بين العلم والنقل (إعادة الخلق)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

رغم ورود قصة إحياء الموتى في أكثر من موضع في القرآن وثبوتها تاريخيا ، وكذا في (التوراة والإنجيل) في قصة (أصحاب الكهف)، و”الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها”، وما أراه الله لإبراهيم عليه السلام من إحياء الطير بعد أن صرهن فجعل على كل جبل منهن جزءا.. ثم معجزة عيسى عليه السلام ، ومع عدم استحالة هذه الفرضية عقلا أو نقلا ..

رغم ذلك لم يعول القرآن في الاحتجاج بها على المنكرين، إنما ذكرها في غير موضع هذا الاستشهاد، وذلك لأن المنكرين والملحدين لا يؤمنون بالغيب، ولا بنصوص التنزيل، ولا تقنع نفوسهم إلا بما ترى أعينهم، وتلمس أيديهم.

ولذا كان تعويلهم دوما على طلب الآيات الحسية من الرسل، بل يودون لو تأتي كل منهم آية تخصه لا يراها غيره؛ وقد سفه القرآن أحلام هؤلاء، من لا يؤمنون حتى بدلائل الآيات ولو كانت رأي العين، فقال “وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)”[الحجر].. “وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)”[الأنعام].

وبرغم أن منطق الإلحاد والكفر هو فقط (الإنكار لذاته)؛  ورغم علم الله المسبق عنهم ملازمتهم تلك الصفات حتى لو ردوا بعد الموت لعادوا إليها، وهو أعلم بمن خلق “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)”[البقرة]،.. إلا أنه لا يني في محاججتهم بمنطق العقل، ويذكر لهم الأمثلة والدلائل على صدق دعوى المعاد والحشر والنشور، فيقول: “أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)”{العنكبوت}…

قال الشيخ ابن عاشور “وَمُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِهَذَا هُوَ مَا جَرَى مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 17] تَنْظِيرًا لِحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِحَالِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ.. (1)

ويقول الشيخ الشعراوي:”ثم يقول سبحانه: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} [العنكبوت: 19] أيهما: الخَلْق أم الإعادة؟ أما الخلق فقد أقرُّوا به، ولا جدالَ فيه، إذن: فالكلام عن الإعادة، وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق؟ الخَلْق الأول من عدم، أما الإعادة فمن موجود، فأيهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم؟

لذلك يقول سبحانه: {وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ … } [الروم: 27] مع أن الحق سبحانه لا يُقال في حَقِّه: هذا هيِّن، وهذا أهون؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا”.{تفسير الشعراوي}.(2)

وقد جادل المبطلون من المشركين مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر رغم إقرارهم بقضية الخلق الأول في قوله: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9).. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(87)[الزخرف]، فزعموا أنه لا بعث ولا نشور ولا حساب، فاستحالوا قيام الأجساد بعد فنائها وتحولها إلى العظام والرفات “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)”[يس]..

والحقيقة أن العجز المحض عن الإجابة عن سؤال بدء الخلق إلا بما يتصور العقل ألا محيص عنه، ولا بديل له، وهو (الله)؛ لأن ما تجلى في هذا التكوين من إعجاز يفرض استحالة أن يقوم به بشر، أو يدعيه أحد إلا الله ، حيث أن القدرة على ذلك خارجة عن متناول كل مخلوق، وهو أمر لم يصل العقل إلى الإحاطة الكلية به حتى الآن ..

فما الداعي لهذا العنت في قضية (الإعادة) ولم يدعيها أحد كذلك غير الله، مع استحالة إخضاع كيفيتها للعقل البشري لاستيعابه؛ لكن مقتضى القياس العقلي يحكم بكونها وإمكانيتها، كما أقر بما قبلها من البدء، مع التوافق كذلك بين فرضية القرآن والعقل من أن الخلق في الإعادة (أهون) من البدء .. فالبدء كان من العدم، وأما الإعادة فهي من بقايا مادة الخلق الأول.

“يتحدث العلماء اليوم عن إعادة لخلق الكون كما بدأ ، ويقوم العالم Nell Tourk  من جامعة كامبردج بوضع الأساس لنظرية جديدة تقول بأن :” الكثير من الظواهر الكونية تعتمد على عملية إعادة الخلق مثل دورة الماء ودورة المناخ ودورة الكربون ودورة حياة النجوم ودورة الصخور وغير ذلك كثير .. “

وهنا نجد الآية تحدثنا بوضوح شديد عن الأمر “كما بدأنا أو خلق نعيده وعدا علينا” [الأنبياء 104].(3)

يقول روبرت كادويل : “إن الطاقة المظلمة التي تملأ الكون والتي لا تزال مجهولة بالنسبة للعلماء سوف يكون لها أكبر الأثر على انكماش الكون وتقلصه ومن ثم النهاية المرعبة لها ضمن انسحاق كبير .. “

ولو تأملنا الآيات القرآنية نلاحظ أنها تؤكد على انشقاق الكون، يقول “فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان” [الرحمن37]، ويقول: ” فيومئذ وقعت الواقعة . وانشقت السماء فهي يومئذ واهية “[الحاقة 15-16] .. فالسماء القوية والشديدة ستضعف وتصبح واهية ،، وهذا ما يتفق مع الدراسات الحديثة في علم الفلك ؛ كذلك أنزل الله في القرآن سورة كاملة تسمى (الانشقاق) تبدأ “إذا السماء انشقت”. (4)

وقد جاء في تفسير: قوله تعالى [إليه مرجعكم جميعا]: “اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر الدلائل الدالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدل على صحة القول بالمعاد أنه سبحانه ذكر أمثلة كثيرة دالة على إمكان الحشر والنشر ونحن نجمعها هاهنا:

فالمثال الأول: أنا نرى الأرض خاشعة وقت الخريف، ونرى اليبس مستوليا عليها بسبب شدة الحر في الصيف، ثم إنه تعالى ينزل المطر عليها وقت الشتاء والربيع، فتصير بعد ذلك متحلية بالأزهار العجيبة والأنوار الغريبة كما قال تعالى: والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور [فاطر: 9].

 وثانيها: قوله تعالى: ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إلى قوله: ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى [الحج: 5، 6].

 وثالثها: قوله تعالى: ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب [الزمر: 21]. والمراد كونه منبها على أمر المعاد”. (5)

  1. التحرير والتنوير (الطاهر بن عاشور)
  2. تفسير الشعراوي
  3. موقع الإعجاز العلمي (د عبدالدائم الكحيل)
  4. موقع الإعجاز العلمي (د عبدالدائم الكحيل)
  5. مفاتيح الغيب (تفسير الفخر الرازي)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى