إذن مرور للآخرة

سيد غلاب | قاص من مصر

السرير! … ، لا تخشوا…، فهذه ليست قصة إيروسية، ولكن السرير هو المكان الوحيد الذي يجمعني بزوجي في نهاية اليوم، كما أن زوجي ناسك في محراب الكتب ومهنته التأليف، فلا يضاجع إلا بنات أفكارة، ولا يغريه سوى العبارات والجمل، ولا يحتضن غير أوراق الكتابة.

يأخذ كل منا جانبًا من السرير كمسافرين غريبين يخشى كل منهما أن ينتهك عالم الآخر، فيربض كل منا بمكانه، هو يظل يقرأ حتى تخور قواه ويستسلم للنعاس، وأنا أضع الخطط لباكر وأضع الحسابات لما قد يستجد، آة… بخصوص خطط باكر… نسيت:

–         راضي

–         هممم؟…

–         اترك هذا الكتاب، أريد أن أحدثك.

–         امهليني دقيقتين فقط، أوشكت أن أنتهي من جزء مهم.

 ما بك يا حزين…؟! إن أكداس الكتب التي تحيط نفسك بها ليل نهار قد أتت على مالك وصحتك، فأنت لم تعد  تأكل كالمعتاد، لقد كنت كالثور في العشب المباح ( كتور الله في برسيمة) لا العشب ينفد ولا أنت تشبع، هل استجاب الله لدعائي أخيرًا وفقدت شهيتك!  كما أن وجهك شاحب وأصبحت قليل الذهاب إلى دورة المياه، وجلدك بدأ يجف من قلة السوائل، هل أنت مشغول بأخرى؟!…، (كح كح، كحة تقطع نفسك):

–         يا راضي، راضي…، اللعنة على هذا الكتاب … أريد أن أحدثك.

–         أفففف، ماذا تريدين؟

–         غدًا ذاهبة للتسوق مع أمي وأختي

–         هممم .. أوجزي يا تهاني؟!

–         أريد مالاً يا سبعي!

–         آخر نقود معي أخذتها اليوم من جيب الجاكيت، أتذكرين ؟

–       كان هذا في الصباح يا بعلي، أنا أتحدث عن غدٍ، أم تريد أن تنفق علي  أختي كالعادة؟!

–      تنفق! …، وكالعادة! … هذا كلام كبير جدًا، كل هذه السنوات أتحمل إسرافك وتبزيرك، وبعد كل هذا تقولين تنفق علي أختي!

–     نعععممم…!، إسرافي و(إيه.. إيه! …) يا بخيل…، يا فقير…، وهل تملك مالًا كي أبزره!… نحن نعيش حد الكفاف، وأنا في كثير من الأحيان آخذ من أهلي.

–     أهلك ..آه .. أهلك، الليلة لن تمر بسلام … فسيرة أهلك قد حضرت

–     أنت تكره أهلي

–    صراحة، لا أنسى لهم تجرءهم علي، واحتلالهم لبيتي، وتصرفهم فيه كأنه بيتهم، أتذكرين عندما تقدم أحدهم لخطبة أختك المصونة، لقد قابلتموه هنا في بيتي دون إذن مني، على الرغم من أن لها أخًا – ما شاء – كالثور وله بيت فسيح.

–    هيا…أفرغ ما في قلبك من سواد

–    سواد!… آآة سواد، وحفل خطبتها التي فسخت بسبب عنجهيتكم، كانت في بيتي وعلى نفقتي، والآن أسمع منك تلك الكلمة (تنفق)، وأية فلوس التي تتحدثين عنها، فأنت دائمًا تأخذين ما معي دون استئذان، لا تتركين لي حتى مصاريفي الشخصية، وأختك التي تتحدثين عنها شبه مقيمة في بيتي وكأنها مسئولة مني.

تهاني وقد استفزها كلامه:

–   ماذا تقول … ياعينيا، كيف تجرؤ على ذكر أهلي وذكر أختي، ، فالأختي الحق أن تأتي في أي وقت تشاء.

راضي مهدئًا ثورتها:

–    عامة… لقد انتصف الليل، هلا أجلت هذه (الوصلة) إلى الصباح؟

–    إلهي لا يطلع عليك صباح!، وأستريح منك.

–  آمين، أنا أيضًا أريد أن أستريح منك ومن طلباتك التي لا تنتهي إيه ده…. (كفرررتيني).

///

استيقظت على عجل، خافت أن تكون تأخرت على موعدها مع أمها وأختها، وهرولت لترتدي ملابسها، وهي ترفع البنطال بدأت سرينة الإيقاظ المعتادة:

–   ررررراضيييييييي..!

–   ………

لم يأتها رد، اقتربت منه وجدت عينيه مفتوحتين وسمعت صوت حشرجة آتية منه، قالت وهي  ترجه رجًا عنيفًا: قم يا راضي.. قم…، يا حبييييبي!… أأنت مريض؟! كان أمامك الأسبوع بأكمله لتمرض، لماذا اليوم….؟ّ!  سوف أتأخر على موعد أمي وأختي… قم.

لكن لم يأتها من راضي سوى صوت الحشرجة، وأشار بيده أنه لا يستطيع أن يتنفس.

 اتصلت بالإسعاف، وأخذت تذرع الغرفة وتنظر في الساعة، وعندما أدركت أنه لا مفر، اتصلت بأختها وطلبت منها أن تؤجل الموعد للغد، فراضي (بسلامته) مريض، ويمكن –إن شاء الله- يموت.

///

قال لها طبيب الإسعاف بعد أن تفحص راضي:

– للأسف يا مدام .. إن زوجك يحتضر.

ردت بعد أن ضربت على صدرها:

–  ابن الكلب…، يريد أن يموت ليهرب من المسئولية، يريد أن يتركني و يستريح وأشقى أنا…، أنا  أريد أن أستمتع بحياتي.

تعجب الطبيب من ردة فعلها، ولكنه ظن أن ذلك ربما من تأثير الصدمة، فقال لها مواسيًّا:

–   مدام، لا تفعلي ذلك بنفسك، تحلي بالصبر والإيمان.

ولكنها لم تسمعه، كانت في عالم آخر:

–   تريد أن تموت وتتركني يا ابن الكلب، تريد أن تترك هذه المسئولية لي وحدي، موتك المفاجئ سوف يربك كل حساباتي، ماذا سأفعل الآن …! طبعًا سوف أصبح أبًا وأمًا، وسأضطر للعمل، فأنت يا بعلي الهمام لم تكن لك وظيفة ثابتة؛ وليس لك معاش… يا لفرحتي بك … مؤلف… يا لفرحتي  بك وبتأليفك، أحرقك الله أنت ومؤلفاتك، ماذا سأطعم الأولاد الآن … كتب!

وإذا أردت الزواج بعدك فمن ذا الذي يتزوج أرملة لها أربعة أولاد، فنحن في زمن الزواج فيه أصبح صعبًا حتى للفتيات، فإن أختي ريهام التي هي أصغر مني، قد جاوزت الخامسة والثلاثين ولم تتزوج بعد، فما بالك بي وقد نيفت على الأربعين؟ أهنالك أمل أن ينظر لى  حتى صرصور؟!

 ثم توجهت إلى السرير وقفزت على جسد راضي، وقالت بتصميم:

–   والله لن أترك روحك تخرج من جسدك… يا ابن الكلب، سأجثم عليها لن أدعها تخرج.

صدم الطبيب، وحاول إنزالها عن جسد راضي:

–    انزلي يا مدام، هل جننت…؟!

–    (جن لما يلهفك)، أبعد يديك عني.

غادر الطبيب الغرفة باحثًا عمن يساعده في إنزال تلك الهائجة عن جسد زوجها.

زاغ بصر راضي، وانقطع نفسه، ولمحت تهاني روحه وهي تخرج، ولكنها نجحت في إمساك يديها -وظل نصفها الآخر داخل جسد راضي- وربطها إلى سياج السرير:

يا أبن الكلب لن أتركك يا ابن الكلب… يا ابن الككككلببب!

فدخل كلب أسود الغرفة، هالها شكله وحجمه، فنزلت عن جسد راضي والتصقت بالحائط المقابل للسرير، ووضعت يدها على فمها لتكتم أنفاسها خشية أن ينقض عليها الكلب ، ثم كما ظهر فجأة اختفى فجأة.

فعادت إلى وضعها السابق وأحكمت شد وثاق روح راضي إلى السرير؛ فعاد ظل أسود ضخم مروع، فارتعدت وفغرت فاها، وظنت أنه ملك الموت جاء لينتزع منها روح راضي، فتشبثت أكثر بالروح، وجاءها صوت من الظل عظيمًا مجلجلاً:

– ماذا تفعلين يا امرأة؟

– لن أتركه، مهما فعلت، لن أتركه.

– ألهذه الدرجة تحبينه؟

– يبدو أنك ساذج يا سيدي

– أجيبي على سؤالي يا سليطة اللسان؟

– ليس حبا أيها الظل الذي لا أعرفه ، ولكن هذا اللعين يريد أن يهرب من المسئولية ومن نفقتي ونفقة الأولاد، ومن يدري لعله يدخل الجنة ويتنعم وتكون له حورعين، فلن أتركه لغيري لن أتركه يتنعم.

– اطمئني إن آخر كلمة نطقها زوجك قبل أن يموت، هي (كفرتيني)، وهذه الكلمة أخرجته من الملة، والآن ستدخل عليك ملائكة العذاب يريدنه، فدعيهم يأحذون روحه.

وتوارى الظل في ركن الغرفة، فتنهدت تهاني وعدلت جلستها على صدر راضي لتكون مواجهة للباب، ثم دخلت ملائكة العذاب بعد أن طوت أجنحتها السوداء، واتخذت أشكالاً آدمية قبيحة الوجوه، قال الأول فيهم الذي يبدو أنه زعيمهم:

–         دعيه لنا الآن يا ابنة حواء؟

–         لا، لن أتركه؟

–         نحن ملائكة العذاب، دعي روح هذا الشقي لنا نحن أولى بها.

–         سأتركه، ولكن بشرط.

–         وما هو ؟

–         أريد أن أكون أنا من يقوم بتعذيبه في جهنم

–         ماذا تقولين، هل جننت؟ّ!

–         نعم، هذا شرطي فأنا أجيد تعذيب هذا الشقي وأعرف ما يؤلمه فعلًا، ولقد اعتدت فعل هذا طوال الخمسة عشر عامًا الماضية.

–         لا نستطيع أن نعدك بذلك، هذا أمر لا قبل لنا به، لسنا مخولين بهذا.

–         إذن لن أتركه لغيري يعذبه، وسأظل هنا جاثمة على روحه.

–         يالك من عنيدة.

ذهبت ملائكة العذاب دون أن تحرز تقدمًا أو تزحزحها عن موقفها المتعنت، فظهر هلال صديق راضي، عندما رأته تهاني واقفًا أمامها فجأة، سألته في اندهاش:

–         هلال…! ما الذي أتى بك؟ كنت قد مت واسترحنا منك!

–         أتيت لأصطحب روح صديقي، هلا تركتيه؟

–         لا، وألف لا

–         ولم؟

–         يكفي أنك شريكه في ذلك الجنون الذي تسمونه إبداعًا

–         عامة لم آت وحدي

–         من معك؟

–         بعض المؤلفين من أساتذتنا الكبار، أدخل يا أستاذ محفوظ

يدخل الأستاذ نجيب محفوظ، بعد أن يشير له هلال إلى تهاني، يوجه حديثه إليها:

–         نهارك سعيد يا هانم!…

–         هلِّوا.. هلِّوا، هذا النهار أسود منذ بدأ

–        يا حفيظ، رويدك يا هانم، ألا تعلمي أن المرأة عندما تغضب تفقد ربع جمالها ونصف أنوثتها وكل حبها؟

–        لا يا شيخ!…

–        عذرًا يا هانم من فضلك أحسني الرد، ثم موجهًا حديثه إلى هلال:

–        هل أحضرتني من استراحتي الأبدية لأتحدث لتلك السليطة!

همت تهاني بالبدء في سيمفونية ألفاظ بذيئة (ردح) للأستاذ محفوظ، لكن هلال تدارك الأمر، ووضع يده على فمها، لكنها عضتها، وتملصت منها، فتنحى هلال متألمًا متفحصًا موضع عضة تهاني في يده، ثم قالت للأستاذ محفوظ:

–         من هي السليطة…!، ها….، أتظنني مكسورة الجناح مثل (أمينة)…، هذا في خيالك فقط …لم تكن المرأة أبدًا مكسورة الجناح، ولا يوجد رجل يستطيع أن يقهر امرأة مثلما فعل هذا ال (سي سيد) في روايتك، كل هذا ترهات مؤلفين، لا وجود لها على أرض الواقع.

قاطعها الأستاذ محفوظ بغضب:

–        لا، عذرًا ف (سي السيد) شخصية حقيقية استوحيتها من جار لنا.

–        وما أدراك أن هذا الجار كان سي السيد في بيته؟

–        أولاده … والجيران، وكنا نرى مظاهر ذلك خلال تعاملاته مع أفراد أسرته.

–        لكن، أكنت موجودًا في بيته طوال الوقت؟

–        امممممم…

–        هل رأيت ما يحدث خلف الأبواب المغلقة؟

أطرق الأستاذ محفوظ ولم يجب، فواصلت تهاني بانتصار:

–        أرأيت!….

–         عفوًا يا هانم أعتقد أن هناك سوء فهم، فما صورت السيدة أمينة بتلك الصورة إلا دفاعًا عن المرأة ضد سطوة الرجل، وأنا أعلم تمام العلم أن المرأة لها كبرياء عظيم… نعم …حتى في اللغة، فالمرأة كلمة لا جمع لها فهي تأبى أن تجمع بغيرها.

–         من قال لك إن المرأة تريد دفاعًا من أيًّا كان، اختصر ماذا تريد؟

–         أريدك أن تتركي روح هذا البائس الشقي، لتلحق بنا في عالمنا.

–         لا، لن أتركه، ووفر كلامك.

–         حتى لو قلت لك إنني سأعيد كتابة الثلاثية من أجلك، وبدلاً من أمينة، سأسميها الست أمينة، وستكون الست أمينة هي المتحكمة، ويكون سيد بدون (سي) مغلوب على أمره يسمع ويطيع فقط.

–         أنا لا أعبأ بعالم الخيال الذي تعيشون فيه، ولكن أومن بالواقع، والواقع كما ترى، فأنا لن أترك روحه.

ثم يسأل محفوظ هلال:

–         ماذا حدث للنساء بعد أن رحلنا؟

–         للأسف يا أستاذنا لقد بالغنا في الدفاع عنهن، ورسمنا لهن نموذجًا لم يكن موجودًا سوى في مخيلاتنا، فآمن بذلك العامة والخاصة، وتعاطفوا معهن، وغيروا من أجلهن القوانين، فتوحشت المرأة وانقلبت الآية، وأصبح الرجل مغلوبًا على أمره، وأصبحت المرأة هي المتحكمة.

–         ولكن لم أكن أنا من أطلق هذا الوحش!…

–         ولكن كلنا أسهم في خلقه

–         نعم،… نعم هذا صحيح،  ربما نسينا هذه الحقيقة، فالأنثى هي الأنثى… نسل متمرد لا يرضى أبدًا، فهي حين ترغب في الرجل تكون جنة ونعيما مقيما،  وحين تكرهه تحولت نارًا وخنجرًا مسمومًا، دائمًا حواء تنظر إلى الممنوع وما لا تطاله يدها، وبناتها يحذون حذوها، مسكين ذلك الراضي.

صوت قادم من خارج الغرفة:

–         يالقوة النساء ومكرهن، لهن قدرة على الكيد لا  قرار لها ولا آخر.

يدخل الدكتور طه حسين مواصلاً الكلام:

–         ولديهن براعة  في التلون لا يملكها غيرها من الكائنات.

تهاني بسخرية:

–       الله الله… لقد اكتملت… ، هذا اليوم لن ينتهي على خير.

الأستاذ محفوظ موجهًا حديثه لتهاني:

–         تهذبي..!

د. طه حسين موجهًا حديثه إلى الجهة التي أتي منها الصوت:

–         أهذا أنت يا محفوظ؟

–         نعم يا دكتور

–         دعها، فإن المرأة لا تغلب إلا إذا أحبت، ولا تقهر إلا إذا أرادت، ولا تذعن إلا إذا رغبت في الإذعان.

تهاني:

–    وأنا لست واحدة من هؤلاء، فأنا لا أحب، ولا أريد أن أقهر، ولا أرغب في الإذعان، فماذا تريد؟

–      أطلب إليك أن تتركي روح هذا الراضي، فما جدوى تعذيبك له إن كان ميتًا؟

–     لا، وألف لا، فأنت آخر من أجيب له طلبًا، فأنت عدو للمرأة.

الدكتور طه بابتسامة سخرية:

–         أنا أيضًا…! وكيف هذا؟

–      نعم، لقد صورت المرأة في دعاء الكروان على أنها ساذجة، يسهل التلاعب بها، وضعيفة أمام الحب، فآمنة قد أحبت مغتصب أختها، وحزنت عليه عندما قتل.

–      أتذكرين ذلك ولا تذكرين أنها قد تلاعبت به، وقتلته حبًا قبل أن يقتله رصاص خالها، حتى أنه فضل نظرة الحب في عينيها وهو قتيل يفارق الحياة عن نظرة الكره وهو صحيح متعافٍ.

ثم أنا كنت من أوائل الذين دافعوا عن حق المرأة في التعليم سواء بسواء مع الرجل.

–    نحن لسنا في حاجة إلى أن يدافع عنا …. رجل، وحقوقنا نستطيع أن ننتزعها انتزاعًا من أم عين الرجل.

–     بنيتي

تهاني مقاطعة:

–    دكتور طه قف بجوار صديقيك ، فأنا لن أترك روح هذا الراضي.

محفوظ للدكتور طه:

–     دعك منها يا دكتور، لا أعلم ماذا جرى للنساء في هذا العصر؟

–    إنما هو الهيام في الأرض والسكر بهذا الشراب الخطر الذي نسميه حب الحرية والذي كلفنا الكثير، فتحت شعار حرية المرأة خلقنا وحشًا غير قابل للترويض.

–         صدقت يا أستاذنا

–         وأنت يا نجيب، كيف حالك، سمعت أنك حصلت على نوبل في الأدب!

–         نعم يا أستاذنا

–         إذن لقد  اتبعت نصائحي وسرت على دربي وهذا ما أوصلك  للعالمية.

–         اممممم.

نسمع أصواتًا في الغرفة ولا نراها:

–         يا تهاني…، أنا نوال… لا تتنازلي يا تهاني، مهما كثر عليك الضغط والإلحاح، الكل أو لا شيء

–         وأنا هدى: أطالب  بسن قانون يلزم الرجل بألا يموت إلا بإذن زوجته.

نوال وهدى معًا:

–         وهناك الكثيرون يؤيدونك، فاصمدي.

الدكتور طه –لنجيب- معلقا على ما قيل:

–         هذا ما كنت أعنيه، فمثل تلك الشعارات، هي التي خلقت ذلك التوحش والتنمر في المرأة، أنا لا أريد التكرار، ولكن بمعنى آخر، نحن أمام وحش في ثوب امرأة أو امرأة بمشاعر وحش، ألا لعنة الله على تلك الشعارات المضللة الخبيثة.

محفوظ باندهاش:

–          رائد التنوير في الشرق يقول هذا؟!

–         لا تندهش يا نجيب، فلقد انجابت عنا الظلمة وغمرنا النور، ورأى كل منا حقيقة صاحبه.

–         صدقت.

تهاني لهلال بتحد:

–         أهنالك المزيد

–         نعم، الأستاذ قاسم أمين

–         وماذا يريد هذا القاسم؟

–         تهاني!… إنه صاحب كتاب تحرير المرأة

–         ومتى استعبدت المرأة حتى يحررها قاسم أمين؟!

يدخل قاسم أمين، ولكنه حين يراها سافرة غير محجبة، يدير وجهه عنها:

–         أعوذ بالله، أنا لم أطالب بتحرير المرأة من الملابس بل من الجهل.

تهاني لهلال:

أهذا الذي تقول عنه محرر المرأة!….

قاسم يرد: لم أكن أعلم أن دعوتي ستفهم على هذا النحو.

تهاني: أي نحو

–         لقد كانت دعوتي لتحرير المرأة من الجهل، لا من الزي الإسلامي.

–         والله، أقسم إنك بصباص.

يضحك محفوظ وطه حسين وظلا يرجعان صوت ضحكاتهما ترجيعًا ملأ صداه الغرفة، حتى اختفوا جميعًا، وعادت ملائكة العذاب، قال لها زعيمهم:

–          حسنًا نحمل لك عرضًا

–         وما هو؟

–         بما أنه قد نطق كلمة الكفر، فنستطيع أن نجعله تحت قدميك في النار

–         إذن سيكون تحتي طوال الوقت وسأتشفى فيه، وأسمع أنينه وصرخاته؟

–         نعم

–         موافقة،… ولكن أريد أن يدخل أهلي -قبل أن تأخذوه- ليلقوا عليه نظرة الوداع، ويعطونه ما يستحق من كلمات التأبين.

–         لك هذا،  دعيهم يدخلون، وسنتوارى عنهم.

يدخل الطبيب ومعه  نور الدين أخوها الأكبر،الطبيب مشيرًا إلى تهاني:

–         أنظر يا أستاذ ماذا تفعل، لقد جنت!

–         تهاني بتحفز:

–         أنت ثانية!

نور الدين:

–         انتهى الموضوع، من فضلك أيها الطبيب أخرج ودعني ألقي نظرة الوداع على صهري، وأنت أيضًا يا تهاني والدتك وأختك بالخارج، اذهبي لتجلسي معهما.

يخرجان،… و يقف نور الدين أما جثمان راضي لحظة صمت…، ثم يقول:

مت يا راضي! … لا حول ولا قوة إلا بالله، لقد مت ومات معك كبرياؤك الأجوف، وعباراتك الحمقاء عن الشرف والأمانة والحلال والحرام… تلك القيم التي ما عاد أحد يؤمن بها، لطالما صدعتني بنصائحك عديمة القيمة … الشرف الأمانة الحلال الحرام، كنت دائمًا تقول إنني شمال، الآن تموت فقيرًا أيها الواعظ وأعيش غنيًّا، الرشوة حرام هااااا، فهل يخلو مكان من الرشوة؟!…، هل يستطيع أحد أن يعيش على راتبه!…، أنا أنسان محظوظ وصلت لمكان مهم، فلما لا أستغل ذلك، أجبني؟ …، ثم وهو يلكم راضي في وجهه، أجبني …أنا شمال يا حيوان شمال.. هااا، لطالما تهكمت على اسمي وكنت تناديني ظلام الجاهلية، وأبا جهل… اسمي نور الدين أيها المتعجرف.

 ثم وثب فوق السرير، وطفق يركل راضي بقدمه في كتفه: اسمي نور الدين يا حيوااااااان!، ثم يبصق على وجهه، فتدخل تهاني على صوت صياح أخيها تربط على كتفه وتهدأ ثورته ثم تخرجه من الغرفة.

 يعود الظل وبصوت غاضب يقول لتهاني:

–         كفى إني أرى ملائكة الرحمة بدأت تلوح في الأفق

–         أختي .. ريهام  دقيقتين فقط.

–         حسنًا أسرعي.

تخرج تهاني وتدخل ريهام ، تغلق باب الغرفة بإحكام وتقترب من السرير بتوجس:

–         أنا ريهام يا حبيبي…، نعم حبيبي… الآن أصرح بها دون خجل، دون خوف من أن تصفعني، لقد حاولت كثيرًا معك، وفي كل مرة كنت تزجرني، تحدثني عن التقاليد و(العيب)، كيف لمبدع مثلك أن تكون له مثل تلك النظرة الضيقة!…، الحب لا يعرف العيب أو الحلال والحرام، كم لفقت الأسباب لآتي لأكون بجوارك… أراك وأنت تكتب، آآآآه… ما أعذب كلماتك!…، كانت تصيبني بالدوار، كنت أشعر بالخدر يسري في جسدي… كانت تأخذني إلى عالم رسم من أجلي وأجلك فقط، ولكنك كنت مكبلاً بمبادئك، وأضعت عمرك وعمري، وأفنيت حبي لك في تقاليد عقيمة، أنت لم تحب تهاني، وهي الأخرى أنانية جامدة المشاعر، لم تكن ترى إلا نفسها وما يسعدها، الآن ترقد جثة هامدة، فهل ستصدني إذا حاولت تقبيلك!…

تقترب منه لتقبله، الظل يتدخل ويجذب تهاني من شعرها إلى داخل الغرفة، فتنسى أمر شعرها -الذي آلمها- عندما رأت شفاه أختها تقترب من شفاه راضي، فصاحت فيها:

–         الله الله، ماذا تفعلين يا (مسهوكة)؟ّ!

تفزع ريهام، فتبتعد عن راضي:

–         أبدًا، كنت أحاول أن أرى عن قرب إن كان في فمه أية أسنان ذهبية، فالبخلاء أمثاله يخبئون أموالهم حيث لا تتوقعين.

–         والله، اخرجي ابحثي بالخارج.

–         حاضر.

تخرج ريهام، فيقوم الظل برفع تهاني إلى سقف الغرفة، ثم يتركها تقع على الأرض، تهاني محاولة النهوض وهي تتوجع:

–         لم فعلت هذا؟

–         يا أغبى مخلوق رأيته في حياتي، ملائكة الرحمة هنا وبدأت تمحو ذنوب زوجك

–         لا تخف… فذنوبه كثيرة، ستسغرق منهم أعوامًا ليمحوها.

تظهر ملائكة العذاب، ويهمون بحمل روحه، فتستمهلهم تهاني بتوسل:

– أمي …. ناقص أمي دقيقة واحدة

– الوقت يداهمنا

– أمي…  وإلا سألغي الاتفاق

ملائكة العذاب وقد طفح الكيل:

–         أسرعي، قاتلك الله.

تخرج تهاني، وتدخل أمها، تتجه مباشرة نحو السرير، عافرت حتى صعدت عليه، ولم يمنعها طعنها في السن قلة الاحتشام، فرفعت ثوبها وأنزلت سروالها، بالت على جسد راضي ثم خرجت.

تدخل تهاني، وملائكة الرحمة تمحو آخر سطر من ذنوب راضي، فيدخل الضياء إلى الغرفة متوجهًا لروح راضي المقيدة إلى السرير، فيقف دونه تهاني والظل وملائكة العذاب ليحجبوه عن راضي، ولتفادي الصراع يتقدم زعيم ملائكة العذاب ليتحدث إليهم:

–         ماذا؟ أستأخذون تلك الروح الشقية؟!

–         نعم

–         ولم، لقد نطق كلمة الكفر صراحة؟

–         لم يكفر، ولم يعني ما قال، لقد كانت تنفيسًا عن غضبه، وكان قلبه عامرًا بالإيمان.

الظل يتدخل:

–         وحياته التي قضاها ناقمًا؟!

–         هي من دفعته ليكون ناقمًا، والله غفور رحيم.

–         كان بخيلاً أيضًا!

–         لم يكن بخيلاً، كانت تسرق ماله، ولم تترك له ما ينفقه، كما أن موقفه النبيل تجاه أختها، وصبره عليها هي وأهلها جعل ميزان حسناته يرجح.

الظل بإسرار:

–         لا، لن أدعكم تأخذونه.

–         تنح يا رجيم!

تهاني باندهاش:

– رجيم!…

ملائكة الرحمة:

–         نعم الشيطان، وكل ما فعله من أجلك كان مساعدة منه كي يدخل هذا المسكين النار، وكل أعوانه من شياطين الأنس والجن  كانت تدفعك كي تتجبري وتتنمري على زوجك، وستتواصل ووسوساتهم لك ولغيرك من النساء كي يدفعكن للجحيم، وليسود البؤس على الأرض.

تهاني لم تزل غير مصدقة وفي حالة زهول:

–         الشيطان….!

الشيطان مدافعًا:

–     لم يكن لي عليها أو على غيرها من سلطان، فالتمرد والتجبر في فطرتهن، أن فقط أساعدهن أنا وأعواني!…

–     الفطرة سوية، ولكنكم أفسدتموها، والآن تنح جانبًا!

يرفض الشيطان التنحي، فتستجمع ملائكة الرحمة قواها، وبنور كلمات الله يتوهج الضياء في الغرفة (يا أيتها النفس المطمئنة…، فيزول عن وجه راضي السواد ويبيض ، ارجعي إلى ربك… فتفك الروح وثاقها، ويتوارى الشيطان، راضية مرضية… فتضع تهاني يدها على عينيها لتتقي النور وتبتعد، فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) فتخضع ملائكة العذاب وتفسح الطريق لملائكة الرحمة التي تأخذ روح راضي وتطير بها…. وينسحب الضياء؛ فتعود العتمة.

تنصرف ملائكة العذاب، خائبة الرجاء، ويبقى في الغرفة تهاني والشيطان.

الشيطان مؤنبًا تهاني التي جلست على الأرض مذهولة مصدومة غير مصدقة ما حدث:

–     أسعيدة أنت الآن؟! إن أسوأ كوابيسك قد تحقق، أيتها العنيدة، كان عليك أن تتركيه عندما مات؟ ماذا  تريدين؟!…  أن تطالي السماء، هأ أفيقي! إن قدمك على الأرض، تحملين قبسًا من روح الإله، لكن نفسك الشهوانية تدنو بك إلى مرتبة الحيوان؛ فتوردك موارد الهلاك، بما تتميزين عن سائر المخلوقات؟ بالعقل، لقد تفننتم في تغيبه، أفكاركم العصية على الزوال، كلها أفسدت الأرض، وقد ضجت بكم، يا حووووواء!  تحملين المتناقضات كلها داخلك:  تحملين نور المعرفة وعتمة الجهل، تحملين دنو الحيوان وسمو الملائكة، ترنين إلى الكمال وفي طبيعتك النقص، تبحثين عن النهار المضيء ويضل سعيك عند الغسق، تخلقن الحب في قلوب الرجال، وتقتلنه،  تجعلن الرجال يقبلون على الدنيا ثم يزهدون فيها، تحملن الحياة في أرحامكن، وتقتلن الأمل في المستقبل، تبحثن عن الحب والهيام، ويسلب عقولكن بريق الذهب، كنتن أشد أعواني وطأة على الرجال،  فطبيعتك تشبه طبيعتي فأنت مثلي تملكين  الذكاء والخفة والطيش وسرعة الإحراق، آااااه.. يا أيها التناقض الذي تصور وتشكل واكتمل وأصبح امرأة، أبشرك بالتعاسة الأبدية، فالرضا كلمة لا توجد في قاموس حواء.

 والآن أتركك مع الحسرة فيما بقي من حياتك البائسة، ولكي أزيد شقاءك؛ سأريك الآن مشهدًا لن يفارق خيالك التعيس، انظري إلى موضع راضي في الجنة والحورية التي بانتظاره، لكي  تعلمي أن  في كل لحظة عذاب وألم تعانينه، يتنعم بها راضي ويفرح.

يخرج الشيطان وتتبعه نوال وهدى و……..و …… و …و……و……..و…………….

تناديه نوال:

–         مستر شيطان….! مسيو لوسيفر! لا تيأس سنحاول مع امرأة أخرى، النسوية يجب أن تنتصر. هيا يا هدى أسرعي!

لا يلتفت لها إبليس ويمضي في طريقه، فتهرول خلفه ويتبعها حشد النساء الرافعات شعار النسوية… كي يثنينه عن الرحيل

تمت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى