أقدار

بقلم : محمد فيض خالد

لايزال يقطر منها ماء الجمال، حتى وإن تقدّمت بها السِّن، عبثت أصابع الدّهر بوجهها الأبيض النّحيف، فمنذ أن مات عنها زوجها، وانقطع ما بينها وبين ملذّات الحياة من وشائج وصلات، إلا قفص الخضار تحمله فوقَ رأسها، تجوب بهِ شوارع القرية وأزقتها، تُعلِّن في ضعفٍ وانكسار عن سلعتها .

مات زوجها شابا، ولا يعَرِفُ أحد سبب الطّلق النّاري الذي باغته واستقرّ في صدرهِ؛ فأرداه قتيلا، ولا من اطلقه فلم يكن للرجلِ أية عداوات، لكنّ المرأة وحدها من يعلم أصل الحكاية، كلّما خلت إلى نفسها تذكرت ليلتها المخيفة؛ تتأجج مع ذكراها النار في أحشائها، تجول في البيتِ فزعة تصرخ في كمدٍ، تتوسل إلى الله أن يفرغ عليها صبرا، وأن يطرد عن نفسها أشباح الشّكوك، لم تدع الرِّيبة نفقا إلى قلبها، تمرّ بخاطرها هاتهِ السّاعة المشؤومة، تزمّ شفتيها وتعمد إلى رأسها تدكّه في الجدارِ دكّا ، والدّمع يسحّ من عينيها، يرن صوت جارهم “ربيع” يستحث زوجها، يستعجله بين طياتِ الظلام؛ فقد باغت أبناء المنصر الجرن ولابدّ من فزعة.

في يومٍ عبوس قمطرير ظلت تنتظر مجيئه بلا جدوى، استولى الهلع على صدرها المُثقل بآلامِ الخوف، وحُرقة الغياب، عندما دوى صوت عيار ملأ الفضاء ضجيجه، وغلا معه نباح الكلاب بين البيوت ِ على غير عادتها ، اطلّت برأسها الوجل من فوقِ السّطحِ ، لكنّها لم تر شيئا بين تلافيف الظلامِ الأسود الخانق ، عادت أدراجها تلوك الصّبر ، تنتظر الغائب لكنّه لم يرجع ، عاد مصروعا فوقَ أكتافِ الرِّجال، يغبّ في دمهِ الساخن، كانت الشّمس تسطع وكأنّها في أولِ يوم من أيامِ الخليقة ، عندما ودّعته لآخر مرةٍ ، دفنته ودفنت معه شبابها النّابض، عاهدته قبل أن تهيلَ عليهِ التراب، أن تأخذ بثأرهِ، لكن ماذا عساها أن تفعل؟ وهي الغريبة ..

مرّت الأيام كئيبة، سلوتها الوحيدة أن تضع القرش فوق القرشِ، تستشعر يوم الخلاص، ومع قسوة الانتظار انبرى جسدها ، وذبلت نضارتها ، لم يتبق في وجهها من معالم إلا عينان واسعتان، كأنّ الحياة قد نزعت منه ، وكلّما تذكرت في خلوتها ذاكَ اليوم ، ارتخى ثغرها وانفرج عن ابتسامةٍ ساخرة ، تشمّ ثياب الراحلَ في نشوة واصطبارٍ ، كأنّها تجترّ  اثر أيامها الغابرة ، تلقيها فجأة ، وتهبّ في ثورةٍ ناحية الجدارِ ، تنزع عنه لبنة ، تمدّ يدها في وعاء الفخار الذي استقرت فيه ثروتها المدّخرة.

تاهت عيناها في عماء اللانهاية ، مسكين زوجها لم يترك من يخلفه، من يحاسب قاتليه ما أثقل تركتها، تعبث يدها في النقودِ، وآهات اللّوعة تتبدى منها حارقة ، تعود إلى النحيب الذي يفتت الأكباد ، تعكف عليهِ لا تُفارقه، حتى يسلب النوم  وعيها.

وفي الصّباح تنشط من جديد، أكثر عزما  كأنّ شيئا من أتراحِ الأمس  لم يكن ،تؤمل نفسها باقتراب يومِ الحساب ، وكلّما انتعش حالها وزادت غلتها ، كلّما اقبلت أشدّ إصرارا من ذي قبل ،  لا يضعضع تصميمها عنت الزّمان، ولا يزيدها إلا رسوخا.

أمضت  عمرها مخلصة وفية تلهث خلف أمانيها  وما كانت لتدري بأن آجالنا تتأرجح قلقة على أمواجِ الزمن، تأخرت يوما عن موعدها، حتى انفلت شعاع الشمس يملأ الدرّب في أصيلِ يومٍ قائظ ، كان الصّمت جليلا، عندما امتدت يد جارتها تطرق بابها، عادت المرأة مفزوعة يأكل الخوف قلبها ، فمعروف عن المرأة النشاط والهمة ، ولا عهد لها بالخمولِ والكسل، اجتمع الجيران يتشاورون أمرهم، كان صبيا يافعا قد تسلّق الحائطَ خِلسةً ، ليفاجئ بها وقد تمدّدت في صالةِ البيت جثة لا حراك لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى