إشكالية الإعلام السياسي: تَثْلِيبُ الآخَرِ بالأَذَاة أمْ تَثْرِيبُ الذات؟

د. آصال أبسال | تونس – الدانمارك

كوبنهاغن، 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2020

مرة أخرى، ومن وجهة نظر أخرى كذلك، وبالإشارة الأولى إلى مدلول عَيْنِ «الاستقلال السياسي» الذي تدَّعيه مشهورات الصحف العربية الرسمية كمثل صحيفة «القدس العربي» مقترنا، من حيث المبدأ، بالمدلولَيْن اللذين عُيِّنا تعيينا بـ«النفاق والرياء السياسيَّيْن» بمعنييهما اللغويَّين المبيَّنين في مقالٍ سابقٍ، «إشكالية الإعلام السياسي: النفاق والرياء من الألف إلى الياء!»، من ناحية أولى، وبالإشارة الثانية إلى مدلول عَيْنِ ذلك «الاستقلال السياسي» عَيْنِهِ مقترنا أيضا، من حيث الجوهر، بالمدلول الذي حُدِّدَ تحديدا كذاك بـ«الازدواج السياسي» بمعناه النفسي (المَرَضي) المبيَّن في مقالٍ سابقٍ آخرَ، «إشكالية الإعلام السياسي: معنى الاِزْدِوَاج في مبنى الاِعْوِجَاج!»، من ناحية ثانية.. يتبدَّى، علاوة على ذلك كله، مدلولُ ذاتِ «الازدواج السياسي» هذا الأخير باحتمال معناه النفسي (المَرَضي) الآخر، من حيث تركيزُه اللافت للانتباه وللنظر على «تَثْلِيب الآخر بالأَذَاة دونما تَثْرِيب الذات» – ذلك المعنى النفسي (المَرَضي) الذي يلخِّصه البيت الشعري الشهير منسوبا إلى الشافعي في عدد من الروايات، «لسانُكَ لا تذكرْ بهِ عورةَ امرئٍ / فكلُّكَ عوراتٌ وللناسِ ألسنُ»، أو حتى ذلك المغزى الذي يوجزه بطرافةٍ ودُعابةٍ أكثرَ، في هذا الخصوص، المثلُ الشعبي الفراتي الشهير، «عَيَّرْنِي عْيَارُهْ وْرَكَّبْنِي حْمَارُهْ»، كما تعلَّمتُ، من بين ما تعلَّمتُ من أمثالٍ شعبيةٍ غيره، من صديقاتي وأصدقائي الفراتيين الطيِّبين إلى أبعد الحدود، والمتميِّزين بلهجتهم الفراتية التي تشُدُّ الأسماعَ شَدًّا بسحرها الهِزَبْرِيِّ الفُصْحَوِيِّ المتفرِّدِ، من هذا البلد العريق سوريا الحبيبة.

لستُ هنا، في هذا المقال، بصدد الكلام «النقدي» الذاتي، أو الشخصي، عن «كاتب صحافي» معيَّن يكتب بشكل دوري في الصحيفة العربية الرسمية المذكورة بـ«استقلالها السياسي»، إذ لا يحقُّ لي ولا لأي امرئ آخر بأي حقٍّ كان أن يبدي، من هذا المنظور تحديدا، هكذا كلاما من دافع الذات، أو من دافع الشخص، ما لم تتوفَّر لديه، أو لديها، مجموعة الأسباب المنطقية بعيدةً كلَّ البعد عن تداعيات «الذوتنة»، أو حتى «الشخصنة».. ولكني هنا، في هذا المقال، بصدد الكلام «النقدي» الموضوعي، أو اللاشخصي، عن مقال معيَّن لهذا «الكاتب الصحافي» المعيَّن، خاصةً وأنه يظهر بصفته مقالا يكتظُّ، على غرار أكثر من مقال آخر سابق، بالكثير من العبارات القطعية والتصريحات اليقينية التي تردِّد أصداءَها، بين حينٍ وآخرَ، الكثيراتُ من افتتاحيات الصحيفة العربية المذكورة بـ«استقلالها السياسي» – مما يدلُّ على أن أسرة تحرير هذه الصحيفة العربية الرسمية (صحيفة «القدس العربي» بالذات) تتفق كلَّ الاتفاق، وبدون أي تحفُّظ، مع هذا «الكاتب الصحافي» المعني على هذه العبارات والتصريحات المعنية، على أقل تقدير.. الكلام «النقدي» الموضوعي، أو اللاشخصي، الذي أعنيه، في هذا السياق إذن، إنما هو موجَّه إلى أسرة تحرير هذه الصحيفة العربية الرسمية بالدرجة الأولى، والمقال المعيَّن الذي أقصده، كذلك، يشير إلى مقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت، شفيق ناظم الغبرا: «العرب: بين التغيير والأفق الجديد»، /من إصدار «القدس العربي»، يوم 11 كانون الأول (ديسمبر) عام 2019/..

لا شيءَ جديدا تحت الشمس، فيما له مِساسٌ بمدلولات العبارات والتصريحات المعنية، سوى أن هذا المقال المعيَّن يعيد صياغتها، فيما يظهر، على نحو أكثرَ نظاميةً مما كانت عليه في بضعةٍ من المقالات السابقة.. وبناء على هذا النحو الأكثرِ نظاميةً، يبدأ المقالُ بالحديثِ التذكيريِّ عن تلك السلسلة الكبيرة من التحوُّلات الطبيعية وغير الطبيعية، أو الفجائية، التي حدثت في أرجاء العالم العربي (وفي جواره الإسلامي أيضا) منذ بدايات اندلاع ثوراته الشعبية «الربيعية» في مطلع العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين، والتي تعدَّدت وتشابكت وتعقَّدت إلى درجة يصعُب فيها على المتابع، أو المتابعة، وضعُها في إطار تسلسلي مترابط واضحِ المعالمِ.. غير أن ما يبدو، على العكس، «واضحَ المعالمِ»، في خضمِّ هذا التحوُّل الهائل والشائك جدا، هو أن مؤسساتِ النظام الاستبدادي والطغياني، في هذا العالم العربي الكئيب، باتت دون أيٍّ من المستوى والطموح المنشودين، مهما بدرت عنها من مبادرات سياسية، أو حتى غير سياسية – الأمر الذي يفسِّر، بادئ ذي بدء، السببَ الظاهريَّ، أو الأسبابَ الظاهرية، في استمرارية الحراك الشعبي إلى حدِّ الانتفاض والثورة الشعبيَّيْن من بلد عربي إلى آخر، مثلما يحصل الآن في لبنان والعراق (حتى مع الاجتياحِ «الكورُونيِّ»، وإن بزخمٍ أقلَّ)، بعدما حصل من قبلُ، وما زال يحصل، في غيرهما من البلدان العربية، هنا أو هناك.. هذه، إذن، هي حتمية سببية من حتميات استمرارية الحراك الشعبي، بهذا المعنى وهذا المبنى: وقد نوَّه، بالتحديد والتشديد، أستاذي غياث المرزوق إلى هذه الحتميات السببية بأكثرَ من صيغةٍ في أكثرَ من مقالٍ، منذ بدايات العام الماضي (وما قبله حتى) في واقع الحال، وعلى الأخص في مقاله السياسي النفسي الألمعي والمتفرِّد شكلا ومضمونا، «ذلِكَ الغَبَاءُ القَهْرِيُّ التَّكْرَارِيُّ: طُغَاةُ التَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاةُ التَّهَدُّمِ؟»، هذا المقال المطوَّل الذي صدر بأجزائه الاثني عشر في العديد من الصحف والدوريات والمواقع الإنبائية العربية تباعا وتباعا منذ ذلك الحين.

ومن نافل القول، ها هنا، أن المقالَ المعنيَّ، مقالَ الأستاذ شفيق ناظم الغبرا المُشارَ إليه أعلاه، نوَّه أيضا، بالتحديد والتشديد، إلى أن أساليب القمع والقهر التعسُّفيَّيْن، في ظلِّ السقوط المتوالي لجُلِّ «الشرعيات» الأتوقراطية والفاشية القومية والدينية الرسمية وغير الرسمية (إن لم نقل كلَّها)، لم تعد تقبل الاستمرار، في ظاهر الأمر، دون أن تتصدَّى لها الشعوب الثائرة بالمقاومة والعزيمة السلميَّتَيْن، في أدنى تخمين.. وهكذا، فإن هذه الشعوب الثائرة (وحتى الشعوب التي لم تثرْ بعدُ) صارت تسعى سعيا حثيثا إلى تحقيق مطالبَ أساسيةٍ في «حرية» شبيهة، ولو بالحدود الدنيا، بتلك الحريات التي تتواجد وجودا طبيعيا في الكثير من المجتمعات البشرية الأخرى (كحريات التعبير والانتقاد والتظاهر، إلخ)، وإلى تحقيق مطالبَ أكثرَ أساسيةً في «عدالة اجتماعية» كذلك، نظرا لانعدام هذه العدالة في كل من التوزيع والتعامل بين طبقات الأغنياء والأقوياء وما يشابهها، من طرف أوَّل، وبين طبقات الفقراء والضعفاء وما يماثلها، من طرف ثان.. هذا، والحقُّ يُقال، قولٌ من أقوال الحقِّ، ولا شكَّ في ذلك أبدا، قولٌ ليس هناك عقل سليم صحيح يؤمن بهكذا «حرية» وهكذا «عدالة اجتماعية» لا يعمد إلى النضال من أجل الاحتذاء به كلَّ الاحتذاء، ومن أجل جعله من ثم فعلا وممارسة ضروريَّتين في المسار الاعتيادي للحياة.. بيد أن القول «الخطير» الذي لم يَرُقْ، بأيةِ هيئةٍ، لـ«مزاجات» أسرة التحرير المعنية في صحيفة «القدس العربي»، على سبيل المثال لا الحصر، إنما هو القول الذي حاول أن يذكِّرها بفقدان العدالة، فوق ذلك كله، في سياسات النشر التي تتَّبعها كل الصحف العربية الرسمية (وهذه الصحيفة بـ«استقلالها السياسي» ليست استثناءً البتة)، فقدانِها بين كتابات الأسماء المروَّج لها إعلاميا وكتابات الأسماء غير المروَّج لها إعلاميا، حتى لو كانت كتابات الأسماء الأولى تحفل حفلا بالمغالطات والتناقضات والترَّهات والسفاسف على أكثر من صعيد، وحتى لو كانت كتابات الأسماء الأخيرة هي الأهم بكثير على هذه الصُّعُد (وعلى غيرها من الصعد الأخرى، كذلك)، وهي التي يحتاجها العقل العربي الشريد والمشرَّد أمسَّ الاحتياج في هذا الزمان الشريد – ناهيك عن تلك الملايين من الريالات القطرية (بالمعنى التقليدي)، بالعشرات وبالمئات وغيرها، تلك التي تعتاش عليها أسرة تحرير الصحيفة المعنية، حينما تنشر، دونما أيِّ وخزٍ ضميريٍّ بأعلاه أو بأدناه حتى، ذلك الحفلَ من المغالطات والتناقضات والترَّهات والسفاسف!!.

والأنكى من ذلك كله، في هذا السياق بالذات، هو أن نرى معلِّقا «غربيا» (من بلد إسكندنافي، كالنرويج، مثلا) يُبدي انتقادَه اللاذعَ والمُذِلَّ للمقال المعنيِّ بوصفه، حسب تعبيره الإنكليزي المبنيِّ على لغته النرويجية، «منفصلا عن كلٍّ من الواقع الماضي والواقع الراهن»، بتلميح لا مراءَ فيه إلى أن كاتبَ المقالِ المعنيَّ، الأستاذ شفيق ناظم الغبرا ذاتَه، قد أصابه مَسٌّ من الخَبَل والجنون – لو كانت المحرِّرات الجاهلات والمحرِّرون الجهلاء في صحيفة «القدس العربي» يعلمن ويعلمون.. ومع ذلك، لا تتوانى أسرة تحرير هذه الصحيفة «العربية» الرسمية في نشر ما يلذع وما يُذِلُّ كاتبا صحافيا من كتابها «المحترمين»، ما دام لاذعًا وذالاًّ «الآخَرَ» من لدن معلق غربيٍّ، كذريعة إعلامية وضيعة لإبداء وجهها «الحضاري» المزيَّف، ولا تتوانى، في الآن ذاته، في حظر كلِّ ما هو أقلُّ لذعًا وذَلاًّ بكثير لجناب «الذات»، طالما أنه موجَّه إلى هذه «الذات» من لدن معلق عربي مغلوب على أمره، كما هو شأنُهُ المعتادُ في هذا الزمان العصيب.. فما الفرق، بحقِّ السماء، بين هكذا أسرة تحرير صحيفة «عربية» رسمية تروِّج وتُؤَوِّج عن «ذاتها» نافخةً إيَّاها بكلِّ أنواع الترويج الكاذبِ والتأويج الزائفِ وبين أية طبقة حاكمة «عربية» استبدادية حقيرة لا تتردَّد في لعق أحذية أسيادها من الغرب لاكتساب الرضى والبقاء، ولا تتردَّد، في الوقت نفسه، في سحق حريَّات أبنائها وبناتها من الشعب لاستتباب هذا الرضى وهذا البقاء؟؟..

•••

تعريف بالكاتبة:

ولدتُ في مدينة باجة بتونس من أب تونسي وأم دنماركية.. وحصلتُ على الليسانس والماجستير في علوم وآداب اللغة الفرنسية من جامعة قرطاج بتونس.. وحصلتُ بعدها على الدكتوراه في الدراسات الإعلامية من جامعة كوبنهاغن بالدنمارك.. وتتمحور أطروحة الدكتوراه التي قدمتُها حول موضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة الغربية» بشكل عام.. ومنذ ذلك الحين وأنا مهتمة أيضا بموضوع «بلاغيات التعمية والتضليل في الصحافة العربية» بشكل خاص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى