المرأة التي لم تلد سوى العمارة..زها حديد.. حين ينطق الفولاذ

عباس الحسيني | العراق

اعطت نخب روما القديمة، اليد الطولى لتحويل منجزات القسوة المفرطة للامبراطورية الرومانية الى مشاريع نحت، وعمارة ومأثورات ، تسبح بالمياه الطائرة. لقد ولدت تماثيل وأبنية روما القديمة الشعور بالعظمة والكبرياء والمطلق الكوني.

استلهمت زها حديد، المولودة في بغداد عام ١٩٥٠ منطق التحاور الحضاري بالابنية، لتمضي في التحول في جعل معمارية الكون جزءا ًمن معمارية الشعور الإنساني، حيث الفكر الفني يتوج فن العمارة ويجعل الفضاء الصامت، لوحة هندسية تخترق الفضاء بغرائبيتها، وبما يعمق الأفكار الرصينة لحالات العمران.

لم تكن البيئة البريطانية، التي ترعرت فيها زهاحديد، حيث الصرامة الانكليزية في الاحتفاظ باللأشياء والمكونات الماحولية، كما هي ، وكجزء من التراث الانكلو-ساكسوني ومع التمسك بنمط موحد للتشكيلات الخارجية، كدليل على القناعة الراسخة لدى الفكر البيوريتاني، الذي ترك ملامحه في الأدب والوعي الانكليزي.

انجزت زها حديد عملين مهمين عامي ١٩٧٦ و١٩٧٨ في لندن ولم ينفذا، مع مشروع لتوسعة البرلمان الهولندي، لم ينفذ أيضاً ، ومع ١٠ مشاريع أخرى في هامبورغ وبرلين لم تنفذ كلها، حتى نفذ مشروعها المتفرد أسكان ABE في برلين.

مهدت زها حديد لخطواتها خارج المحتوى البيئي البريطاني، فجعلت نشاطها الهندسي عابرا للقارة العجوز أوروبا، الصعبة التغير والتحول والتقبل فيما يخص المشخصات الكبرى، فانجزت سلسلة تشكيلات هندسية وضعت عليها لمستها المتفردة، في جعل العمارة متماوجة، كحركة المجرات التي شاهدتها ذات مرة في أفلام القضاء الاميركية، مع الإشارة التشكيلية الى التفاصيل التي تمثل الهيولي ( مركزا) للتحاور مع بنية التشكيل، وهو ما اعطى للتكوين المعماري، كمنجز في ولادات التاريخ المعاصر . وضعت زها حديد التكوين الفني أساسا لمشاريعها ، حيث العمارة تمثل جانباً من سكن الإنسان ، لكن الأهم والأعم في الرؤية هو التجريد الذي يلحق بالتصميم ، وهو عمل شاق كما أفصحت عنه ذات مرة ، حيث صرامة المنفذين وعقلية المهندسين التي لا تتقبل الزيادة أو النقصان ، ولا الغرابة الفنية في تقصي أبعاد الفن المعاصر .

وإذا كان لمشروع مركز رزنتال الفن الحديث أن ينفذ في سينسيناتي في أميركا، فان مشروع كارديف ، في بريطانيا لم يُنفذ ، وهما بذات التفكير الفني للتكوين الهندسي الخليط .

ومن حدوث الثورة في تنفيذ مشروع ستراسبورغ ، وولادة الخيمة الطائرة المستوحاة من الشرق قطعا بأفقها العابر واللا مستقر إلا في فضائه الأعم. ومن ثم يحدث الإبداع الحقيقي في تنفيذ قاعة منطقة أو قاعة العقل ، وهي واحدة من أربعين قاعة العرض الفردية بقبة الألفية، التي بُنيت في لندن بمناسبة دخول الألفية الثالثة عام 2000 ، حيث قامت حديد بتصميم كل العناصر الخاصة بهذه المنطقة، والتي تشرح بدورها عمل العقل البشري. ويُوحي التصميم بطريقة عمل العقل، حيث تتداخل القطاعات الإنشائية الثلاثية المستخدمة في تنفيذ المنطقة مع بعضها ثم تنفتح لكي تخلق سطحاً مستمراً، يسمح برحلة إنسانية عبر الفراغ، ويعرض محتوى المعرض وإنشاء العرض كفكرة واحدة. وتُوضح عناصر الثلاثة الوظائف العقلية، حيث المدخلات وعملية التفكير والناتج، من خلال رؤية منظورية وبصرية ومعروضات توضيحية ونحت، وأجهزة حاسب آلي ووسائل سمعية بصرية وعناصر تفاعلية. فيتكامل المعرض مع محتواه باستخدام مواد مصنعة، حيث صُنعت الجدران والأرضية والسقف من الزجاج مع إنشاء مشهد مصنوع من الألمنيوم يشبه قرص العسل.

ولا سبيل الى تتبع محطات انجازات حديد برمتها ، إنها وبمنطق الجوائز التي نالتها تمثل الريادة العالمية في تقصي معالم التجريد والكونية كجزء لا يتجزأ من مشروعها العمراني الكوني، الذي يحاور العمارة ولا بعد تجميلياً في ثناياها .

زها حديد ابنة العراق هي بنت الكون بأسره بنظرتها الحالمة وروحها المتعبة من النفي وتعقب الجذور ، وقد أنجزت ما أنجزت ، لتصبح المرأة الأهم في تاريخ العمارة العالمية ، والمرأة التي تشحد لها قناني العطور وأبنية الأزياء ومحادثات الزهور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى