قراءة فنية لقصيدة (السيرة الأولى) للشاعر غسان الحجاج

 

شاكر حميد الخياط

عندما يتغنى الملحن بما يريد لغيره أن ينشده تراه يمسك بتلابيب اللحن شادا أواصره بحيث لايترك لأي من المتابعين مايمكنه التاشير والوقوف عليه، وهذا ديدن من أجاد العزف والتغريد في آن واحد، ولهذا نرى كثيرا من الأغاني والأناشيد المؤداة بأرقى الأصوات الطربية تصل بنا إلى حد يسلب الألباب وتهيم معه القلوب والأرواح، لكن، ومهما بلغ المنشد او المطرب أو المؤدي من دقة في أداء المرسوم مسبقا من قبل الملحن الموسيقي العازف والعارف بنوطة الألحان وسلمها الموسيقي، ملتزما بما اكد عليه كاتب اللحن، ستجد في النهاية أن اللحن المؤدى بصوت الملحن هو على درجة من القرب من القلب أكثر من المؤدي، وهو أكثر عذوبة بلا شك، وهذا ما رأيته في هذا النص الرائع، فأنا اقرا القصيدة ليس مثلما يقرأها ويتغنى بها الآن آخي الشاعر كاتب النوطة وعازف اللحن…

 لا أدري لماذا انتابني شعور موحد ومشابه لما قرأت الآن في سفر الحجاج هذه التراتيل الرائعة والتي أجاد في مفاصل وتنقلات سردها، فهنا وعند البحر المستخدم بدءاَ والذي له عند العرب فوائد  بين البحور الأخرى، ومثل هكذا موضوع يستخدم فيه الشاعر هذا البحر مطوعا الحرف لما يريد للوصول إلى غاية القصد بهذه الانسيابية العفوية التي تحسها  غير متكلفة، تبرهن لك بالدليل الماثل أمامنا من العنوان إلى الختام أنك أمام شاعر تمرس الجيد وخبر الصحيح فكان أن أبدع في مواقع وقصيد سابق، ويسعدني ما أقرأ الآن، له ولآخرين طيبي الذكر ممن اعتبر الشعر حالة تلازمه ولا يستطيع التخلي عنها وهذا يقينا يحسب لصالح الشاعر الحجاج ومن شابهه فيما ذهب إليه.

أقول هنا إنني قرأت القصيدة بأسلوبي الخاص في القراءة وتمعنت مليا في النص فوجدت أن القافية كانت من الرصانة أنك تتنقل بين الاسم والفعل وبحالة الاسم والفعل المتعددة،  أي غير الثابتة والمتنوعة، وهذا جميل.

وفي زاوية أخرى كان الحجاج المهندس أساسا قد تأثر بأدواته ومستلزماته الهندسية مما أثر نجاحا وإيجابا على الهندسة المعمارية التي بنيت فيها هيكلية القصيدة وجاء النجاح واضحا في إمكانية الشاعر الذي أبارك له من القلب هذا الحرص على أن لا يكتب إلا الجميل، في هذا الخصوص بالذات أعني تلك القافية التي كانت تجره وتسحبه إلى منطقتها وبكل عنوة، لكنه كان مفاوضا ذكيا لم يسمح لها بأن تسحبه إلى منطقة القتل التي ربما تودي به إلى الضعف لو استسلم لها – لا سمح الله – وهذا مارأيته واضحا وجليا بتخلي الأخ الحجاج عن ياء النسب إلا ما اضطر إليها وكانت في مكانها بشكل سليم، وهي من المطبّات التي يتجنبها العارف وهذا ما فعله أخي الحجاج بنجاح ويحسب له.

ولو تمعنا في الانتقالة العروضية من تفعيلة البيت الثاني في صدره لرأينا أن الحرفة والصنعة كانت أمام ناظري الشاعر فمبارك له هذه الانتقالة في الأعاريض والتي انسجمت مع التفعيلة التي اختارها للقصيدة في الضروب، وكنت أقرأ وأدقق فيما جاء به من دقة واعية، مع إنني كنت أتمنى لو سمح له الوزن في مصرع القصيدة واستخدم حرف الجر (إلى) في (العقل) بدلا من لـ (لعقل) لكانت كما أظن أبلغ بل وأجمل بكثير وياليته حاول مداراة هذا الجناس لكي يتطابق الضرب مع العروض فيشكل ثنائيا بليغا رائعا، رغم إنه أنجز المطلوب ولا خلل ولا هنة ولاغبار على هذا الاستخدام.

لكن ما للشاعر الكريم أخي غسان الحجاج المحترم في نفسي من شعور نبيل يجعلني أتمنى له الأفضل والأجود، وهو إن شاء الله يعرف بهذا، أسجل للشاعر نجاحه بالتخلي عن الواو والفاء المتكررة والمزعجة، وعلى ما اعتقد فهو قد قصد هذا ونجح فيه.

موضوع القصيدة تم استلهامه وأدى ماعليه في عشرة أبيات، وهذا كذلك يحسب للشاعر الذي يستطيع أن يقول مايريد في أقل ما يمكن وبالشكل الوافي الذي لا ريب فيه…

لقد كان كيان الطفل والحنين إلى الطفولة واضحا في ارتدائه الشاعر منذ البدء حتى الاسترسال في المتن ولم يكن يعلم السيد الحجاج أنه قد كان يحوم بين الطفل والطفل دون عمد، وبهذا فهي قصيدة محاكاة إلى واقع الطفولة كمن يدعو لها بالعود أو ربما الحسرة على فوات أو إنها، وكان هذا التكرار الجميل مدعاة نجاح مباركة أن يتحلى الشاعر بكيان داخلي مع الالتزام بعوالم ومواصفات الهيبة في الكيان الحقيق الظاهر دون خداع…

أُهنيء اخي الشاعر على هذه القصيدة، ولازلت عند موقفي بل ربما عند إصراري أن المتابع لن يرى ماهو أدنى في شعر الحجاج بين قصيدة وأخرى، وهذا التصاعد هو شارة النجاح…

محبتي..

***

القصيدة: (السيرة الأولى)

أراني بلا جدوى احنُّ الى الطفلِ

فما حيلة المجنون ان حنَّ للعقْلِ

يقولون انّ العشق سحرٌ مؤبدٌّ

على الادميِّ المستهام رؤىً يُمْلي

جرتْ واحةٌ خضراءُ لم ادرِ انها

سرابٌ من الاحلام يمعنُ في قتلي

يفسّرها العراف اصداءَ آدمٍ

غداةَ هبوطٍ كان في كوكبٍ يغلي

سأذهبُ نحو الموت فالموت ربما

ارقُّ علينا من عذابٍ على مهْلِ

هي السيرة الاولى تحومُ طيورها

وتتْبعني منذ الولادة كالظلِّ

اضعتُ رقيمَ الاختباءِ فلاحَ لي

بصيصٌ من اللابعْد كالطفْلِ للاهْلِ

وقفتُ فصار الصمْتُ اسرابَ دهشةٍ

لقد كاد مضمونٌ يفرُّ من الشكٌلِ

احاولُ انْ استنطقَ الحال علّني

اوافقُ معنايَ الذي كان من اجلي

أقاصي أقاصي البعد جداً قريبةٌ

وخيطٌ رفيعٌ يحجبُ الصبحَ عن ليلِ

***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى