موت الروائي.. نص مسرحي تجريبي

مازن دويكات | فلسطين

 

إلى روح الروائي الراحل : عزت الغزاوي

نص مسرحي تجريبي  تم فيه اعتماد الكولاج النصّي على غرارالكولاج التشكيلي لعلّ النصوص الروائية للراحل عزت الغزاوي في اندماجها وتلاحمها مع نصوص أخرى لمبدعين عرب وعالميين تمنح هذه التجربة قبولاً على الرغم من تعدّد الذوائق واختلافها.

المكان: رقعة صغيرة تكفي لوقوف البطل بفضاء ممتد يحتمل الشخوص المستحضرة. الزمان: حقيقي، يمتد من عام 1951، وينتهي في نيسان من عام 2003 وخلال هذه الفترة تستحضر أزمنة متعددة لشخوصه الروائية. 

المشهد الأول

عزت: مهيب هذا المكان، كأنه نهاية تتلاشى بعدها كل ماديتك وفيزياء جسمك ” يجثو على ركبتيه ” كيف أجثو وأنا بحاجة للوقوف. أمامي من المسير ما يطفئ عمرين، وأنا لي عمر واحد، كم من النبض يلزمني كي أصل، كأني الشمس في دورتها الأخيرة قبل هبوطها المذبوح الملتاع ” عزف منفرد على العود بمحاولة لتعميق الحدث وفهمه بدلالات متعددة، ” بعد ذلك ينهض على قدميه بهمة واضحة “.

لكن الطريق إلى “قاقون ” طويلة، تحس ذلك باشتعال الانفجار الأخير قبل ثلاث سنين من تشكيل جنينك في بطن أمك. هم خرجوا مشياً على الأقدام حفاة عُراة. وأنت ما زلت في هجرتك المستمرة في طرقات الذاكرة الوعرة. ( عزف منفرد على العود يصاحبه أصوات رحيل منطفئة، واتقاءً لضجيج الذاكرة، يضع عزت يديه على أذنيه)

ينسل إليك الليل مع كل نزول حتى تتلاشى الرؤية. لكن، لماذا تعود إلى قاقون، بعد أن تشكلت في دير الغصون، من هنا تطل على لحظة أبدية طالما اشتهيتها. خزنتها بقلبك ولم تستطع وصفها.

“صوت من خارج المسرح “.

الصوت: لا تنتظر أن ينزل إليك من السماء الملاك، يمسح روحك باسفنجة مبلولة، وعينيك بمرهم السحر وأنت غافل هكذا، تحاول أن تتجاذب قوة خارقة، قوة مهتاجة كالتي بداخلك.

عزت: لكنها لحظة قريبة من الروح، تخيلتها مع أول الشروق البكر، وإمداء من صفاء مجنون ترفض الحزن، تريد الرسوخ الكلي في الأشياء التي تمنحك الصفاء المطلق، كي ترى ما لا يرى هناك في غربك الجريح.

(( موسيقى حالمة، تساعد على الإصغاء لشريط الذاكرة الذي يبث مشاهداً للمكان المفقود المتخيل )).

صوت حلمي لعزت من خارج المسرح: تلك هي وراء الهضبة، إلى الغرب بأضوائها الخافتة المتناثرة، لا رغبة لدي في العودة ماشياً، أين بيتنا من هذا الركام البعيد؟ المهم أنه هناك قائم بحجارته المتداعية التي حاول أبي أن يسندها بالاسمنت، بدأ بالصفوف العليا ولم يمهله الوقت، فلم يكمل ما تحتها، بدت الصفوف السفلى رغم ضخامتها ناتئة، تزداد نتوءاً بعد كل شتاء، تعلوها النباتات مع الربيع وحين تقضمها الماشية تفقد شيئاً من الطين ” عزف عود يصاحبه ناي حزين”.

عزت: كل الفصول تنام في ثمري لينضجْ

يا أيها الولد الذي في جثتي أخرجْ

والحقْ ظباءك في الحقولْ”

ينهار يجلس على ركبتيه، يتداخل عزف العود مع عزف الناي الذبيح “

المشهد الثاني

عزت جالسٌ على مكتبه يحاول الكتابة، بضع كتب ومراجع على المكتب”.

صوت عزت من خارج المسرح: أتبحث عن الأمان في الكتابة؟ يا للغرابة! أنت هنا في وطنك بلا وطن، في بيتك ولا بيت لك، ألهذا أصبحت روائياً، لتنحت لك وطناً من صخور اللغة، لماذا حملت هذا الهم؟

عزت: ” يقرأ ما يكتبه على الورق “. لمْ أنهِ بعد روايتي. لي أن أمدَّ فراشها في الشرفتين. ومن هنا كشفت مفاتنها اللغة. وهناك غامضها تعري في البياض. سدى أحاولْ، ينبغي أن أبلغه. وأحاورَ الأشجار أن تلقي عليَّ ظلالها. وجذورها في الأخمصين. كأنني شجر الحديقة في الممر وأحاور الأزهار أن تسقي الفضاء رذاذها.

هذا إذن مطر الحقيقة في الترابين استقرْ

وأنا المضاء بعتمة الدنيا وضوء الآخرة

لا شيء في روحي معافى

غير رعشتها وعشب الذاكرة

” بعد أن ينهي جملته الأخيرة، يترك القلم جانباً، ينهض عن المكتب، يروح ويجيء كمن يفكر في شيء”.

صوت عزت من خارج المسرح: اهدأ أيها الفتى الكهل. لا تذهب إلى الكتابة كما يذهب الآخرون إلى الرقص، كما يذهب الكثيرون إلى النساء، أو كما يذهب الأغبياء إلى حتفهم! أتنازل الموت في الكتابة؟ أم تحتمي من الموت بالقلم؟

عزت: يا إلهي. غرفتي كالحصن مغلقة. وكالزنزانة انطبقت عليّ. فأي عاصفة أتت بالثلج، أيُ ثعالب قطبية دخلت مبللة الفراء عليّ، أوقفتني في الحلم بين ما كنته في مسقط الروح وبين ما سأكون في العدم الآتي ” يصمت فجأة. يرى شبحاً قادماً من بعيد، يطيل النظر في الشبح القادم، حتى يقترب والشبح هو في الحقيقة أيوب عبد المعطي بطل رواية ” الحلاج يأتي في الليل “.

أيوب: لا تحدق بي هكذا، لا أصدق أنك لا تعرفني؟

عزت: ” بعد أن يشيح وجهه عن أيوب ” المأساة أنني أعرفك، ولكن أمن حقك أن تتبعني إلى هنا، أرجوك أن تعود إلى تابوتك الورقي.

أيوب: أنا لا أعرف أن الكاتب يعمل في مؤسسة الموتى صانع توابيت، أعرف أنه يجعل من العدم بشراً يتحركون ويلهثون في مضمار اللغة، وأنت نجحت في هذا نجاحاً مدهشاً، لماذا تهرب مني وأنت من أخرجني من ركام الأبجدية؟

عزت: وأنا أُهيئ لخروجك من حقول البياض، قلت، في الانكسارات المريرة لا يهرب الكاتب إلى زمن انتصارات رائعة، وإنما إلى لغة قد توحي بأن الحقيقة نائمة فقط.

أيوب: أفهم من كلامك، كأني وزملائي الشخوص مجرد حقيقة نائمة في نصوصك الروائية، ومهمتك أن توقظها فقط.

عزت: ” كأنه يخاطب نفسه ” جميلٌ أن يفهمك القادمون من حقول البياض في عربات اللغة.

أيوب: وهذا هو انتصارك يا سيدي ” يقولها وهو يشير بإصبعه على عزت، ثم ينسحب عن المسرح”.

عزت: هذا هو أيوب عبد المعطي، يظل صامداً كالطود، لكنه حين يعرف الحقيقة ينسحب إلى الذاكرة كنسمة صيف، يترك المساحة للقادمين الجدد، وقد فعلها من قبل أمام الحسين بن منصور الحلاّج القادم في الليل ليصلب من جديد ” ينسحب عن المسرح بمرافقة عزف منفرد على العود يلائم الحدث “.

المشهد الثالث

المسرح معتم تماماً، دائرة ضوئية ترصد جسد عزت الغارق في قراءة كتاب أسطورة الحلاج.

عزت: إن استشهاد الحلاج درة من الجمال المحرم، يجب إخفاؤها وليس زاد خلود يوزع على الجميع، فعندما صلب الحلاج، أخذ المجتمعون يرجمونه بالحجارة وهو يضحك غير مبال برجمهم، عند ذلك تقدم الشبلي ورماه بوردة، فإذا بالحسين يتأوه قائلاً:

– آه يا سيدي، قتلتني وآلمتني.

فقال الشلبي متعجباً:

– يا حسين رجموك بالحجارة، فما قلت آه، وألقيت عليك وردة فتألمت منها!.

فأجابه:

– يا سيدي، أما علمت أن جفاء الحبيب شديد!

عزت: بعد أن يزيح كتاب أسطورة الحلاج جانباً.

القصة تذكر أن رامي الوردة هو الجنيد، هذا غير معقول لأن الجنيد كره الحلاج وجافاه منذ البداية وقد توفي سنة 298 على حين صلب الحلاج سنة 301 وصلب مرة أخرى قبل قتله سنة 309، فلا يصدق القول على أي منهما، وبالمقارنة مع المراجع نجد أن رامي الوردة هو الشبلي.

صوت من خارج المسرح: أما أنت فجعلت من يرمي الوردة صديق الحلاج عباس الأزبكي.

عزت: تذكَرْ ، أنا لست مؤرخاً، أنا روائي، أبحث عن الفن وليس عن المعلومة التاريخية، لذلك وجدت أن عباس الأزبكي يغني الحدث درامياً أكثر من الشبلي والجنيد على اعتبار الأزبكي منحازاً للعاديين، ومنخرطاً في جموعهم أكثر.

الصوت: هل هذا من حقك؟ أم من حق أيوب عبد المعطي.

عزت “ضاحكاً”: لماذا نسيت صاحب الرواية الأول، أقصد الشيخ عبد المعطي.

الصوت: إنها يا سيدي لعبتك الروائية، كثيراً ما تدخل القارئ في لعبة التداخل الروائي، والتناسل النصي، وهذا ما فعلته أيضاً بعبد الله التلالي.

عزت: سميه هروباً أو تكاءً على الآخر.

( موسيقى متبادلة بين أنغام عود هادئة وأنين ناي مبحوح متواصل حتى نهاية المشهد )

الصوت: لا، أنت لست ذا ولا ذا، إنه مسكون بالورق الخالي من الخطوط، وفي هذا البياض الممتد ثمة مسافات لا يملأها إلا رمل حروفك وماء حبرك، وها نحن، نزور أمكنتك المدهشة ملفعين بما تحمل الأيام.

عزت: أنا حائر دون دليل، أهذا ما أردت من حياتي، ثمة شيء تحتنا وفوقنا أسمه السكون، ثمة شيء فوقنا هو العلو، كل ما يطير سيطوي جناحيه ذات لحظة، نعم سيطوي جناحيه” لماذا إذاً لا نتعلم حكمة النوم؟!.

الصوت: لأن الجناح ما زال قوياً كشراع القارب، احذر الريح أيها الجناح، احذر أن يبهرك النور وتنسى لغة الطير في العاصفة.

المشهد الرابع

عزت: رام الله تشبه كل الأمكنة في وطن نراه ولا يرانا نرحل إليه مرة ثم يرحل إلينا كل العمر. نزوره في النوم واليقطة، نعرف ما هو ولا نعرف عنه شيئاً، هو كل ما هو من نقطة الصفر إلى دفق الحياة، ونحن ما حوله عابرون إليه كغيمة دون مطر. في منتصف المكان جدار متصدع، بقدرة يحتمل ثقل قميصٍ لفتى اخترق بياضه الرصاص، دائرة من الدم استقرت على صدر القميص.

وعزت يذرع المكان كنص روائي ينفلت من الذاكرة.

عزت: ( مخاطباً القميص المعلق ) ماذا تفعل يا فتى حين تذهب من المدرسة؟ يعاتبني صمتك المليء بالأسى، أتأمل عينيك الشاحبتين، ماذا أقول؟

صوت عزت من خارج المسرح وعزت أمام القميص متأملاً:

– كان يقترب مني ويضع يده على رأسي ثم على جبيني، لم تكن الحمى، بل الشعور بوجع الأبوة.

عزت: أنا هنا، هل اشتقت، ماذا أفعل وجسدي ما زال يتوسل القرب من ترابك. هل تسمع دعائي في عتمات الليل حين تسكت المدينة، وتغمض الحارات على ليلها. المدينة ساهية تتنفس رطوبة الفجر، أدور في الطرقات لأبحث عن شيء أو أحد، لكنني اشتقت إلى أمي. 

( موسيقى ترافق صوت عزت من خارج المسرح )

الصوت: يطول الفراق بيننا، لكنك في الدروب الطويلة تهبطين بالنور وتغسلين لهفتي ماذا لو أجدك الآن على مفترق جديد.

أعود أنا للطفولة، وتعودين أنت إلى الأمومة على هيئة معجزة تجمع اثنين، فتى قتيل ووالد ملتاع. ” يتلمس بيديه القميص الأبيض الدامي، يحضنه إلى صدره “. إنه فتاي الذاهب بعيداً:

هذا قميصك أيها الولد الجميلْ

لا شيء ينقصه سوى الجسد النحيلْ

ضعي يدك على كتفي قليلاً، لمسة واحدة حتى أستطيع الصعود.

صوت من خارج المسرح: لا ظلال للحارات والأزقة، فقط تلمع في شاهق السماء محتفية بنورها لكنها لا تعطيه لما تحتها، احتجاجاً على جرائم القتلة الآتين من بعيد، كيف يتسرب ضوء النجمة ودخان الحقد الأٍسود يحتل الأزرق؟

عزت: هي أمي وأنا أفتقدك يا صغيري، هل كبرت كثيراً عطشت بعد رحلتك، يا أمُّ، النهر أمامي بما فيه من ماء، إنه عطش آخر، أنه الشعور بالوقوف وسط المسافة قولي لي ماذا نفعل حين نرى أنفسنا غير قادرين على الخطو؟

صوت: نستريح قليلاً علَّ الخطوَ يطاوعنا.

عزت: لا، ليت الأمر كذلك، إنما تختلط الجهات ولا نستطيع أن نمشيها، إن واحداً لا يستطيع مغامرة كهذه.

صوت: وبعد؟!

عزت: مشيراً على القميص المعلق ” إني الآن أستعجل السفر، إنه يناديني كي نتحد .

” يقع عزت على المسرح مفارقاً الحياة “

موسيقى تتلاءم مع حادث الفقد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى