في تأمّل التجربة الشعريّة.. القرآن الكريم وسؤال الكتابة الأصعب

فراس عمر حج محمد | فلسطين

باعتقادي أنّ العرب- ومنهم الشعراء- لم يفهموا رسالة القرآن الإبداعيّة، فقد وقفوا مبهورين أمام الظاهرة القرآنيّة، دون أن تدفعهم إلى تأمّلها بالكليّة، لتجد شاعراً مثل لبيد بن ربيعة يترك الشعر لصالح القرآن، ما يعني نوعاً من الهزيمة الإبداعيّة، وعموماً؛ هذا الذهول بالقرآن وبلاغته لم يستمرّ طويلاً، فلم يستطع الشعراء الخروج على نمط القصيدة القديمة على الرغم من أنّ القرآن فيه الجمل والآيات الموزونة والاستعارات والتشبيهات وكلّ فنون البديع؛ اللفظي والمعنوي التي سيعرفها العرب لاحقاً، وتصبح منهجاً عند أبي تمّام- مثلاً- زعيم مدرسة الصنعة الشعريّة، أو عند كتّاب النثر بنوعيه المسجوع والمترسّل.

لقد أسّس القرآن لمنهج أدبيّ خاصّ به، وصنع “أدبيّته” المميّزة التي جعلته متميّزاً عن شعر العرب، ونثرهم، بدءاً من التركيب الكليّ والجزئي، وانتهاءً بالإيقاع؛ بوصفه إطاراً أشمل لموسيقيّة النصّ القرآنيّ غير المحصورة بالوزن الشعريّ المحدّد بتفاعيل مرتّبة على نحو رياضيّ في البيت والقصيدة، حتّى أصبح القرآن الكريم نصّاً لا شعريّاً خالصاً، ولا نثريّاً خالصاً، وإنّما هو نصّ قرآنيّ متميّز وخاصّ، أيّ حرف يدخل فيه يفسده، وكلّ حرف يخرج منه ينقصه، كتابٌ كامل في مبناه ومعناه بطريقة معجزة، تجعله عصيّاً على التكرار أو الكتابة على منواله؛ قرآناً آخر، فهو الكتابُ المكتفي بذاته.

هذه الظاهرة تحتاج إلى دراسة شاملة، أذكر أنّ سيّد قطب، درس الصورة في القرآن تحت عنوان “التصوير الفنّي في القرآن”، وتناول أدونيس شيئاً من “أدبيّة” القرآن في كتابيه “الشعريّة العربيّة”و”النّصّ القرآني وآفاق الكتابة”، وتعرّض طه حسين للأمر في كتابه “في الصيف”؛ وطالب بدراسة القرآن جماليّاً أدبيّاً، بعيداً عن كونه كتاباً سماويّاً، وكلّ واحد من هؤلاء أضاء جانباً من جوانب الموضوع دون الغوص في بناء اقتراح جماليّ نظريّ أو أدبيّ يوازي القرآن الكريم، وتنبغي الإشارة إلى أنّ دراسة القرآن أدبيّاً أو بوصفه نصّاً أدبيّاً لا يعني- إطلاقاً- إلغاء اعتبار القرآن نصّاً إلهيّاً تشريعيّاً عقائديّاً، أو انتزاع قداسته وتأريضه بعد أن كان سماويّاً، هذه الدراسة التي تتجه إلى تكوين كتابة النصّ القرآني والحفر في أسسها الفنّيّة والكشف عن أساسيّاتها البنائيّة، وليس تلك الدراسات التي تنظر إلى القرآن نظرة سلطويّة فتبحث في أثر القرآن الكريم في الشعر، كما فعل- مثلاً-الدكتور شلتاغ عبّود شراد في كتابه “أثر القرآن في الشعر العربي الحديث”.

عموماً، في الفترة التي اصُطلح عليها أنّها فترة صدر الإسلام لم تنجب شعراء كباراً إسلاميّين إلّا من كانوا كباراً في الجاهليّة كحسّان بن ثابت، ولاستمرار حسّان بالشعر حكاية أو رواية خاصّة، تتّصل بعلاقة الشعر وتوظيفه باتجاه دعائي خدمة للدين الجديد لمحاربة العرب بطريقتهم هم، وليس بطريقة القرآن الكريم، فكان حسّان أشبه بالشاعر الأيديولوجي المكلّف بالدفاع عن الفكرة التي يؤمن بها وتسويقها، وهدم أفكار الآخر والحطّ منها وتشويهها، فحسّان حارب القوم على قاعدته الفكريّة منطلقاً من مسلماتهم هم لينقضها، لذلك ذهب لهذه المعركة، وهو مستعدّ ثقافيّاً لها، فتعلّم “هِنات القوم” من أبي بكر الصدّيق، وكذلك كان مؤيّداً روحيّاً بروح القدس؛ “اهجوهم وروح القدس معك”، كما نُقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

لعلّ عدم وجود شعراء كبار في تلك الفترة المقصودة في الحديث، وهي فترة صدر الإسلام، جاء نتيجة تأثّر العرب بالقرآن وصدمتهم الإبداعيّة على نحو عكسي، وقد فصّلتُ الحديث عن ذلك في كتابي “بلاغة الصنعة الشعريّة” في فصل خاصّ بالقرآن والشعر، فمن شاء الاستزادة فليراجع ذلك في موضعه من الكتاب (ص399-421)، وقد تجنّبتُ هنا أن أكرّر ما قلته في موضعه من الكتاب، وإنّما هو التأمّل أكثر في موضوع حيّ، وله أهمّيّته الكبيرة.

انتهت الصدمة الإبداعيّة للقرآن وانسلخ القرآن عن الوجدان الأدبي للمثقّف والشاعر العربي واستحوذ عليه المفسّرون وتراجع تناول القرآن من ناحية أدبيّة ما خلا عمل الجرجاني في نظرية النظم، أمّا الشعراء فعادوا إلى كلّ ميزات شعر الجاهليّة في عهد الأمويين موضوعاً ومبنىً وأحيوا القصيدة الجاهليّة بكلّ ما فيها من قيم جماليّة وموضوعيّة، ولا أظنّ أنّ ما كتب في إعجاز القرآن، بيانيّاً فيما بعد الجرجاني وما قبله، كان دافعاً لتأمّل ظاهرة الكتابة وأساليبها القرآنيّة. وعلى أيّ حال، فالموضوع يطول في هذه الناحية، وربّما وجد باحثون علاقة ما بين مباحث الإعجاز والنقد الأدبي، لكنّها على الأرجح لم تكن ذات اتّصال مباشر في التأثير الحقيقي في صنعة الكتابة، فظلّ الشعر سيّداًـ والقصيدة بعمودها الشعري هي العقد النظيم الجوهري لبلاغة الشاعر العربي، وربّما جاء اهتمام العرب بالنثر بفعل الترجمة والمؤثّرات العلميّة والتنظيم الإداري، وليس بفعل التأثّر بالقرآن الكريم. وبقيت الظاهرة القرآنيّة بعيدة عن التمثّل الفلسفي العميق في الكتابة العربيّة، ومن حاولوا الاستفادة منه وقعوا في فخّ التقليد الشكلي لآيات القرآن وأساليبه الجزئية، فجاءت الكتابة مضحكة ورديئة وغير مستقيمة، لأنّها تردّ المتلقي تلقائيّاً إلى القرآن فيستحضر النصّ القرآنيّ، فتبدأ عمليّة الموازنة، لتكون النتيجة تدني مستوى تلك الكتابات وسمو الأسلوب القرآنيّ.

إنّ الأهمّ من تقليد الجملة القرآنيّة هو الكشف عن القانون الإبداعي الذي انطلقت منه الظاهرة القرآنيّة الإبداعيّة، وليس الوقوف عند شكليّة النصّ الخارجيّة، والعناصر اللفظيّة المكوّنة للجملة، بمعنى آخر يجب أن نتأمّل كيف يمكن للكاتب أن يكتب نصّاً مغايراً بلغة معروفة ومفهومة، وكيف يجعل نصّه فريداً بإبداع طريقة جديدة للنظم تخالف ما تعارف عليه المجتمع الثقافي في الشكل الكلي للنصّ الجديد وفي طريقة تناول الموضوعات المطروحة بفلسفة خاصّة مغايرة، إنّ هذا يشبه تماماً أن تأتي بقرآن جديد، أي أنْ تأتي بنصّ لا يُقلّد ولا يُنقض، لكنّه يدفع الآخرين ليكتبوا نصوصهم التي لا تشبه إلّا نفسها، هذه المهمّة ليست سهلة أو متوفّرة إلّا في النادر القليل، ولذلك تجد الكتّاب (الإبداعيّون) كلّهم مقلّدين، ويحاكي بعضهم بعضاً، فتشابهت النصوص، وصار الجزء يغني عن الكلّ، في حين أنّه لا بديل عن القرآن أدبيّاً؛ فهو الفريد في صياغته وأسلوبه الكليّ، وربّما إلى هذا المراد كان يرمي عنترة العبسيّ عندما قال: “هل غادر الشعراء من متردّمِ”، فلعلّه كان يستشعر ذلك التكرار الفنّي الرتيب في حياة الشاعر العربي، فأصابه شيء من الملل والضيق، هذا الضجر الذي أعلنه زهير بن أبي سُلمى صراحةً بقوله:

ما أرانا نقول إلّا مُعاراً

 أو مُعاداً من قولنا مكرورا.

وأعاد المعنى نفسه عليّ بن أبي طالب في قوله: “لولا أنّ الكلام يُعاد لنفد” ما يعني أنّ الإحساس بالضجر استمرّ في عصر ما بعد “الجاهليّة. هذا الضجر الذي كسره جزئيّاً عمر بن أبي ربيعة في أشعاره التي جاءت بطريقة خطاب خارجة عن المألوف، فقال جرير في حقّه: “إنّ هذا الذي كنّا ندور عليه، فأخطأناه وأصابه هذا القرشي”. يبدو لي أنّ الإبداع لا بدّ له من أن يكسر جمود الاستقرار؛ لأنّ في ثباته ردحاً طويلاً في حياة الناس يحدث اعتياداً، والاعتياد عدوّ الدهشة دائماً، ما يؤدّي إلى فقدان الشهيّة للإنشاء والتلقّي معاً، فيصبح الأدب عبئاً على الحياة الثقافيّة، ولا يحقّق رسالته الفنّيّة السامية من وجوده، وهو المتعة في تذوّقه، ومن قبلُ، التجلّي في إنشائه، هذان هما الشرطان اللذان وجدا في النصّ القرآني، وقد عبّر عنهما الرسول الكريم بوصفه له بقوله: “لَا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عِبَرُهُ، وَلَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ”، فالقرآن إذاً نصّ إبداعيّ لا يُملّ؛ لأنّه متجدّد، متوالدٌ لا تنفد معانيه، ومتعته في التلقّي غير نهائيّة.

ولأجل كلّ ذلك استحسن العرب القرآن الكريم إلى حدّ الدهشة المُلْجِمة، ولامس شيئاً غائراً في نفوسهم وحاجة إبداعيّة فنّيّة كانوا يبحثون عنها، فلبّاها لهم القرآن الكريم، فهل من الممكن أن تكون هناك فتوحات نصّيّة جديدة تأتي بما لم يأتِ به الأوائلُ؟ كلّ ذلك ممكن، ووجود القرآن الكريم في حياة العرب بالطريقة التي جاء بها تؤشّر أنّه من الممكن أن يأتي المبدعون بنصوص على غير مثال سابق، كما كان القرآن الكريم، وهنا حسب ما أظنّ تكمن رسالة القرآن الإبداعيّة البليغة، فليس المطلوبُ من المبدعين نقض القرآن الكريم بكتابة تشبه القرآن وتقلّده، وليس هذه هي مهمّتهم على أيّ حال، بل إنشاء نصّ آخر يوازي القرآن إبداعيّاً بمواصفات جديدة ليس فيها من غيرها شيء إلّا ما عرف من ألفاظ، بوصفها المادّة الأصليّة لأيّ عمل إبداعيّ كما يعلّمنا القرآن ذلك ببلاغة واضحة لا تحتاج مزيداً من الشرح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى