من ذكريات الطفولة.. وكاد أن يغرق في المصرف

صبري الموجي – نائب رئيس مجلس إدارة جريدة عالم الثقافة

 كان لباب دار العائلة الذي هو ضَلفةٌ أو (درفة) واحدةٌ كبيرة، تتوسط حائط الدار الخارجي المبني من الطوب اللبن (سُقاطةٌ) وهي عبارة عن عود من الخشب أو سيخ حديد يُثبت عرضيا في مُنتصف الباب من جهة الشِمال من الداخل، يتصل بتلك (السُقاطة) حبلٌ لرفعها من طاقة بجوار الباب تبيتُ بها لإحكام غلق الباب ليلا.

كان لجذبِ الباب بعد رفع (السُقاطة) صريرٌ أقوي من أزيز الطائرات، يكادُ من صخبه يستيقظُ الميتُ في قبره، كان هذا الصريرُ هو المُنبه الذي يُوقظني لصُحبة أخواتي وأولاد عمي لحقول المشمش كلَ يوم لجمع (شَرَاوي) المشمش المُتساقطة من علي الأشجار لبيعها في (السويقة) نظير قروشٍ تُعد علي أصابع اليدين نشتري بها (الدندورمة)، أوالكنافة، والمحظوظ فينا من باع (شروته)بـ(ربع) جنيه ليتمكن من شِراء (شقتين من الفول)، وكوبا من الشاي أثناء مشاهدة فيلم (بروسلي والتنين الأسود) في مقهي العم محمد العمدة أول من أدخل جهاز الفيديو إلي قريتنا.

أقول : كان هذا الصريرُ هو وسيلة تنبيهي، والذي بفضله لم تُفلح حيلُ أخواتي لإبقائي في البيت؛ خوفا عليّ من وحشة الطريق، حيث كانت عادة الصبية ما إن يفرغ المصلون من صلاة الفجر، وأحيانا قبله، حتي يخرجوا من بيوتهم زرافات ووحدانا يُسابقون الريح، فيطوف السابق علي بقية الرفاق يتعجلُ المتباطئ، ويُوقظ النائم، وينبه الوسنان، احتراما لرغبة أجدادنا الذين كانوا يُرددون علي مسامعنا : ( الساعة البدرية مَنسية).

كنتُ وأختاي وأبناء عمومتي الذين كانوا يكبرُونني سنا – إذ كنت صبيا يافعا لم أتجاوز السابعة من عمري – لا أستطيع أن أهش ولا أنش – لا نتحركُ حتي يحضرَ الجميع، ثم ننطلق صوب الحقول تُداعبنا نسماتُ الهواء البارد المُحمل بعبق الزهور، فنملأ بها أفئدتنا لتصير أشبه ببالونات الأطفال، وحيث إنه لم تكن هناك أعمدةُ إنارة، وإن وجدت فلا تجد بها لمباتٍ مُضيئة، فقد كُنا نُحاذر الحُفر في الطرقات المُتهالكة وسط الظلام الدامس.

وما إن نُغادر بنايات القرية التي كانت معظمها عبارة عن دور أو دورين تعلوها طوافاتٌ مصنوعة من روث المواشي علي هيئة أقراص تُستخدم كوقود لأفران الخبز داخل البيوت، حتي تطرب آذانُنا بأصوات العنادل تُغرد في أوكارها أعلي غصون الأشجار، فتمتلئ قلوبُنا نشوة لا يُعكرها إلا نعيقُ البوم، وهياج الخفافيش التي كنا نُحاذر التطامها بوجوهنا.

كان الطريقُ إلي الحقول مُوحشا، لا تكاد تجد فيه (صريخ ابن يومين)، سوي شللٍ من الصبيان مثلنا يظهرون علي فترات ثم سرعان ما يلفُهم الظلام، ويبتلعهم الطريق، وحتي نخرج من حصار ذلك الخوف، ورهبة ذلك الطريق الموحش الذي جثمت علي مقربة منه مقابر القرية، اعتاد كلٌ منا أن يُسامر أخاه فيسرد موقفا طريفا حدث له، أو يقص عليه حدوتة تنسيه وعثاء الرحلة، أو يُبالغ في وصف مذاق قطعة الكنافة أو( قرطاس)الدندورمة اللذيذة التي اشتراها بالأمس من البقال بثمن (شَروة المشمش، التي وَشَشَها ليدفع فيها المشتري ثمنا أعلي ).

كانت ضحكاتنا ملء الأفواه – عكس الابتسامات الفاترة التي نتصنعُها اليوم – تقطعُها التفاتات الترقُب والحذر، التي كانت تصدُر عنا بين الفينة والأخري، كلما سمعنا صفير الهواء، وحركات الغاب الذي أحاط المصرف الزراعي الذي سرنا بمحاذاته.

كانت عيدانُ الغاب علي جانبي المصرف تتراقص عندما يُداعبها الهواء، فنصرخ، وتتعالي صرخاتنا أكثر عندما يخرج منها قطٌ – والداهية لو كان أسود – خوفا من أن يكون عفريتا من الجن كما كانت تحكي لنا جدتي.  

ومرة ونحن نتباري في الحكي الذي تعالت له الضحكات خرجت علينا مجموعةٌ من الكلاب العادية، فتفرقنا (شذر مذر)، وتحصن بعضنا بكومة من سماد المواشي، واحتمي آخرون بجذوع الأشجار، واندس آخرون بين عيدان الذرة، وبعد أن تفرقت الكلاب التي رميناها بقطع الحجارة فوجئنا بأحد أبناء عمي يصرخ في مياه المصرف، الذي سقط فيه وهو يبحث له عن ملاذ من الكلاب الضالة.

كان المصرف مملوءا بماء غطته الطحالبُ الخضراء، سبحت فيه أسرابٌ من الضفادع لها نقيق، وكانت رائحة الماء النتن تُزكم الأنوف، وهو ما صعَّب علينا مهمة انتشال ابن عمي من ذلك المصرف (اللعين) الذي لم يخرج منه إلا بـ( قدرة قادر) أشبه بكتكوت (مبلول) ترتعد فرائصه وتصطك أسنانه، ولا تقوي رجلُه علي حمله، فمشي يتهادي وهو يتحامل علينا حتي وصلنا إلي رأس الحقل، حيث توجد عليه (طلمبة حبشية) عبارة عن (كنكة) لها يدٌ تضغط عليها لأسفل فيخرج الماء مدرارا، أمامها حوضٌ مبني من الطوب يتجمع فيه الماء لتشرب منه المواشي، وما إن رأي الحوض حتي قفز فيه كحجر ألقي بماء راكد، ثم تناوبنا علي يد الطلمبة  نصبُ عليه الماء ليغتسل ويزيلَ ما علق به من نتن وطحالب، ولم يخرج من الحوض إلا وهو أشبه بـ( الصيني بعد غسيله).

بعدها تناثرنا في الأرض نجمع ثمار المشمش التي سقطت من أعلي الشجر لتجهيز (شروة جديدة)، والاستعداد لرحلة جديدة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى