أبي ودروس الزمان ..انتفخت جيوبُهم وتورم جسدي !

 

صبري الموجي – نائب رئيس مجلس إدارة جريدة عالم الثقافة

كانت لعمي حسن شجرةُ مشمش كدوحة غناء تضرب بجذورها في باطن الأرض و(تسرحُ) بغصونها ذات اليمين وذات الشِمال، شرقا وغربا، وحيث إن أرضنا كانت تجاور أرضه من جهة الشرق، فقد تدلي أحد أغصان تلك الشجرة بأرضنا، ليُلقي بها ما ينوء بحمله من مشمش طازج، وثمر يانع لذيذ، يسيل له لُعابي، وتُغريني رؤيته بأرضنا بأن أجمعه وأضيفه لـ(شَروتي) فتكبر وأبيعها بثمن كبير، أُباهي به أخواتي وأبناء عمي، الذين دأبوا علي جمع ثمار أكثر مني، والرجوع يوميا بجيوب مُنتفخة، تزيد من حسرتي لأوبتي راجعا بقروشٍ معدودة (لا تشفع ولا تنفع)؛ لأنها لن تُمكنني من تحقيق أمنياتي في اللحاق بمقهي الفيديو لمشاهدة أفلام (الأكشن)مع طلب زجاجة (كوكاكولا) أتفاخر بها أمام جميع الحضور، وربما أشركتُ أحدًا معي في تناول رشفة أو رشفتين؛ رغبة في أن يعاملني بالمثل عندما تتيسر حاله، إلا بعد (تحويشة) يومين أو أكثر وربما أسبوع بأكمله.

وكلما هممتُ بتحقيق رغبتي المحمومة في جمع ثمار عمي من أرضنا، استشرافا لما ينتظرني لو أقدمت علي تلك الخطوة الجريئة من ثروة طائلة، أفزعني تهديدُ والدي في وجداني: ( إياك ونزول أرض أحد، احذر أن تأكل من حرام)، ولأن (الزنَّ علي الودان أشدُ من السحر)، ولأن للمال بريقا يخطف بالأبصار، ضربتُ بنصائح والدي عرض الحائط، مُتذرعا بأنني لم أنزل أرضَ أحد، ومن ثم فلا أُعد سارقا.

وبمجرد أن استراح ضميري لهذه الفكرة الشيطانية، حتي وجدتني أذرع في الأرض طولا وعرضا، ألتقط كلَ ما تصل إليه يداي، سواء كانت ثمارنا أو ثمار شجرة عمي صاحبة الغصن الصائل علي أرضنا، وبعد لأي جمعتُ (شروة) من الثمار، ما حلمتُ بجمعها يوما، وانتفخ صدري موقنا أنني اليوم منتصرٌ علي الجميع، وبأنني سأعود إلي البيت بجيب مُنتفخ يُسعفني في شراء ما لذَّ وطاب من طعام وشراب.

ولإيماني بأن الهجوم خيرُ وسيلة للدفاع، هرولتُ نحو والدي – طيب الله ثراه – عندما ألفيته قادما من بعيد إثر عودته للحقل بعد إنجاز بعض مصالحه في البيت، وأمسكتُ بيده أحضُه علي الخطي لتقر عينُه بما كسبت يداي، ظنا أن (الحيلة) ستنطلي عليه، وأنه لن يفطن لما ارتكبتُه من جٌرم.

فانصاع لي أبي، وأسرع الخطي مادحا (شطارتي)، قاطعا العهد بأن ثمن شروتي سيكون لي وحدي، ولن يُشرك فيه أحدًا.

وما إن وصل إلي مكان جمع الثمار، حتي وجدتُ منه وجها غير وجهه الذي استقبلني به، وجلس القرفصاء يُقلب الثمرَ بين راحتيه، ثم رنا لي بنظرة حادة ووجهٍ مُغضبٍ تعلوه حمرة لفحتني حرارتُها، فامتقع وجهي اصفرارا، ولكني تجاسرتُ بالثبات، وشرعتُ في الكذب؛ ظنا أن له رجلين، ولكنه بدا – أي الكذب – كسيحا أو مشلولا أمام أبي الفلاح (الأراري) و بسؤاله ألم أنهك عن نزول أرض أحد؟

جاءت إجابتي : بلي، وحلفتُ أيمانا مُغلظة أنني لم أجمع الثمر من غير أرضنا، وحتي (أُسبك) الدور، عصرتُ عيني عساها أن تجودَ عليّ ببعض الدموع بُرهانا علي الصدق، ولكن هيهات أن يحدث ذلك، فهرعتُ لحيلة أخري تنبني علي الحِجاج والجدل، طمعا في إقامة الحجة عليه وإلا فسيكونُ العقاب وخيما، والضرب مُبرحا بعصا من جريد (ستشلب) جسدي بالدم، دون التفات لكوني (ديك البرابر)، وأنني ابنه الوحيد والذكر الذي سيحملُ اسمه من بعده، فلمح فيَّ أبي(لؤم) الفلاحين، والذي كانوا يفرون إليه هربا من الفقر المدقع؛ ظنا أن قليلا من الكذب لا بأس منه، فشرع يُعلمني الدرس عمليا، وقال انظر إلي ذلك الغصن، من أي شجرة يتفرع؟ فأجبت من شجرة عمي المزروعة بأرضه، فسأل وأين تسقطُ ثماره ؟ فأجبت في أرضنا لأنه يتدلي بها، فرد وكانت العصا أسبق إلي جسدي من لسانه إذن الثمر ليس ثمرنا، ثم أخذ ما جمعتُه بعَرق الجبين وألقاه في أرض عمي، وبدلا من أن ينتفخ جيبي تورم جسدي.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رحم الله والدكم رحمة واسعة واسكنه فسيح جناته ياأستاذ صبري لحرصه الشديد على زرع تلك القيم والأخلاق الكريمه بكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى