نيتشه والمتنبي وإرادة القوة والإنسان المتفوق

د. ريم سليمان الخش | سورية – فرنسا

نيتشه شاعر وفيلسوف ألماني متوفى عام 1900 تبنى مفهوم إرادة القوة والإنسان المتفوق وكان لأفكاره تأثيرا قويا على أجيال أوروبا في القرن العشرين إلى يومنا هذا.. حيث اعتبر كتابه (هكذا تكلم زرادشت) الصادر عام 1884 إنجيلا خامسا ويقال أن النازيين تأثروا كثيرا بأفكاره.
أريد أن أوضح التشابه الشديد بين شخصية المتنبي ونيتشه مستشهدة ببعض ماقالا وأستنتج
من ذلك أن (حبنا المستمر للمتنبي إنما يكمن بالأفكار التي ترجمها والتي هي من ضمير كل شعب حي، وتظل راسخة في اللاوعي الجمعي على مرّ العصور).
في البدء اعتمدت فلسفة نيتشه على إرادة القوة وهي تتلخص في تصارع القوى والغلبة للأقوى:
وبهذا ينقسم المجتمع البشري الى فئتين فئة دونية: (عبيد- جُهّال- منهزمون) وفئة: (أسياد – مفكرون – متفوقون).
والفئة المسحوقة تحاول عبر الزمن أن تتحرر من هيمنة الفئة المسيطرة وذلك بازدياد الوعي (أي تبقى جدلية الصراع قائمة).
وإن إرادة القوة (إرادة الحياة)؛ بمعنى كل من لايبذل الجهد للتخلص من قيود والجهل ويتمرد على القوة المسيطرة بالمعرفة لايستحق الحياة!.(ليتنا نعي خطورة الموقف!)
قال نيتشه أنه يتحتم علينا خلق معنى للحياة بتفرد كمفكرين وازدرى هؤلاء الذين يعيشون بهدوء دون أية رغبة في التطور . ويقول : (حينما تكون هناك حياة تكون هناك إرادة القوة)، والمتنبي يقول بنفس الصدد: 
(وإن عمرت جعلت الحرب والدة

والسمهري أخا والمشرفي أبا)
فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي

والبر أوسع والدنيا لمن غلبا)

رأى نيتشه أن الغرور من سمة الروح المتفوقة التي تصارع لبلوغ العظمة فقال (ما من لغة وإلا أراها بطيئة تقصر عن صهوة بياني.. سأقفز إلى صهوتك أيتها العاصفة فألهمك مجاراة حكمتي) لقد كان نيتشه لغويا قلّ نظيره !. وقال أيضا (عندما أحفزّ لاعتلاء أشد خيولي جموحا لن يكون لي معينا صادقا سوى رمحي أتكأ عليه أهدد به أعدائي).
وقال المتنبي:
(أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي…أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـله وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي…كَشَعرَةٍ في مَفرِقي)

وقال :
(أمط عنك تشبيهي بما وكأنه

فما أحد فوقي ولا أحد مثلي)
وقال أيضا :
(عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ

بين طعن القنا وخفق البنودِ
واطلب العز فى لظى ودع

الذل ولو فى جنان الخلودِ

لا بقومى شرفت بل شرفوا بى

وبنفسى فخرت لا بجدودى
إن أكُن مُعجباً فعجب عجيبٍ

لم يجد فوق نفسه من مزيدِ
أنا ابن الفيافى ورب القوافى

وسمام العدا وغيظ الحسودِ)

وقال نيتشه ساخرا من النفوس الدنيا (الحثالات): (أيّ زرادشت هنا جحيم كل فكرة فريدة فلا يسمح إلا للمشاعر الهزيلة أن تجلجل …أفكارهم كمصارف أقذار هنا مقام جميع الرزائل والشهوات)
وقال (أغلب الناس ممثلون رديئون). 
وقال المتنبي:
(فلم أر ودهم إلا خداعا

ولم أر دينهم إلا نفاقا)

وقال نيتشه محدثا عن الإنسان المتفوق (الذي هو هاجس المفكرين في هذا العصر: يريدون تطوير الإنسان بمساعدة أجزاء كمبيوترية يزرعونها به ليحصلوا على ((سوبر مان)) لايفنى!): ليس الإنسان إلا كائنا حق عليه أن يتفوق على نفسه …سآتيكم بنبأ الإنسان المتفوق إنه للأرض كالمعنى للمبنى …).

أيضا قال: (الإنسان الأعلى سيكون واعيا بمعاناة الوجود مستعدا للتضحية بسلامته من أجل مساعدة الغير).
وقال نيتشه: ( أحب الذي يملك عقلا حرا وقلبا شجاعا وهكذا يكون قلبه أحشاء قلبه)، والمتنبي كان يشعر بتفوقه وكان يحب سيف الدولة للسبب ذاته ! فقال مادحا له :
فَكانَ أَحسَنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ.

وَكانَ أَحسَنَ مافي الأَحسَنِ الشِيَمُ
قَد نابَ عَنكَ شَديدُ الخَوف

وَاِصطَنَعَت لَكَ المَهابَةُ مالا تَصنَعُ البُهَمُ
أَكُلَّما رُمتَ جَيشاً فَاِنثَنى هَرَباً

تَصَرَّفَت بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ
أَما تَرى ظَفَراً حُلواً سِوى ظَفَرٍ

تَصافَحَت فيهِ بيضُ الهِندِ وَاللِمَمُ)
وقال أيضا :

الجيش جيشك غير أنك جيشه

في قلبه ويمينه وشماله
كل يريد رجاله لحياته

يا من يريد حياته لرجاله ( بيت رائع!)
وقال نيتشه: ( ويلٌ لكل المحبين الذين ليس لهم من سمو يعلو منزلة الشفقة) وكأنه تخاطرٌ ذهني مع المتنبي الذي حين هُزم سيف الدولة في معركة ما ..أنشد يقول:
من كان فوق محل الشمس موضعه فليس يرفعه شيئٌ ولا يضع المتنبي في الحقيقة كان يمجد (،إرادة القوة) متمثلة بشخصية سيف الدولة هذا العروبي الأبي والمقاتل الشجاع كان حب العظمة وإرادة الحياة (إرادة القوة) هما شغله الشاغل وبعض ماقال بهذا المعنى : 

وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى.

ولا الأمن إلا ما رآه الفتى أمنا
إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا

من التيه في أغمادها تتبسمُ ( بيت رائع!) في فيلق من حديد لو قذفت به صرفَ الزمان لما دارت دوائره! ((ياللهول!))

وعن ترك الأحبة قال نيتشه ( إذا امتنع على المرء أن يبذل حبه فعليه أن يذهب !) وقال المتنبي (إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا.. ألا تفارقهم فالراحلون هم !)(أقوى من مقولة نيتشه).

أما عن ضريبة التفكير ومعاناة المعرفة فقال نيتشه (العقل هو الحياة وفي المعاناة تكون المعرفة) : (إني لا أحب أؤلئك السذج الراضين دوما إنهم أشبه بالحمير)، وقال المتنبي (ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ,وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ).

وعن الثبات وعدم التردد قال نيتشه: (أحب ذلك الذي تطفح روحه امتلاءا بحيث ينسى نفسه بينما الأشياء كلها بداخله !) وقال: (إنّ الأنواع المتأرجحة بين بين لتفسد كلّ ماهو كامل !)
وبهذا قال المتنبي :
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة

فإن فساد الرأي أن تترددا
وقال نيتشه في الذم: ( إنّ أعمال الفضل الكبيرة لا تولد عندهم اعترافا بالجميل بل تعطشا للإنتقام!)
وقال المتنبي: ( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا) وهنا كان المتنبي أدق منه إذ ميز بين الكرام واللئام في ردود الأفعال.. هذا غيض من فيض مما قرأت في ديوان المتنبي و كتاب نيتشه هكذا تكلم زرادشت، لكن أزعم لو كنت أؤمن بتناسخ الأرواح لقلت أن روح المتنبي العظيم متوفى في 354 حلت ب نيتشه الفيلسوف والشاعر الألماني متوفى 1900 وكلاهما سيبقيان منارة للأجيال بما حملا من روح عالية وقيم راقية.

°°°
المراجع:

ديوان المتنبي
هكذا تكلم زرادشت : فريدريك نيتشه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى