ثنائية الفن بين الفكر والواقع

الفنانة التشكيلية المصرية – أميرة عبد العزيز

بالرغم من قوة وجمال وحيوية ورشاقة فن العصر الحجري القديم والذي كان يُطلَق عليه آنذاك فن العصر الذهبي وما كان يتمتع به من دقة في التفاصيل وقوة في الخطوط والتقاطعات إلا أن الإنسان في ذلك الوقت كان مليئاً بالخوف من الموت والجوع، وكثيراً كان يحاول أن يحمي نفسه من هجمات الأعداء وقسوة الحاجة المادية ومن الألم والموت بأعمال أشبه بكونها سحرية، وهذا يرجع إلى أسلوب حياته التي كانت أقرب إلى حياة العشائر الرُحل المفككة والمبعثرة من الوجهة الإجتماعية فقد كان عليه تغيير مكان الإقامة بشكل دوري، إنه كان في بعض الأحيان يسكن الكهوف أجيالاً عديدة إذ أن الحقول والمراعي كانت تُستهلك بعد وقت معين من إستخدامها.

ولكن بعد ما عرف الزراعة وذاقَ طعم الإستقرار بدأَ يلاحظ التغيرات المناخية وشعَرَ بِأنَ بقاء حياته يتوقف على المناخ المناسب والملائم أو الردئ وعلى سقوط المطر وشروق الشمس ودفئها وخصوبة التربة أو افتقارها للخصوبة وتوافر المراعي أو ندرتها وبرودة المناخ وانتشار الثلوج في بعض المناطق، هذه المشاعر المتناقضة دفعته إلى التفكير بوجود أرواح خيرة وأخرى شريرة هي التي توزع النعم أو النقم وبفكرة الخوارق على الطبيعة والشئ المجهول والغامض المرتبط بالقدرات الخارقة والقوى الكبيرة العالية التي تتخطى حدود العالم والتي لا تستطيع قدرات الإنسان مهما بلغت من قوة جسمانية أن تفعل حيالها شيئاً كذلك اعتقدَ أن العالم ينقسم إلى قوتين ( قوة ترمز إلى الخير، والأخرى إلى الشر )، بل أنه أدرَكَ أن هو نفسه كإنسان ينقسم إلى نصفين، وهذا أدى إلى الإيمان بفكرة وجود الأرواح والموت والحياة وبقاء النفس، كل ذلك عبرَ عنه الفنان ودعا إلى ظهور الحاجة إلى الرموز المقدسة وقرابين النذور وإقامة مباني خاصة للموتى وتقديم الهدايا لهم مما أدى إلى فكرة التمييز بين نوعين من الفنون ” فن للدين، وفن للدنيا ” بعبارة أخرى فن يعبر به الفنان عن تقديم القرابين والنذور والهدايا كقربان من خلال نحت التماثيل واتخاذها آلهة لهم يتقربون إليها في كل مراحل حياتهم سواء كانت سعيدة أو حزينة يطلبون العون منها فنجدهم يقيمون المقابر وينحتون التماثيل ويُنشِئون المعابد لها، وفن للدنيا أو فن دنيوي حيثُ الأشكال الخزفية والفخارية الجميلة التي يستعينون بها على كافة أمور حياتهم الدنيوية.

جرة رائعة من العصر الحجري الحديث- متحف شنغهاي

آنية فخارية من العصر الحجري الحديث- كولومبيا

رسم للماشية في كهف لاسكو في فرنسا (15.000 عاماً قبل الميلاد)

رسم لثور في كهف ألتميرا في أسبانيا 15.000) عاماً قبل الميلاد)

إن العالم عندهم ينقسم إلى واقع وما فوق الواقع عالم منظور مرئي واضح، وعالم آخر غير منظور.. عالم روحي، جسم فانٍ ونفس باقية خالدة.

هناك فرق بين تصوير الطبيعة كما هى بكل ما فيها من حيوية ونبض وحركات إيقاعية تُشعِرُكَ بالحياة وبين نزعة حيوية الطبيعةanimism  وهذا ما أظهره بوضوح الإنسان الفنان في العصر الحجري الحديث، فقد نظرَ إلى النفس والروح على أنها جوهر منفصل عن الجسم، النفس خالدة والجسم فانٍ، وقد كانت عادات الدفن وطقوسه توضح هذه النظرة وهذا الإعتقاد.

إن فكرة إرتباط حياة الإنسان بالطبيعة والتغيرات المناخية أدت إلى إيمانه بوجود قوة سحرية هائلة، وإذا نظرنا إلى الواقع منذ تلك العصور إلى الآن لوجدناه عبارة عن اتصالاً لا ينقطع ونسيج بسيط ولكنه متماسك، بينما كل ما تُمثِلَهُ الطبيعة من حيوية مطلقة فهو تعبير عن اتجاهين، كلاهما يذهبان إلى عالمين أحدهما يذهب إلى عالم مرئي حسي وآخر إلى عالم غير مرئي روحي، مردود ذلك أن السحر ذو نزعة حسية يندرج تحت كل ما هو مرئي وعيني وظاهر ومنظور، بينما المذهب الروحي فهو ميال إلى جوهر الشئ والحياة الأخرى إلى التجريد، وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعلَ تركيز العصر الحجري القديم صدى وترديد لأشياء مطابقة للحياة والواقع، إلى كل ما هو ظاهري منظور، على حين أن فن العصر الحجري الحديث كانَ يتعمق في كل ما هو غير مرئي وكل ما هو خالد وباقٍ، إلى كل ما هو روحاني فوضعَ في مقابل الواقع التجريبي عالماً آخر أعلى تصميماً، وكان هذا هو البداية لعملية صبغة الفن بالصبغة العقلية والنظر لباطن الأشياء لا لظاهرها والإكتفاء بالعلامات والرموز والإختصارات والبعد عن الأشكال والصور كما كان يتم تصويرها على نفس حالها من الحركات واللفتات والتقسيمات، فأصبح كل ذلك مجرد اختصارات وأنماط عامة وتم تبديل الظواهر والتجارب المرتبطة بكل ما هو ظاهر ومباشر بالفكر والتفسير، فلم يعد العمل الفني مجرد إظهار شئ مادي بنفس المنظور الذي عليه ونفس الحركة كأنها صورة تم التقاطها بالكاميرا، بل أصبحَ تمثيلاً لفكرة واستبصاراً وتفسيراً لا تذكيراً من خلال رؤية لصورة أو حركة ما، هكذا بدأت الصورة تتحول بالتدريج إلى لغة رمزية وعلامات عامة تبحث عن عمق وجوهر الموضوع وقلَّ الثراء التصويريPictorical   شيئاً فشيئاً حتى تم اختزاله بشكل يكاد يكون غير تصويري.

لقد كان إنسان العصر الحجري القديم صياداً ماهراً وكان ذو طبيعة جسمانية خاصة قوي البنيان نوعاً ما دقيق الملاحظة، له أٌذن حادة تسمع وتميز الأصوات عن بعد وعين نفاذة تُدرِك أوجه الشبه والإختلاف بسهولة، أي أنه كان لابد وأن تتجه كل حواسه إلى الخارج نحو الواقع العيني الملموس الظاهر والمرئي أمامه ، وهذه الصفات الخاصة قد منحه الله إياها لتناسب قدرته والتعامل مع الطبيعة التي كانت تقسو عليه مرة وتحنو تارة أخرى.

بعض من آثار العصر الحجري القديم توضح كيفية تصوير الفنان لرشاقة الحركة من نظرة واحدة  ومنظور واحد

وهذا الإتجاه وتلك الصفات كان يتعين على الفنان تمثيلها وتصويرها من نظرة واحدة ومنظور واحد بما تمليه عليه الطبيعة بكل ما فيها من حركات ولفتات حتى تكاد تسمعها وتراها وتشعر بما فيها من حرارة ودفئ وصوت وحركة، أما في العصر الحجري الحديث فلم يعد للإنسان حاجة لمثل هذا الجهد الذي يفعله في الصيد والتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن الطعام واحتماءاً بالكهوف من صعوبة المناخ فقويت القدرات العقلية وتفوقت على القدرة الجسمانية واتجهت حواسه كلها إلى اللاواقع واللامرئي والغيرمنظور فتضاءلت قدرته وحساسيته على الملاحظة وزادت موهبة التفكير العقلي وتجريد الأشياء والبحث في جوهرها ومضمونها وأصبحت ذات نزعة روحانية شديدة التركيز تميل إلى التصميم بعيدة على محاكاة الطبيعة كما هى وأصبح يُشكِل إضافة جديدة للواقع بعيداً عن الطبيعة.

لو أقمنا مقارنة بين التصميم ومحاكاة الطبيعة سنجد أنه لا يمثل الواقع على الرغم من أن وجوده يعمل على التوازن، التضاد يبرز المعنى ويوضحه ويجعله ظاهراً جلياً، أنت أمام عالمين كلاهما مختلفان في المعني، التصميم  في نزوعه الشكلي يخالف بل ويعادي أحياناً الشكل المعتاد للأشياء والطبيعة ويضع قانوناً خاصاً به ونموذجاً مستقلاً عن الواقع.

والحق أن هذا التقابل الناشئ بين الفكر والواقع، والروح والبدن، والنفس والشكل وتلك الثنائية التي ظهرت وتعددت أشكالها وأنماطها عبرت عنها جميع المذاهب الفلسفية وأصبح هذا التضاد فيما بعد جزءاً لا يتجزأ من مفهوم الفن في العالم كله.

إنك لا تستطيع أن تشعر بمعنى وقيمة الفرح من دون أن تكون قد تعرضت في حياتك لجُرحاً وحزناً عميقاً، والليل والنهار والشمس والقمر،… لا تُعرَفُ معنى الأشياء إلا بالتضاد والإختلاف وبين الإتجاه الشكلي الدقيق المتمثل في التصميم والإتجاه الواقعي الذي المتمثل في محاكاة الطبيعة تأتي فترات يَحِلُ فيها ويسود في العصور أحد هذين الإتجاهين فيأخذ إتجاه مكان الآخر وهكذا وقد يسود ويطغى إتجاه في مكان ويسود الثاني في مكان آخر في حِقبة واحدة وعصر واحد.

الليل والنهار كليهما يتعاقبان في يومٍ واحد وهذا طبع الحياة، والتضاد بالرغم من تقلبه وقسوته أحياناً لكنه يُشعِرُكَ بالجمال والحركة والسكون بطعم الحياة تدرك من خلاله الحكمة من الخير والشر إن الإختلاف رحمة ولو تعمقت داخل القلب لعرفت أنه مصدر الحب والرحمة ولكنه ربما يكون مصدر لبعض الآلام والأوجاع… وللحديث بقية…  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى