَ تقف أمام شكل حي متحرك، بل قد تستطيع أن تستمع إلى حديث نابِع منه كأنهٌ يحكي لك قصة تدور أحداثها بالفعل في الواقع.

استمر الفنان على هذا الإسلوب لفترة دامت عدة آلاف من السنين لم يطرُأْ خلالها تغير حتى حدثَ الإنتقال من العصر الحجري القديم إلى العصر الحجري الحديث، وكان ذلك أول تغيير يحدث بالفعل في تاريخ الفن كله ليس في مخالفة الطبيعة والإرتباط بها والبعد عنها إنما في الإسلوب نفسه وطريقة التعبير بإبراز جوانب التصميم والتأكيد على بلوغ فكرة الأشياء ومفهومها وجوهرها الباطن عن طريق ابتكار وخلق تصميمات ليست موجودة بصورة مباشرة في الواقع.

ومنذ ذلك الحين سلمت النزعة المطابقة للواقع والطبيعة Naturalism الراية واستسلمت إلى دائرة التصميم الهندسي المحدود النطاق آنذاك بعد أن كانت مفتوحة بكل اتساعها على الطبيعة والتعبير عنها بكل دقة وصبر وإخلاص وتفاني في كل موضوعاتها التي كانت صدى وترديد لكل ما يعبر عن الطبيعة.

اتجه الفنان إلى خلق رموز وعلامات اصطلاحية تُعبِر وتدل على الموضوع وجوهره بخطوط أو دوائر شأنها شأن العلامات الهيروغليفية بدلاً من أن يُحاكي الطبيعة الفعلية بكل ما تنبض به من حياه ودقة في التفاصيل والحركات والإنحناءات بحيوية ورشاقة في الحركة

من هنا أصبحت النماذج الهندسية البسيطة تعبر عن الموضوع، مثال على ذلك.. (خط مستقيم يعبر عن الجسم البشري، ونصفي دائرة واحدة مفتوحة لأعلى للتعبير عن الذراعين، والأخرى مفتوحة لأسفل للتعبير عن الساقين)، لقد أضحى الشكل البشري يتكون من نموذجين أو ثلاثة نماذج هندسية بسيطة عبارة عن خطوط وأنصاف دوائر.

بعض الباحثين توصلوا إلى وجود صور شخصية مختصرة تُعبر عن الموتى تُظهِر وتوضح هذا التصميم الهندسي مؤكدة على بداية الإتجاه التجريدي لشكل الإنسان، وهي عبارة عن نٌصُبْ حجرية بدائية تُسَمى منهير Menhirs وفيما بعد أصبحت إشارة للمسلات، أيضاً يُطلَق عليها إسم دولمن Dolmen وتعني منضدة الحجر، كذلك إسم كروملخ  Cromlechs  أي الساحات المبنية من الحجر الخام، وهي أحجار طويلة مستقيمة يرجع معظمها إلى العصر الحجري وتُعد أبسط وأول شكل للآثار الحجرية في العصور البدائية بلغ بعضها ارتفاعاً يزيد على 20 متراً، وهذه الآثار سُجِلت إلى عصرنا هذا بحوالي قُرابَةَ خمسة آلاف دولمن     Dolmen موزعين على الثلاث قارات القديمة أوروبا وأسيا وأفريقيا.

وبحق نستطيع القول إن بدايات التجريد الفني جاء مع ظهور هذه الأشكال الفنية الكاملة البسيطة التكوين والمعبرة عن جوهر ومضمون الموضوع فكان ذلك ميلاد تحولاً عميقاً عام وشامل في الثقافة والحضارة، ربما يُمثِل أعمق وأكبر تغير فني حدثض في تاريخ البشر، فلم يَعُد مرتبطاً وحسب بالطبيعة بل عمَلَ على التفاعل معها وبدأَ يفهمها فتعلم الزراعة واستقرَ بعد ما كان يسكن الكهوف، ومن ثَمَّ بدأ تنظيم العمل وامتهن عدة مهن كتربية الماشية وزراعة نباتات مختلفة وتخزين ما يلزم لحاجاته في المستقبل، من هنا أصبح يُنتِج غذاؤه اليومي ويجمعه، وكانت لحظة بداية الخُطوة الثورية الحاسِمة في أن الإنسان لم يَعُد يعيش على ما تجودُ به الطبيعة له وبدأ ينفَصِل شيئاً فشيئاً عنها كالطفل الذي ذهب إلى المدرسة ليتعلم ويخوض تجارب الحياه بعيداً عن حضن الأم، ولكنه من وقت لأخر يرجع إليها يستمد من جمالها وبهائها ما يُعينهُ على مصاعِب الحياه فكل ما يفعلهٌ من الطبيعة ولِأَجلِها.

ومن هنا بدأَ الفنان القديم يَنفُذٌ إلى صميم الطبيعة ويستكشف ما فيها من عقل كامن بداخلها عن طريق التأمل، إنه متعة العقل ليَنفُذُ بأبصاره إلى أعماق الكون بحثاً فيه أضواء من الشعور مشعة تُنيرُ الطبيعة معه فيُعطي المعنى الكامل لرسالة الفن التي يبتغيها الفنان.

وهذا ما يؤكده المعجم الفلسفي لالاندA. Lalande. [Vocabularies Technique et Critique de la Philosophies] الذي يُنسِب إلى كلمة الفن معنيين، معنى عام ” وهو مجموعة العمليات التي تُستَخدم عادَةً للوصول إلى نتيجة معينة مما يتطلب إعمال العقل”، فقد كانت الفنون الحرة أو الإنسانيات The Humanities تشمل فروع المعرفة السبعة وهي “النحو، المنطق، البلاغة، الحساب، الهندسة، الموسيقى وعلم الفلك”، وهذه المعارف بالتأكيد تتولد عنها نتائج معينة ومعنى جمالي يجعل كل غاية الفن هي إنتاج الجمال والإحساس به والشعور بلذته الجمالية، وهذا ما أظهره الطبيب والكاتب والفيلسوف جليانوس Galien 

وأكده أيضا الفيلسوف والمفكر وعالم المنطق بتروس راموس Ramus

حين قالا عن  الفن: “إنه مجموعة من المبادئ الحقيقية النافعة المتوافقة التي تؤدي في جملتها إلى تحقيق غاية واحدة بعينها “، وهذا المعنى يوضح أن الفن هو معرفة خالصة مستقلة عن سائر التطبيقات العملية أي أنه ما يقوم به في مقابل العلم من جهة، وما يقوم به في مقابل الطبيعة من جهة أخرى، بمعنى آخر أنه لديه القدرة على الوصول إلى نتائج بدون أدنى وعي أو تفكير لأن النتيجة ستكون حتمية الحدوث.

وأما المعنى الثاني يتمثل في أن الفن عملية إبداعية هدفها وغاياتها الوصول إلى الإحساس بلذة الشعور بالجمال.

إنها متعة فائقة وإحساس ينفذ بلا استئذان إلى طيات القلب ويخترق الروح، إحساس عجيب حيث.. ” لذة الخيال والشعور الداخلي بالجمال” ، وهذا لا يتحقق إلا في وجود مخلوق واعي مٌدرِك مُتصف بالشعور. وللحديث بقية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى