جار النبي الحلو: سعيد الكفراوي أخلص للقصة القصيرة فأسلست له القياد

بموت الكفراوي فقدتُ سندي في الحياة

نحن جيلٌ ” محظوظ” ولكن النجاح ثمرةُ التعب

“شلة المحلة” نزحت للقاهرة بحثا عن نجيب محفوظ

حاوره – صبري الموجي :نائب رئيس مجلس ادارة جريدة عالم الثقافة

بصوتٍ يخنقُه البكاء، وعباراتٍ تسبقُها عَبَراتُ عينيه، قال الروائي الكبير جار النبي الحلو – أحد أدباء (شلة المحلة) التي ضمت جابر عصفور وسعيد الكفراوي، ومحمد المنسي قنديل، ومحمد صالح، وفريد أبو سعدة، ونصر حامد أبو زيد –  بوفاة الكفراوي فقدتُ سندا حقيقيا لي في الحياة، كان وجودُه بيننا مَبعث الأمل والطمأنينة، نلجأ إليه مُثقلين بالهموم والأوجاع، ونرجع يملؤنا الأمل والتفاؤل، نشقُ سكك الحياة ودروبها بصدورنا بعدما نزلت كلماتُه علي قلوبنا بردا وسلاما.

وجار النبي الحلو هو أحد أبرز كتاب القصة والرواية في العصر الحديث، كانت ” القبيح والوردة” أولي قصصه القصيرة، تلتها مجموعةٌ من القصص والروايات منها “طعم القرنفل”، و” الحدوتة في الشمس”، و” طائر فضي”، كما صدرت له روياتٌ مُتميزة منها” حلمٌ علي نهر”، و”العجوزان” فضلا عن العديد من قصص الأطفال مثل” قط سيامي جميل” وغيرها من القصص والروايات التي صدّرته للريادة.

عن أهم أعماله، ورؤيته لمستقبل الثقافة وتقييمه للأدب والإبداع، وذكرياته مع القاص سعيد الكفراوي آخر الحكائين الطيبين، الذي غيَّبه الموت الأسبوع الفائت عن 81 عاما بعدما أثري المكتبة العربية بالعديد من القصص القصيرة الجادة مثل” مدينة الموت الجميل”، و” ستر العورة”، و “سِدرة المنتهي”، و” مجري العيون”، و”كشك الموسيقي” و” زبيدة والوحش” وغيرها كان معه هذا الحوار .

حدثنا عن بداية تعرفك بأدباء ” شلة المحلة” ، ولمن الفضلُ في تشكيل وجدانك الإبداعي وأفكارك وأحلامك؟

بداية تعرفي على مجموعة أدباء المحلة كانت في عام  1965م، حين ذهبتُ مع المنسي قنديل وفريد أبو سعدة إلى قصر ثقافة المحلة، وهناك التقينا لأول مرة بالدكتور جابر عصفور، ومحمد صالح، وسعيد الكفراوي، ونصر أبو زيد، ورمضان جميل، وأحمد عصر، وكانت هذه بداية تفتحنا على عالم جديد من الأفكار والرؤى.

والفضلُ في تشكيل وجداني وأفكاري وأحلامي يرجع للكتب والأعمال التي قرأتُها مبكراً، كما أن الفترة الناصرية والتجارب التي مررتُ بها في مرحلتي الطفولة والصبا هي التي شكلت وعيي، وأسهمت في نجاح كتاباتي، فضلا عن الأدب العالمي الذي طرقتُ بابه في سن صغيرة خاصة أدبيات بول سارتر وجيفارا وتشيخوف الذي أدهشني بحق، كل هذا أسهم بشكل كبير في تشكيل مُخيلتي ومُفرداتي، إضافة إلي أن المُناخ العام في مصر آنذاك كان يزخر بعمالقة الفن والأدب.


قال الكفراوي يوما :” إذا كان لتوفيق الحكيم ” يوميات نائب في الأرياف”، وإذا كان ليحى حقي “خليها على الله”، وإذا كان ليوسف إدريس “أرخص ليالي”، و”الحرام”، فإن لمحمد المنسي قنديل”طبيب أرياف”، فماذا لجار النبي الحلو؟

أنا لا أملكُ سوى بعض المجموعات القصصية، وبعض الروايات وبعض قصص الأطفال، وكثير المحبة للبشر، أنا لا أصنف أعمالي، وإن كانوا “كلهم أبنائي” كما قال أرثر ميلر، ولكن من رواياتي المنشورة : حلم على نهر، وحجرة فوق سطح، وقمر الشتاء، وعطر قديم، والعجوزان، والخيط الذي يربط بين هذه الأعمال جميعا هو أنني أكتب عن عالمي وما يخصُني، وهو ما دفعني إلي تمزيق أكثر من 80 قصة قصيرة لم أشعر أنها تمثلُني، فكل أعمالي مُستلهمة من طفولتي وسيرى مع والدتي في القرية والدواب التي كنا نركبها، ففي رواية “حلُم على نهر” كتبت عن بيتنا، وعندما كتبت “العجوزان” كنتُ أتحدث عن نفسي، فأنا العجوز الذي عجز مثل مدينة المحلة، التي أخذت تتآكل وتتحول إلى مدينة استهلاكية.


ما الذي يفعله جار النبي الحلو في ظل أزمة كورونا، وندرة بل توقف الفعاليات الثقافية؟

خلال أزمة كورونا، التي أدعو الله أن يعجل بزوالها، قمتُ بقراءة الأعمال الكبيرة التي قرأتها في شبابي لأختبر ذائقتي آنذاك، فقرأت “جسر على نهر درينا” للكاتب اليوغوسلافي إيفو أندريتش و”انفعالات” ناتالي ساروت، ومجلدات “القصة القصيرة والمسرح لـ”تشيخوف” وبعض أعمال “يحي حقي” وأشعار بودلير، فازددت معرفة وحباً لهذه الأعمال.


ألا تري أنكم جيلٌ محظوظ بوجود” الشلل الثقافية” والصالونات، والفعاليات، التي تفتقر إليها الأجيال الحالية؟

بالفعل نحن جيلٌ محظوظ، ولكن النجاح لا يأتي من فراغ، فقد سعينا للمعرفة والثقافة والمشاركة في أحوال الوطن، وليس بالشللية، وادعاء المعرفة، نحن محظوظون لأننا عاصرنا وتتلمذنا علي يد عمالة الفن والأدب كالمازني، والعقاد، وطه حسين، والحكيم، ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وغيرهم.

بوصفك واحدا ممن مارسوا بل برزوا في العمل الروائي والقصصي ما هو تفسيرك لعزوف آخر الحكائين الطيبين سعيد الكفراوي عن الرواية؟

المسألة ليست عزوف الكاتب الكبير سعيد الكفراوي عن كتابة الرواية، إنما الموضوع أن سعيد عشق القصة القصيرة، وقد باحت له الحكاياتُ بأسرارها، وأصبح مُتمكنا بطبيعته من فن حكي الحدوتة والقصة، سعيد رأى أنه من خلال القصة القصيرة استطاع أن يُعبر عن رؤيته وفهمه وحبه للعالم، وإن كانت رحلتُه قد انتهت في الدنيا إلا أنه سيظل موجودا بإبداعه وكتاباته وقصصه القصيرة التي تفيض فنا وعبقرية قلما نجدُ لها نظيرا.


يُعد الكفراوي واحدا من أهم كتاب جيل الستينيات الحريص علي التجديد في الكتابة.. فما هي مظاهر هذا التجديد في قصص الكفراوي؟

من أهم مظاهر التجديد في قصص “سعيد الكفراوي”، أنه رأى عالم الريف والفلاحين بطريقة مختلفة، فهو ابن ما كتبه، الشخوص في الريف المصري بكل وجعها وحزنها الدفين وتراثها هو ما وضع سعيد يده عليه، التجديد أن الحكايات والحواديت والعجائز والأطفال عند سعيد لهم رائحة القرية وصمودها وأحلامها البسيطة، التجديد يتجلي في إخلاصه لفن القصة التي لم يرضَ عنها بديلا، وفي إخلاصه للمهمشين والبسطاء.


رغم اتصافه بخفة الظل وكثرة النكات إلا أن قصصه تسيطر عليها مسحةُ الحزن وهاجس الموت.. فما السر في سيطرة هذا الشعور وهل يمكن القول بأن في هذا نزعة صوفية؟

“سعيد” حين يحكي كان يمتلك لغة الحكي، وخفة الظل، وبراعة مُنشد الربابة الذي يشُدك من أول جملة، والموت يشغل “سعيد”، الراحلون، والفراق، والعمر الذي نشعر دائماً مهما عشنا أنه انفلت منا، والدهشة مابين لحظة الحياة ولحظة الموت هي ما جعلت الكفراوي طفلاً طول الوقت.


الشعور بانفلات الزمن ظل قضية الكفراوي الأولي وهلعه الأكبر.. فهل انفلت زمنه دون أن يتحقق مشروعه الثقافي أم أنه نجح في تحقيق ذلك المشروع عبر رحلته الثرية والطويلة؟

أزعم أن الكفراوي حقق مشروعه الثقافي، وأن ما قدمه من قصص ربت علي 12 قصة هو ما سيظل بيننا وفي الأجيال القادمة، قصصه علامات من الشجن، والحلم، والبكاء، والشعور والأحاسيس، والآمال والآلام.


يُجمع أصدقاؤه وكل من عرفه علي شهامته وكرمه فهل هي صفات متوارثة من نشأته وبداياته الريفية أم أنها مكتسبة وهل عطله هذا عن الإبداع؟

الشهامة والكرم لا يعطلان الإبداع، بل هما جزءٌ أصيل من المبدع الحقيقي، أضف إليهما العطاء، سعيد كان سندي في الحياة، بصوته الهادئ كان يُعيد لي ترتيب الحياة، وهمسه كان أشبه  بطبطبة أم حنون، لم يبخل على الكثيرين، وقدم كل محبته وإخلاصه لنا، وهو ما يزيد لوعتنا علي فراقه.

بعد وفاة رفيقة دربة (العظيمة) أحلام ساء مِزاجُه وآثر العزلة عن ذي قبل فكيف لم يتمكن أصدقاؤه من إخراجه من هذا الجو؟

لم يكن في استطاعة أحدٍ في العالم أن يُخفف عن “سعيد” حزنه لفراق رفيقة دربه السيدة “أحلام” بعد موتها، كان يُحدثني عنها وهو يبكي وفي حالة شجن شديد، فقد كانت رفيقة عمره، التي شاركته أفراحه وأتراحه فكيف له أن ينساها؟ !

 

ماذا عن آخر أعمالك وتوقعك لمستقبل الثقافة بعد أحداث كورونا؟

أكتبُ الآن رواية جديدة، أتمنى أن أنتهى منها، وعن مستقبل الثقافة بعد كورونا، أري أنه ستكون هناك بعض الأعمال سواء جيدة أو سيئة، ولكن في ظني أن العالم لن يتغير، الأنظمة العالمية لن تتغير، الرأسمالية ستزداد توحشاً وقهراً للدول الفقيرة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى