إسرائيل وسياسة فرض الأمر الواقع

محمد زهدي شاهين | فلسطين

خاصية التدرج أو التدريج من أهم الخصائص التي تؤدي إلى تقبل الأشخاص لأمر ما، يرادُ الوصول إليه دون إحداث ضجة أو ردود أفعال قوية فيما لو حدث الأمر فجأة دون أيّ مقدمات. ونحن نعلم أن هذه السياسة يتبعها وينتهجها الجانب الإسرائيلي بتعامله معنا كشعب فلسطيني خاصة، والعربي بشكل عام منذ فترات طويلة. فيقومون بممارسة سياسات التدريب والتهيئة النفسية علينا لنتقبل قضايا معينة وأفكارا جديدة تدريجيا. والأمر أكبر وأخطر من هذا بكثير، إذ أن الاحتلال الإسرائيلي يشن حربا نفسية وهجوما إعلاميا بكل ما أوتي من قوة، للسيطرة على وعينا من خلال تشويه الوعي لدينا، ويكون ذلك من خلال غزو فكري لعقولنا لتطويعنا وتوجيهنا الى حيث يريد فيما يخدم مصلحته أوّلا وأخيرا.
ويلاحظ أن الإعلام الاسرائيلي لعب على هذا الوتر منذ زمن بعيد، فمنذ بدء العمل بإطلاق موجة إذاعية تبث باللغة العربية –والتي تعمل الآن تحت مسمى دائرة العلاقات السياسية العامة، والتي يعمل بها اختصاصيون في علم النفس ومختصون بشؤون المجتمع العربي- في أواخر خمسينيات القرن المنصرم، وقد عمل الإعلام الإسرائيلي على أن يجعل آذان الجماهير العربية تستسيغُ السماع لأثيرها، وكسر الحاجز النفسي من خلال التركيز على بث برامج دينية إسلامية، وأغاني لمشاهير المطربين العرب، وما يزال الأمر على حاله إلى يومنا هذا، فنرى الكثير ممن يستمعون لفيروز صباحا، ولكوكب الشرق مساءا على الأثير الإسرائيلي..
ومع التقدم التكنولوجي الحاصل الآن، وانتشار وسائل الاتصال وتوفرها لدى الجميع فقد أصبح الأمر في غاية الخطورة، إذ يقوم جيش الاحتلال الإلكتروني بالعمل تحت أسماء مستعارة، والسعي المتواصل من أجل قلب المفاهيم الثقافية لدينا، والتي تعتبر جزءا أصيلا من ثقافتنا العربية والإسلامية. من خلال بث الإشاعات، واللعب على المتناقضات، وبث مقولات وعبارات تؤدي الى تفكيك النسيج المجتمعي والأسري. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (الأقارب عقارب) وبكل تأكيد فهذه المقولة تضرب بعرض الحائط مئات النصوص الدينية الواردة في القرآن والسنة النبوية، وتؤكد على وجوب الترابط الأسري من خلال صلة الرحم وحسن الجوار. وهناك أيضا مئات المصطلحات والمقولات التي ترمي الى تفكيك المجتمع، ونزع الثقة من بين الأفراد والجماعات، وبين الجماهير والفصائل والسلطة الفلسطينية، مما جعل اليادة على الساحة السياسية الفلسطينية لثقافة الفرقة والانقسام. هذا عدا عن السياسة التي تمارس على أرض الواقع، كإقامة جدار الفصل العنصري، ووضع العوائق أمام حرية التنقل وحرية العبادة في المسجد الأقصى وكنيسة القيامة في القدس، وتضييق الخناق المعيشي على المواطن الفلسطيني أينما كان مكان تواجده، هذا كله يدخل ضمن الحرب النفسية على الفلسطينيين.
إن هذه السياسة المتبعة من قبل الجانب الإسرائيلي ما هي إلا امتداد طبيعي لسياسة الإستعمار وتطبيق حرفي لمقولة فرق تسد. ونحن هنا لا نريد بأن نجعل من الاحتلال شماعة؛ لنعلق عليها أخطاءنا وعثراتنا، فللأسف فنحن أيضا نعتبر تربة خصبة لأطماعه ومآربه، إذ نجد الكثيرين ممن يتساوقون مع هذا النهج. والاحتلال بكل تأكيد ليس بريئا فهو يعمل ليل نهار على تذويب كثير من المفاهيم لدينا. وإن صح القول يصبح من السهل جدا تصديق أكذوبة ما تم سماعها مئات المرات، ومن الصعب جدا تصديق حقيقةٍ لم يتم سماعها أبدا.
محاولات تقزيم القضية الفلسطينية تدريجيا:
فلسطين قلب الأمة الإسلامية وبوصلة العاشقين، ومن أولى خطوات تقزيم القضية الفلسطينية هو عدم وصفها بأنها قضية الأمة الإسلامية، فأطلق عليها الصراع العربي الاسرائيلي. أي أن الصراع قومي يخص الأمة العربية، ورويدا رويدا وبافتتاح سفارات وقنصليات للكيان الإسرائيلي في عواصم العديد من الدول العربية، ومن خلال التطبيع السري والعلني الذي بتنا نرى ملامحه اليوم كالشمس الساطعة، وفي ظل ما يسمى بالربيع العربي والاقتتال الداخلي في كثير من البلدان العربية، اضمحلت هذه الصورة في أذهان البعض، إذ أصبح يعتقد بأن اهتمام الشعوب العربية أصبح منصبا على مشاكلها الداخلية وتم صرفه عن قضية الأمة المركزية.
لقد عمل الاحتلال جاهدا من خلال تدخله في الشؤون العربية ومن خلال دعم الجماعات الإرهابية، كي لا تعود قضيتنا الفلسطينية ذات أولوية عربية ايضاً. وللوهلة الأولى قد يبدوا ذلك صحيحا، وبالذات مع ظهور أصوات نشاز بتنا نسمعها بين الفينة والأخرى ممن يسمون أنفسهم بالمفكرين والإعلاميين العرب، القائلين بأن القضية الفلسطينية هي شأنٌ فلسطيني ذاتي. هذا المشروع الصهيوني الذي يهدف إلى تقزيم قضيتنا وفرض واقع جديد تم إسقاطه بحناجر الشعب اليمني الأبي، الذي ما زال ورغم الويلات والآلام التي يعانيها يهتف باسم القدس وفلسطين..
لهذا يجب علينا كفلسطينيين ألا نفقد الأمل نهائيا بالشعوب العربية والإسلامية وبعدالة قضيتنا، وأن نقف صفا واحدا أمام سياسة فرض الأمر الواقع التي تمارسها علينا الصهيونية العالمية. ومن الضروريات التي لا بد منها هي تحقيق الوحدة الوطنية أوّلا، وتعزيز ثقافة الولاء والإنتماء للوطن، ونبذ الفصائلية والإنتماء للأشخاص، كضرورة شرعية ووطنية ثانيا.
20-11-2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى