فتوى عن الصيام في القطب الشمالي

الدكتور خضر محجز | مفكِّر فلسطيني

عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، في حديث طويل عن الدجال، أنه سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: “قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال «أربعون يومًا: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة. وسائر أيامه كأيامكم». قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: «لا، اقدروا له قدره»” (صحيح مسلم).

هذا الحديث يتكلم في مشروعية تقدير الأوقات، حين يتعذر تحديدها بدقة.

أستفتح به بين يدي سؤال أبنائنا في الغرب عن الصيام في القطب: يقولون: في بعض السنوات يكون النهار في القطب أكثر من عشرين ساعة، ويصادف ذلك أن يكون في رمضان. فهل علينا أن نصوم عشرين ساعة؟

 

أقول بإذن الله:

إن قلنا إن عليهم أن يلتزموا بصيام النهار، ما كانت الشمس طالعة؛ فإنما نفتي بالسهل علينا، الصعب على الناس ـ وهو عكس ما كان يفعل علماء السلف المرضيون – رحمهم الله ـ وسيكون معنى فتوانا عندئذ أن الإسلام لم يعد ـ على أيدينا معاذ الله ـ دين يسر، يقدم جواباً شافياً لأناس مختلفين عنا؛ فننفي بذلك ـ عملياً ـ صلاحية الشريعة لكل البشرية.

لهذا أقول: بما أن هذه البلاد يصادف فيها رمضان نهارات لا تتعدى ست ساعات؛ وبعضها يصادف نهارات طولها يزيد على عشرين ساعة؛ فإن ذلك يقضي بأن ترد الفتوى على سؤال يتناول حالة غير طبيعية، توجد في بلاد لا تشبه البلاد التي نزل فيها الوحي، بل لا تشبه أياً من البلاد الأخرى.

وبما أن الإسلام الذي نزل في مكة ـ ذات النهار المعتدل ـ إنما نزل لكل البلاد التي تشبه مكة والتي لا تشبهها، فكان مقتضى ذلك حتماً وجود حكم مختلف جذرياً، لبلاد مختلفة جذرياً.

وعلى هذا فالمفتي أمام خيارين، عليه أن يختار واحداً منهما ولا بد:

1ـ فإما أن يُلحق نهار هذه البلاد القطبية، بنهار أقرب بلد غير قطبي، ويطلب من المسلمين في القطب أن يصوموا بصيامه، وقد يصادف أن يكون ثماني عشرة ساعة مثلاً، فيصومون بصيام بلاد لا فضل لها سوى القرب الجغرافي.

2ـ وإما أن يبحث المفتي عن بلاد نهارها معتدل بالتأكيد، وصام فيها الناس بالتأكيد، على زمن رسول الله بالتأكيد، وصام بصيامهم الناس بعد مراعاة فروق التوقيت بالتأكيد، فيلحق نهار هذه البلاد القطبية، بنهار تلك البلاد، مع إسقاط فروق التوقيت، لاستحالتها.

فلدينا ههنا إذن صورتان بارزتان للصيام، لا خلاف حول أي منهما:

أ: صيام مكة والمدينة زمن التنزيل.

ب: ومراعاة فروق التوقيت بينهما زمن التنزيل.

فما حاجتنا لافتراض الاعتدال فنشترطه لنقيس عليه، وهو ليس منصوصاً عليه في الكتاب أو السنة، مع أن تعريفه ـ تعريفاً جامعاً مانعاً ـ مستحيل، لأنه لا يستند إلى دليل مقبول؟

وبما أنه لم يوجد لدينا من زمن التنزيل، أناس يعيشون في القطب، ثم وُجدوا الآن، فإن علينا ـ حتماً ـ أن نأمرهم بالصيام، تنفيذاً لأمر الله. فكيف يصومون؟

دعونا نتأمل قليلاً هذه الأسئلة ونحاول الإجابة عليها:

ألم يصم المسلمون بصيام رسول الله في المدينة المنورة، حين تم فرض الصيام في العام الثاني للهجرة؟ والجواب: بلى.

ثم ألم يصم الناس في زمن الصحابة في بلاد بعيدة ـ كأذربيجان ـ بميقات أذربيجان، فراعوا فروق التوقيت، ولم يختلفوا عليها؟ والجواب كذلك هو: بلى.

إذن فأذربيجان البعيدة صام فيها الصحابة بميقات مختلف. وهذا يشبه في قياسهم إياه اختلاف صيام إخوانهم في مكة عن صيام أهل المدينة، زمن رسول الله.

والآن هل على أبنائنا هناك أن يصوموا في بلاد القطب بميقات بلاد القطب، عشرين ساعة أو أكثر؟

والجواب بالتأكيد: لا.

فكيف يصومون إذن؟

دعونا نقر بصعوبة السؤال، وصعوبة إجابته، لكن كذلك دعونا نتذكر بأنه لا بد من إجابة، لأن الإسلام ملزم بتقديم إجابة لمواقيت العبادات في كل مكان، وإلا لما كان صالحاً لكل زمان ومكان.

فكيف نجد الإجابة؟ وإن لم نجدها صريحة، فكيف نقاربها، خصوصاً وقد علمنا بوجود مناطق في بلاد القطب لا ليل فيها البتة، ويظل الصيام فيها واجباً.

لقد سقطت مشروعية قياس صيام أهل القطب على صيام الصحابة في أذربيجان، لأن صيامهم هناك لا يصل إلى عشرين ساعة، أو أكثر. وبقي قياسه على اختلاف ميقات صيام الرسول والصحابة بالمدينة، عن صيام أهل مكة بعد الفتح، في حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم -. فبهذا تبقى لنا ميقات موروث من زمن النبوة، يراعي الفروق في المواقيت.

فأبناؤنا في القطب لديهم سابقة من صيام يراعي اختلاف المواقيت، في زمن رسول الله، يسميه الأصوليون الأصل.

وحيث كان أي صيام في بلاد القطب ناتجاً عن القياس، فالأولى أن نقيسه على بلاد يمكن اعتبارها أصلاً في غياب أي أصل.

ولأن مكة قبلة المسلمين في الصلاة، فإن هذا هو ما يشجعنا على اختيارها ميقاتاً نموذجياً لمن لا ميقات له.

وهكذا نفتي بعد التوكل على الله بالآتي:

المسلمون في القطب، الذين يجدون مشقة غير عادية في الصيام (دعونا نقدر عشرين ساعة فما فوق، وهو تقدير تقريبي غير ملزم) يمكنهم أن يصوموا ويفطروا بصيام مكة وإفطارها.

 

أما الذين يفتون بالصيام وفقاً لصيام تركيا، فهم يمنحون تركيا قداسة غير متوفرة.

لقد اخترنا بلداً مقدساً صُمنا بصيامه، إذ تعذر علينا إيجاد ضابط يضبط اختلاف الميقات: وبذا نكون قد ضبطنا قياسنا على أصل شهد زمن القداسة، نرجو أن يكون هو الأقرب للاتباع، وإلا فلا مكان آخر يمكن له أن يجمعنا.

وفي كل الحالات سيكون المسلم في بلاد القطب شاعراً بشيء من الحرج حين يفطر والشمس طالعة أمام عينيه، لمجرد انها غابت في تركيا مثلاً، وسيقول له قلبه: “وما تركيا؟”.

أما إن شعر قلبه بأنه الآن يفطر بإفطار أم القرى، فلن يسأله قلبه: “وما أم القرى؟”. وبذا يكون حرجه أقل، إن شاء الله.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

ملاحظتان:

1ـ ينطبق هذا كذلك على الصيام في السنوات التي يصادف فيها نهار رمضان 6 ساعات فقط، بمعنى أنه سيصومون حسب توقيت أم القرى.

2ـ لقد قيل لي إن الشيخ عمر عبد الكافي قال كلاما يشبه هذا، ثم تراجع عنه بعد ضغط المتخلفين. وإني لأظنه خاطئاً بهذا التراجع، وأستغفر الله له.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى