الطب الوقائي في الإسلام.. كورونا وأخواتها

د. عادل المراغي | الأزهر الشريف

 

لقد حرصت الشريعة الإسلامية وكل الشرائع السماوية على حفظ النفس البشرية، وتعد المحافظة على صحة الإنسان الضرورات الخمس لأنها تفضي إلى حفظ النفس، بل إن صحة الإنسان مقدمة على سلامة الأديان، ومقدمة على العمران.

والصحة من نعم الله التي يغفل عنها كثير من الناس (نِعمتانِ مَغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ الصِّحةُ والفراغُ). رواه البخاري؛ فلا مال إلا بالصحة ولا علم إلا بالصحة ولا نهضة عمرانية إلا بالصحة، ولا جهاد إلا بالصحة، فالصحة رأس مال الإنسان (سَلوا اللهَ العفوَ والعافيةَ، فإنَّ أحدًا لم يُعطَ بعدَ اليقينِ خيرًا منَ العافيةِ).  أخرجه السيوطي في الجامع الصغير.

ولأجل صحة الإنسان نجد أن الإسلام رخص في إفطار الصائم الحامل، والمرضع، والشيخ الكبير والمسافر، كما رخص في التيمم لمن عجز عن استعمال الماء لمرض أو برد صيانة لصحته، كذلك نجد أن الإسلام أباح أكل الميتة للمضطر الذي أشرف على الهلاك، كما أباح للمحرم أن يحلق رأسه إذا طرأ عليه مرض أو أذى في رأسه (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ). (سورة البقرة أية 196). وهذا النوع من الحمية وحفظ النفس يسمى بالطب الوقائي وهو نوع من أنواع الطب يهدف إلى منع الأمراض قبل حدوثها، والتدخل السريع لمنع انتشار الأوبئة إذا ظهرت من خلال التدابير الوقائية والإجراءات الاحترازية، والحجر الصحي.

ولعل الدين الإسلامي صاحب قصب السبق في الإجراءات الاحترازية والوقائية حينما جعل النظافة جزءا لا يتجزأ من العقيدة، فالنظافة شطر الإيمان ولا يصح اسلام الكافر إلا بعد الاغتسال والتطهر، كما شرع الإسلام الغسل من الجنابة والحيض وغسل الجمعة والعيدين وغسل الميت ،وحث علي الوضوء لكل صلاة وغسل الأيدي قبل الأكل وبعده والوضوء قبل النوم ،كما حث اتباعه على المضمضة والسواك ونظافة الشعر والثياب، والأفنية والطرقات والمساجد وشرع سنن الفطرة، فعَنْ عائِشة رضيَ اللَّه عنْهَا قَالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: عَشرٌ مِنَ الفِطرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ، وإِعفَاءُ اللِّحْيَةِ، وَالسِّوَاكُ، واسْتِنشَاقُ الماءِ، وقَصُّ الأَظفَارِ، وغَسلُ البَرَاجِمِ، وَنَتفُ الإِبطِ، وَحلقُ العانَة، وانتِقاصُ المَاءِ قَالَ الرَّاوي: ونسِيتُ العاشِرة إِلاَّ أَن تَكون المَضمضَةُ، قالَ وَكيعٌ وَهُوَ أَحَدُ روَاتِهِ: انتِقَاصُ الماءِ، يَعني: الاسْتِنْجاءَ. رَواهُ مُسلِمٌ

ومن آيات الوقاية فى القرآن الكريم قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ). سورة البقرة آية (222)

كما حث الإسلام على عدم ايذاء الناس بقضاء الحاجة في قوارع الطرقات والمنتزهات وأماكن السباحة والماء الجاري، فقد روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الملاعن الثلاث، قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: أن يقعد أحدكم في ظل يُسْتَظلُّ به أو في طريق أو في نقع ماء).

وعند أبي داود عن معاذ مرفوعا بلفظ: اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل) وهذا الحديث يتضمن النهي عن قضاء الحاجة في الأماكن التي يرتادها الناس ويترددون عليها، كالظل والطريق ومكان وجود الماء ونحو ذلك، كالحدائق العامة والأسواق. ومعنى “الملاعن” جمع ملعنة، وهي الفعلة التي تكون سببا للعن صاحبها، أي التي تجلب على فاعلها اللعنة. ومن اللافت للنظر أن من أوائل ما نزل من سور القرآن الكريم سورة المدثر وفيها الحث على نظافة الثوب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}

ومن منهج الإسلام في الوقاية من الأمراض أنه حرم كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير، وحرم لحم الخنزير وشرب الخمر، كما حث اتباعه على إغلاق الأبواب واطفاء المدافئ، والمصابيح بالليل وتغطية الأواني (أغلِقوا الأبوابَ وأوْكوا السِّقاءَ وخمِّروا الإناءَ وأطفِئوا المصباحَ فإنَّ الشَّيطانَ لا يفتَحُ غَلَقًا ولا يحُلُّ وِكاءً ولا يكشِفُ إناءً وإنَّ الفُوَيْسقةَ (أي الفأرة) تُضرِمُ على النَّاسِ بيتَهم) أخرجه ابن حبان.

ومن منهج الإسلام في الوقاية من الأمراض أنه حث على عدم ملئ البطن بالطعام، فعن المقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه” (الترمذي وقال: حسن صحيح).

 قال ابن رجب (وهذا الحديث أصل جامع لأصول الطب كلها، وقد روى أن ابن أبي ماسويه الطبيب لما قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة قال: لو استعمل الناس هذه الكلمات لسلموا من الأمراض والأسقام ولتعطلت دكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا لأن أصل كل داء التخم، فهذا من منافع قلة الغذاء وترك التملوء من الطعام بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته).

كما نهي الاسلام عن البول في الماء الراكد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه .ولمسلم: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب.)

وقد ثبت حديثاً أن كثيراً من الأمراض المعدية تنتقل بسبب التبول في الماء كالكوليرا، التيفود، البلهارسيا، الالتهاب الكبدي وشلل الأطفال.

ولم يقتصر دور الإسلام في الطب الوقائي على الوقاية فقط بل دعا إلى العلاج والبحث عنه مهما كان المرض، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) رواه البخاري.

وعن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: (يا رسول الله أنتداوي؟ فقال: نعم يا عباد الله تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد. قالوا ما هو؟ قال: الهرم) أخرجه أحمد في المسند وابن ماجه وأبو داود والترمذي وإسناده صحيح وصححه ابن حبان. وفي لفظ (إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله) أخرجه أحمد.

ومن الجوانب الوقائية التي شرعها الإسلام ما يعرف الآن بالحجر الصحي بل أول من وضع الحجر الصحي هو النبي صلى الله عليه وسلّم ثم عمر بن الخطاب، فعبد الله ابن عَبَّاسٍ-أن عمر رضى الله عنه، خَرَجَ غَازِيًا، وَخَرَجَ مَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَوْعَبَ النَّاسَ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِسَرْغَ، لقيه أمراء الأجناد: ابو عبيده ابن الْجَرَّاحِ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الأَرْضَ سَقِيمَةٌ، فَقَالَ عُمَرُ: اجْمَعْ إِلَيَّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ، قَالَ: فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: خَرَجْتَ لِوَجْهٍ تُرِيدُ فِيهِ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ، وَلا نَرَى أَنْ يَصُدَّكَ عَنْهُ بَلاءٌ عَرَضَ لَكَ وَمِنْهُمُ الْقَائِلُ: إِنَّهُ لَبَلاءٌ وَفَنَاءٌ مَا نَرَى أَنْ تَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ: قُومُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اجْمَعْ لِي مُهَاجِرَةَ الأَنْصَارِ، فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا طَرِيقَ الْمُهَاجِرِينَ، فَكَأَنَّمَا سَمِعُوا مَا قَالُوا فَقَالُوا مِثْلَهُ فَلَمَّا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ: قُومُوا عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: اجْمَعْ لِي مُهَاجِرَةَ الْفَتْحِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَمَعْتُهُمْ لَهُ، فاستشارهم فلم يختلف عليه مِنْهُمُ اثْنَانِ، وَقَالُوا: ارْجِعْ بِالنَّاسِ، فَإِنَّهُ بَلاءٌ وفناء قال: فقال لي عمر: يا بن عَبَّاسٍ، اصْرُخْ فِي النَّاسِ فَقُلْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظُهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ قَالَ: فَأَصَبْحَ عُمَرُ عَلَى ظُهْرٍ، وَأَصْبَحَ النَّاسُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي رَاجِعٌ فَارْجِعُوا، فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! قَالَ: نَعَمْ فِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلا هَبَطَ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحْدَاهُمَا خَصْبَةٌ وَالأُخْرَى جَدْبَةٌ، أَلَيْسَ يَرْعَى مَنْ رَعَى الْجَدْبَةَ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَيَرْعَى مَنْ رَعَى الْخَصْبَةِ بِقَدَرِ اللَّهِ! ثُمَّ قَالَ: لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ! ثُمَّ خَلا بِهِ بِنَاحِيَةٍ دُونَ النَّاسِ، فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَتَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- وَكَانَ مُتَخَلِّفًا عَنِ النَّاسِ لَمْ يَشْهَدْهُمْ بِالأَمْسِ- فَقَالَ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ، فَقَالَ: عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ، فَقَالَ: عُمَرُ: فَأَنْتَ عِنْدَنَا الأَمِينُ الْمُصَدَّقُ، فَمَاذَا عِنْدَكَ؟

 وهذا التطبيق العملي يعد أول تطبيق عملي للحجر الصحي في التاريخ، وهو مأخوذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم “اتقوا المجذوم كما يتقى الأسد” أخرجه ابن خزيمة في كتاب التوكل عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: “لا عدوى، وإذا رأيت المجذوم ففر منه كما تفر من الأسد”، وأخرج معناه مسلم في الصحيح في آخر أبواب الطب من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: “إنا قد بايعناك فارجع”.وقد كانت العرب (تقول من القرف التلف) أي من المقارفة أي الملامسة التلف أي العدوى. وأكد الإسلام أن الفار من الطاعون والأوبئة المعدية من أكبر الكبائر؛ فقد جاء في الحديث: (الفارُّ منَ الطاعونِ كالفارِّ منَ الزحفِ، والصابرُ فيهِ كالصابرِ في الزحفِ) أخرجه السيوطي. ومعلوم أن الفرار من الزحف في الجهاد في سبيل الله من السبع الموبقات المهلكات، وهي من أمهات الكبائر.  وينطبق هذا الوضع على الإجراءات الاحترازية لعدوي كورونا، فنهي الإسلام عن العطس في وجوه الناس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس غطى وجهه بكمه أو طرف ثوبه.

وأخيراً فإن مراحل الطب الوقائي في الإسلام تتخلص في ست مراحل هي:

– المرحلة الأولى: الاهتمام بصحة الانسان ونظافته

– المرحلة الثانية: الاهتمام بمنع انتشار الأمراض المعدية بالحجر الصحي والعزل للمريض

 – المرحلة الثالثة: الاهتمام بالتغذية بإباحة الطيبات وتحريم الخبائث

– المرحلة الرابعة: الاهتمام بالصحة الجنسية بتحريم الزنا واللواط. وتحريم إتيان النساء في المحيض أو الأدبار والغسل بعد الجماع

– المرحلة الخامسة: العناية بالصحة النفسية والمشاعر والأحاسيس بتحريم ايذاء المشاعر وكسر الخواطر. واليأس والقنوط

– المرحلة السادسة: اهتم بالرياضات النافعة كالمصارعة، والسباحة، والرمي، وركوب الخيل، والجري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى