ألبومات تحت أنقاض الذاكرة

ريمه العجاجي | فنانة تشكيلية وكاتبة سورية

مدينتي تعيش الماضي أكثر مما تعيش الحاضر؛ ذاكرتها مغموسة بدمارِ، وعَمَارِ، الغزاة والفاتحين، وأبهة قصور بني العباس وترفهم وعطورهم البرمكيّة…

المدينة التي لم تشأ أن تقفز من ماضيها وآثرت الاسترخاء على أرائك تاريخها القديم، وكمدينتي كنت تلك الصبية ابنة الماضي والزمن الثابت الغارق في سحره العتيق، وبين شقيقات هادئات راضيات بقوانين وتقاليد الأسرة الذكورية، كنت مشعلة حرائق اللامألوف والتمرد، صانعة الأحلام الصغيرة، وحائكة للفرح العابر في ضحكة مجتلبة من شقاوتي.

 شقيقي الذي كان يمتلك كاميرا تصوير، يمارس فيها هوايته في تثبيت الزمن من خلال صوره الفوتوغرافية الجميلة، والذي كان يمنعنا من ممارسة هذه اللعبة المشتهاة برفض لا يقبل التفاوض، قد بلغ به التطرف في الحفاظ على كاميرته حداً جعله يمنعنا من لمسِ أداته السحرية بل حتى من النظر إليها…فكان الشرارة التي قدحت زناد حلمي الصغير، ولابد لي أنا التي لا تخشى الأحلام ان أعقد اجتماعاً أنثوياً مصغّراً، وسريّاً، بين إناث العائلة لأقنعهن بتوفير مصروفنا الأسبوعي لشراء كاميرا نثبت بها صورنا في زمن يجري كسيل يجرف في طريقه أجمل لحظات من ذلك العمر الذي تكون فيه الأنثى فراشة ربيعية لا تثبت على غصن واحد أو زهرة معينة.

سحرتني الصور القديمة، المعلقة ببراويظها الفخمة، على جدران مضافتنا، لم تكن تلك الصور تستمد سحرها عندي من تعاقب اللونين الساحرين الأبيض والأسود، المتعاقبين في تكوينها كتعاقب الليل والنهار، ولا كان سحرها نابعاً من براويظها الثمينة ذات الألوان النحاسية المعتقة… كان شيئاً آخر ربما لا تسعف اللغة على شرحه.

أرواح، رائحة، وزمن ثابت خلق عندي ارتباطاً بهيبتها، يختلف تماما عن الشعور بهيبة صور الرؤساء وأبطال الثورات الوهمية، والانقلابات العسكرية، المعلقة في المضافات، والبيوت الأخرى والتي لم تكن الا درءاً لبطش السلطة وولاءات تصنعها صورة تخرب منظر جدران منزل، أو مضافة في مدينتي، لا يناسب تاريخ أهلها كل هذا النفاق الذي تحمله الجدران… أتنفس الصعداء حين أرى براءة جدران مضافتنا من تلك الصور المزيفة كبطولات أصحابها؛ أتلمّسُ صورة بالأبيض والأسود تتوشح إحدى زواياها العليا بشريط ريبان أسود، كأنني ألمس صاحب الصورة وأشم تاريخه الأبيض وكأن من التقط تلك الصورة لم يجد غير الصور ليواري بها جثمان ذاكرة بعيدة كمن يجعل من قصائده وقصصه مقبرة للكلمات فيقع في كمينها لاحقاً

أخيراً وبعد أسابيع عجاف جمعنا ثمن الكاميرا، اشتريناها من محل تصوير مشهور… لم يبق إلا أن نحقق الحلم الذي كان على وشك الولادة…

كان التحضير لالتقاط اللحظة يبدأُ باختبار، ماركة الفيلم فالأفلام تختلف من حيث الجودة وكوداك كان الخيار الأول .. وتعلم الطريقة المثلى لتركيبه داخل الكاميرا، عدم سحب جزء كبير منه للخارج عند التركيب خشية تسرب الضوء لعلبة الفيلم التي يختبأُ فيها شريط شفاف مائل للأسود فالشمس تعتبر ألد أعدائه، وكما علّمنا صاحب الاستديو، ثم إغلاق باب الكاميرا كأننا نضع الفرح في مطمورة مؤقتة، ولنجرب أول صورة بكبسة زر تشبه إطلاق رصاصة أولى على رأس الزمن الذي يستسلم فيقع جامداً على سطح الفيلم الأسود الشفاف داخل الكاميرا…متناسية حقيقة مقولة اندريه جيد <<لا تهيء أفراحك >> كأن به يقول إنّ تهيئة الأفراح لابد أن يقتحم ذاكرتنا ذات عمر قادم.

أول صورة، فالثانية، تتوالى الصور تباعاً.

نقوم بتثبيت اللحظات، مهرجانات فرح ترافق كل مرحلة.

انتهاء الفيلم يجلب فرحة اقتراب ظهور الصور المطبوعة على ورق مصقول والتي تحمل اللحظة التي لا نريد لها أن تتسرب في نفق الماضي، ثم فرحة تسليم الفيلم لاستديو التحميض، وتأجيل فرح استلام الظرف الذي يحتوي على ذاكرتنا المحفوظة.

حين تأتي تلك اللحظة نبدأ نحن الشقيقات بالعرض لصدمات الفرح والدهشة التي تعترينا لأول وهلة؛ نرى فيها صورنا غير الاحترافية، فأنا مسرورة بصوري بينما شقيقتي تلعن استديو التحميض الذي شوه وجهها وجمال عينيها في الصورة..

غالباً بعضنا لا يصدق أو يعترض على أنّ هذه صورته…أو ربما لا تعجبنا أشكالنا في الصور إلى أن نقتنع لاحقاً إنها لنا وأن استديو التحميض لم يشوه شيئاً فيها فالصورة لم ترتكب ذنباً سوى تثبيت اللحظة دون النظر لنوايانا وخيالاتنا اتجاه أنفسنا وكيف نراها، نعم هؤلاء نحن بدون تزييف، دون تقنيات أجهزة التصوير الحديثة التي تجمل، تفلتر وتصنع منا نماذج مزيفة لا تفعلها الكاميرات القديمة..

تتوالى الأيام والسنين هاذبة كخيول برية، تتسرب الأيام من كف الزمن، وألبومات الصور القديمة، تقبع في درج خزانة خشبية قاومت الزمن، خزانة مصنوعة من خشب اصلي غير مزيف باختراعات الصناعات الحديثة طقس عائلي لابد أن يتكرر، كلما مرّت مزنةُ حنين عابرة على رأس أحدنا هاطلة على تراب القلب في شهية لرطوبة ندية تجلبها صورة ما لزمن تم تثبيته على الورق المصقول، احتفظ بتلك اللحظة ليشهرها في وجوهنا كخنجر لذيذ الوخز.

خزانة تحتوي في أحد أدراجها ألبوم الصور المهترئ الأطراف.

فتح ألبوم الصور يعني بيدرة الذكريات، وإعادة تحميلها على الذاكرة القريبة، حين نتعثر بصورة عزيز ميت من الأحبة يتحول الألبوم إلى مستودع وجع غامرتَ انتَ وحدكَ بفتحه ونفض غبار لحظة فائتة من توقيت لن يعود ،عندها لا يملك أفراد العائلة الذين تجمعوا حول الألبوم كأطفال يتزاحمون حول صندوق الدنيا بانتظار نافذةِ الدهشة ، غير استجلاب الحزن ولابأس بدموع صامتة، أو نعاوة طرية الحزن ترددها أمي، وأما حين تصادف إحدانا صورة طفلها البكر وقد صورت دبيبه الأول على الأرض، فطقس اللحظة أيضاً يحتّم ابتسامات وتعليقات على الصور، تعيد لزمن ماض شيئاً من البريق فيما الولدُ البكر الذي أصبح شاباً يحاول إيقاف تقليب الصفحات ليسمع وقع خطوته الأولى.

 تتوقف إحدى شقيقاتي عند صورة زفافها، فيجمح القلب كحصان نافر من حظيرته لبراري واسعة مغطاة بعشق أخضر، تتوالى الصفحات بين دهشة اللحظة وحزن مقيم وفرح عبر إلى ضفّةِ الصمت، يعيد الألبوم استحضار كل ما كان يحيط باللحظة المثبتة على صورة مطبوعة على الورق برائحة موجعة، نسمع في الصور ضحكاً، مزاحاً، شقاوةً، صوتاً ونواحاً، نجرب لوهلة ان نشْتَمَّ رائحة زمن مضى

يُعَادُ الألبوم إلى درجه القديم، ليبقى في زمن لاحق وحيداً بين أنقاض بيت مدمر، هجرناه وقد انتزع صاروخ عابث أو برميل متفجر غبي ذاكرتنا التي تعبنا في جمعها يوما ما، وقد حدث للكثيرين غيرنا أن تبقى العائلة مع ألبوم الصور تحت ركام منزلٍ منسي تعبث فوق أشلائه رياح سوداء، وقد ولج أهله بوابة النسيان فتبخروا كأنهم غيوم مسافرة، وبقي صدى أغنية توثق هذا العدم :

/ظلّت بس صورهم

ما نعرف خبرهم

راحوا من ادينا…. شگد بچينا

ومايرجعون/.

وكما أن صور الورق أكثر ثباتاً وأوجع وقعاً على قلوبنا ، كذلك صورنا المفلترة بأجهزة الهواتف الذكية تبدو أقل قيمة وأقل ثباتاً فصورة لا يحتضنها ورق التصوير المصقول، و ألبوم الصور، تبقى صوراً باهتةً لا ملوحة لها، لا طعم ولا رائحة، نحذفها بالضغط على زر واحد delete… ونستعيدها بتطبيق آخر.

في غياب تلك اللحظة التي نحزن فيها على ضياع صورة أو تلفها كأننا فقدنا معها الزمن الذي تم تعليبه على الورق.

من المؤكد أن صورنا التي نحتفظ بها في تطبيقات الصور وذاكرة الهاتف الذكي تختلف كثيراً عن صورنا داخل البوم مهترئ الأطراف، ألبوم في درج خزانة قديمة، الخزانة القديمة وأصحابها تحت انقاض منزل مدمر

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شكراً مزهرة لجريدة عالم الثقافة والقائمين عليها
    مع تمنياتي لكم بعام مليئ بالنجاح والتميز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى